سورة القصص تفسير مجالس النور الآية 31

وَأَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَاۤنࣱّ وَلَّىٰ مُدۡبِرࣰا وَلَمۡ یُعَقِّبۡۚ یَـٰمُوسَىٰۤ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡـَٔامِنِینَ ﴿٣١﴾

تفسير مجالس النور سورة القصص

المجلس الثالث والسبعون بعد المائة: موسى والمهمة الكبيرة


من الآية (29- 43)


أتمَّ موسى الأجلَ ووفَّى بالشرط، ثم سار بأهله لتبدأَ في الطريق مرحلةٌ أخرى، هي المرحلة الفاصِلةُ في تأريخه عليه السلام؛ حيث اختاره الله رسولًا إلى فرعون وملَئِه، وفيما يلِي ومَضَات من هذه المرحلة المباركة:
أولًا: في طريقه مع زوجته بعد أن أتمَّ لأبيها الأجل، شاهد نارًا على جانب الطور، فترك أهلَه واتَّجه نحو النار؛ لعلَّه يجد فيها مَن يدُلُّه على الطريق، أو يأخذ منها جذوةً لحاجته وحاجة أهله ﴿۞ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦۤ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارࣰاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤاْ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ﴾.
ثانيًا: هناك على النار كانت اللحظة التاريخيَّة التي يقِفُ العقلُ أمامها عاجزًا عن إدراك كُنهها، مُنبِهرًا بآثارها ونتائجها ﴿فَلَمَّاۤ أَتَىٰهَا نُودِیَ مِن شَـٰطِىِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَیۡمَنِ فِی ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَـٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن یَـٰمُوسَىٰۤ إِنِّیۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
ثالثًا: وفي تلك اللحظة أيضًا أظهَرَ الله لنبيِّه آيتَين من آياته مقترنَتَين بتكليفٍ إلهيٍّ مُباشر مُؤذِنٍ ببداية الصراع الطويل والمرير مع جبهة الباطل التي كان يقودها فرعون وملؤه ﴿وَأَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَاۤنࣱّ وَلَّىٰ مُدۡبِرࣰا وَلَمۡ یُعَقِّبۡۚ یَـٰمُوسَىٰۤ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡـَٔامِنِینَ ﴿٣١﴾ ٱسۡلُكۡ یَدَكَ فِی جَیۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَیۡضَاۤءَ مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲ وَٱضۡمُمۡ إِلَیۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَ ٰ⁠نِكَ بُرۡهَـٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِیْهِۦۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ﴾.
رابعًا: عرض موسى عليه السلام ضعفَه البشريَّ بتواضع العبد لخالقه، داعيًا منه سبحانه أن يُعضِّدَه بأخيه هارون عليهما السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّی قَتَلۡتُ مِنۡهُمۡ نَفۡسࣰا فَأَخَافُ أَن یَقۡتُلُونِ ﴿٣٣﴾ وَأَخِی هَـٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّی لِسَانࣰا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِیَ رِدۡءࣰا یُصَدِّقُنِیۤۖ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ﴾.
خامسًا: استجابَ الله لموسى سُؤلَه، وزاده طمأنةً وتثبيتًا: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِیكَ وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یَصِلُونَ إِلَیۡكُمَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۚ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾.
سادسًا: بلَّغ موسى عليه السلام رسالةَ ربِّه، فردُّوه وكذَّبوه واتَّهمُوه بالسحر ﴿فَلَمَّا جَاۤءَهُم مُّوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالُواْ مَا هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّفۡتَرࣰى وَمَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِیۤ ءَابَاۤىِٕنَا ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿٣٦﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّیۤ أَعۡلَمُ بِمَن جَاۤءَ بِٱلۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾.
سابعًا: تمادى فرعون في غيِّه، وراح يُسخِّر طاقات أُمَّته فيما لا طائل ولا فائدة منه، سوى إشباع غروره ونهَمِه في الاستعلاء على قومه واستعبادهم ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی فَأَوۡقِدۡ لِی یَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّینِ فَٱجۡعَل لِّی صَرۡحࣰا لَّعَلِّیۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّی لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ ﴿٣٨﴾ وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمۡ إِلَیۡنَا لَا یُرۡجَعُونَ﴾.
ثامنًا: حَكَمَ الله عليهم كما حَكَمَ على المكذِّبين من قبلهم بالهلاك الدنيوي والعذاب الأخروي ﴿فَأَخَذۡنَـٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡیَمِّۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿٤٠﴾ وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا یُنصَرُونَ ﴿٤١﴾ وَأَتۡبَعۡنَـٰهُمۡ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا لَعۡنَةࣰۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِینَ﴾.
تاسعًا: أكَّد الله اصطفاءَ موسى لتلك المرحلة الحرجة من التاريخ البشري، وتأييده له بالتوراة التي جعلها الله هدًى ورحمةً، كما اصطفى الأنبياء السابقين، في إشارةٍ إلى وحدة الرسالة السماويَّة لدى كلِّ المرسلين مهما اختلفت أسماؤهم وطبيعة أقوامهم ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ﴾.


