سورة القصص تفسير مجالس النور الآية 60

وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتُهَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ﴿٦٠﴾

تفسير مجالس النور سورة القصص

المجلس الخامس والسبعون بعد المائة: وعد المؤمنين ووعيد المكذِّبين


من الآية (58- 75)


عقيدةُ الجزاء هي العقيدة التي تدفع باتجاه التفكير الجادِّ بالمنهج الذي يُحقِّقُ الغايةَ المنشودة في تحقيقِ السعادة الدائمة، ودرء العذاب والشقاء، ومِن ثَمَّ نرى هذا التركيز والتأكيد في عرض هذه العقيدة في أغلب سور القرآن، وفي حوارات القرآن مع المُكذِّبين والمُعانِدين بشكلٍ خاص، وهنا نموذجٌ لمنهجيَّة القرآن هذه:
أولًا: ذكَّر القرآنُ المشركينَ بعاقبة القرى المكذِّبة، والتي دفعها البطر والترف إلى هذا التكذيب، فعجَّل الله بهلاكها ﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡیَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِیشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَـٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِیلࣰاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَ ٰ⁠رِثِینَ﴾.
ثانيًا: أكَّد القرآن عقيدةَ العدل الإلهي، وأنه سبحانه لا يُعذِّب أمَّةً إلا بعد بيان الحق لها، وإقامة الحجة عليها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ یَبۡعَثَ فِیۤ أُمِّهَا رَسُولࣰا یَتۡلُواْ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾.
وفي هذا ردٌّ على كل التصوُّرات الخاطئة عن عقيدة القَدَر، والتعذُّر بها عن كل انحراف وخطيئة وكفر، فالإنسان هو الذي يُسعِد نفسه أو يظلِمها، وهو الذي يختارُ طريقَ الحق أو طريقَ الضلال.
ثالثًا: قارَنَ القرآن بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وبين أهل الوعد وأهل الوعيد ﴿وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتُهَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ﴿٦٠﴾ أَفَمَن وَعَدۡنَـٰهُ وَعۡدًا حَسَنࣰا فَهُوَ لَـٰقِیهِ كَمَن مَّتَّعۡنَـٰهُ مَتَـٰعَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا ثُمَّ هُوَ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِینَ﴾.
رابعًا: نقل القرآن لنا مشهدًا من مشاهد المشركين في الآخرة؛ حيث يُنادِيهم الحقُّ سبحانه على سبيل التهكُّم واللَّوم والتقريع، ويسألهم عن أصنامهم وآلهتهم المزيَّفة، فيُقِرُّون بخَيبَتِهم وخسارتهم، وضلال عقولهم: ﴿وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِیَ ٱلَّذِینَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ ﴿٦٢﴾ قَالَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ رَبَّنَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَغۡوَیۡنَاۤ أَغۡوَیۡنَـٰهُمۡ كَمَا غَوَیۡنَاۖ تَبَرَّأۡنَاۤ إِلَیۡكَۖ مَا كَانُوۤاْ إِیَّانَا یَعۡبُدُونَ ﴿٦٣﴾ وَقِیلَ ٱدۡعُواْ شُرَكَاۤءَكُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ یَسۡتَجِیبُواْ لَهُمۡ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ لَوۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ یَهۡتَدُونَ﴾.
خامسًا: ثم ينقل القرآن مشهدًا آخر يُنادَى فيه على كافَّة الخلق بنداء واحد، وسؤال واحد: ماذا أجَبتُم المرسلين؟ وهذا السؤال هو الفيصلُ بين أهل الحق وأهل الضلال، بين السعداء الناجين بإيمانهم واستجابتهم، وبين الهالكين بتكذيبهم وعنادهم ﴿وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿٦٥﴾ فَعَمِیَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَنۢبَاۤءُ یَوۡمَىِٕذࣲ فَهُمۡ لَا یَتَسَاۤءَلُونَ ﴿٦٦﴾ فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَعَسَىٰۤ أَن یَكُونَ مِنَ ٱلۡمُفۡلِحِینَ﴾.
سادسًا: يُذكِّر القرآن هنا بمعاني التوحيد الكليَّة: توحيده في الخلق، وتوحيده في الحكم، وتوحيده في أسمائه وصفاته؛ إذ التوحيد هو عنوان الصراط المستقيم الذي يُفرِّق بين أصحاب الجنَّة، وأصحاب الجحيم ﴿وَرَبُّكَ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُ وَیَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ ﴿٦٨﴾ وَرَبُّكَ یَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا یُعۡلِنُونَ ﴿٦٩﴾ وَهُوَ ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡأُولَىٰ وَٱلۡأَخِرَةِۖ وَلَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾.
سابعًا: يقيم القرآن الحجَّةَ البالغة على وحدانيَّته سبحانه، وأنه هو وحده الذي يخلُقُ هذا الكون ويُسيِّرُه، ويُحكِم نظامه ﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمُ ٱلَّیۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِضِیَاۤءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ ﴿٧١﴾ قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِلَیۡلࣲ تَسۡكُنُونَ فِیهِۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ﴿٧٢﴾ وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِیهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾.
ثامنًا:يعود القرآن إلى أصل الموضوع ليُذكِّر بذلك اليوم المشهود