﴿ءَانَسَ﴾ أبصَرَ ووجدَ، وفي اللفظة معنى الأُنس والارتياح.
﴿جَانِبِ ٱلطُّورِ﴾ جهة الجبل الذي يقال له: الطور.
﴿لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ﴾ لعلِّي أجِدُ على النار مَن يُخبرني عن الطريق المؤدِّي إلى مصر.
﴿أَوۡ جَذۡوَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ﴾ قبَسٌ من النَّار ينفعُكم في الدفءِ ونحوه.
﴿شَـٰطِىِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَیۡمَنِ﴾ طرف الوادي الذي على يمين موسى عليه السلام.
﴿مِنَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ من جهة الشجرة، وتجتمع هنا معالم تلك الأرض المباركة التي سمع فيها موسى نداء ربِّه؛ جبلٌ اسمه الطور، ووادٍ، وشجرة.
﴿تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَاۤنࣱّ﴾ ذَكرَ المفسِّرون هنا أنَّ العرب تطلق الجانَّ على ضَربٍ من الحيَّات معروف بسرعة الحركة، ولا يبعُد أنَّه أرادَ واحدَ الجنِّ؛ لما هو معهودٌ في أذهان الناس مِن خِفَّتِهِم وسرعة حركتِهِم، ويُعضِّدُ هذا أنَّ العصا قُلِبَت حقيقةً إلى حيَّة، فكان تشبيهُها بالجنِّ أقربَ من تشبيهها بالحيَّة، والله أعلم.
﴿وَلَّىٰ مُدۡبِرࣰا وَلَمۡ یُعَقِّبۡۚ﴾ هرَبَ خائفًا مما حصل لعصاه ولم يرجع.
﴿ٱسۡلُكۡ یَدَكَ فِی جَیۡبِكَ﴾ أدخِل يدك في جيبك.
﴿مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲ﴾ من غير عاهةٍ ومرضٍ.
﴿وَٱضۡمُمۡ إِلَیۡكَ جَنَاحَكَ﴾ أصلُ الجناح للطائر، واستُعِير هنا لليد؛ تشبيهًا بحال الطائر حينما يضم جناحه إلى نفسه.
﴿مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ﴾ من الخوف، ومعناه أنَّك إن خِفتَ من منظر يدك ووهجها، فَضُمَّها إليك مرَّةً أخرى ترجع إلى طبيعتها.
﴿فَذَ ٰ⁠نِكَ﴾ إشارة إلى العصا واليد.
﴿وَأَخِی هَـٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّی لِسَانࣰا﴾ اعترف بفضل أخيه وتميُّزه عليه في الفصاحة والبيان، رغم فضل موسى المطلق وتقدُّمه عليه، وهذا من الإنصاف وجميل الخُلُق، وفيه أيضًا أهميَّة الفصاحة والبيان في الدعوة إلى الله.
﴿رِدۡءࣰا﴾ مُعينًا ومُؤيِّدًا.
﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِیكَ﴾ سنُقوِّيك ونشدُّ عزمَك بأخيك، وفيه إشارةٌ أنَّ الداعية في مهمته الكبيرة بحاجةٍ إلى المُعين، والأخ العَضِيد.
﴿وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَـٰنࣰا﴾ بُرهانًا ومنَعَةً.
﴿فَلَا یَصِلُونَ إِلَیۡكُمَا﴾ لا يمسُّونكما بسوء.
﴿أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ وعدٌ إلهيٌّ، وقد تحقَّقَ بهلاك فرعون وجُنده، ونجاة موسى وهارون عليهما السلام وقومهما.
﴿وَمَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِیۤ ءَابَاۤىِٕنَا ٱلۡأَوَّلِینَ﴾ سببٌ من أهمِّ أسباب الضلال والجمود، ذلك هو التمسُّك الأعمى بموروث الآباء والأجداد دون تفكيرٍ ولا تمييزٍ.
﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی﴾ كلمة تهتزُّ لها الرواسي، وتشيب لها النواصي، فهذا المخلوق الذي لا يستغني عن لقمة الخبز، وشَربة الماء، ومُعاودة بيت الخلاء في الصباح والمساء، يقِف مُنتفِشًا ومُنتشِيًا بين ملَئِه وحاشيته بعد أن غطَّى عورَتَه بثوبٍ من صُنع الفقراء والبؤساء، ليُعلِنَ أنَّه الإله الأوحد!
ثم يُصدِّقُه الغَوغاء من كلِّ أعمى قلبٍ، ومطموس بصيرةٍ، يلهَثُون خلف فُتاته وما تجودُ به لهم يدُه، ولو أعملوا عقولهم لعلموا أنّه يتصدَّق عليهم مما سرقه منهم، ومن ثروات بلادهم.
إنَّها صورة مُكرَّرة تعكِس علاقةَ الحاكم بالمحكوم في المجتمعات المُتخلِّفة التي يُعشعِشُ فيها الجهل، فينهض فيها الفساد والاستبداد، ويكثُر فيها التزلُّف والنفاق.
﴿فَأَوۡقِدۡ لِی یَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّینِ﴾ حيث يتحوَّل الطين بالنار إلى حجارةٍ صلبةٍ، ويُسمَّى الآجُرّ أو الطين المفخور، فيكون أصلَحَ للبناء وأدوَمَ من اللَّبِن، وهامان كان وزيرًا لفرعون.
﴿فَٱجۡعَل لِّی صَرۡحࣰا﴾ بناءً عاليًا ومُشرفًا.
﴿لَّعَلِّیۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ﴾ وهذا من سخف عقله إن كان يعتقد أنَّه بطينه المفخور سيبلُغُ السماء، ولا يبعُد أنَّه إنَّما أراد إشغال الناس وإلهاءهم بهذا البناء عن حديث موسى عليه السلام وما جاء به من الآيات الباهرات، ولأنَّ البناء يأخذ وقتًا طويلًا، وجهدًا كبيرًا، فهو أدعى لتحقيق الغرض.
وهذه طريقةٌ شائعةٌ عند الملوك لإشغال رعيتهم وإلهائهم، وليس هناك من معلومات يمكن اعتمادها في حقيقة هذا الصرح، وهل تمَّ بناؤه بالفعل أو لا.
﴿وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمۡ إِلَیۡنَا لَا یُرۡجَعُونَ﴾ فيه تأكيدٌ للربط بين التكبُّر والبغي بغير الحقِّ وبين نكران الآخرة والشكِّ بعقيدة الحساب والجزاء.
﴿فَنَبَذۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡیَمِّۖ﴾ ألقَيناهم في البحر.
﴿وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ﴾ قادة يأخذون بأيدي من اتبعهم إلى النار.
﴿وَأَتۡبَعۡنَـٰهُمۡ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا لَعۡنَةࣰۖ﴾ خِزيًا ومهانةً وهلاكًا.
﴿وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِینَ﴾ المنبوذين والمعذَّبين في نار جهنَّم.
﴿بَصَاۤىِٕرَ﴾ جمع بصيرة، بمعنى أنَّ التوراة كتابُ علمٍ يُبصِّرُ الناس بطريقهم، ويُرشِدُهم إلى ما فيه خيرُهم.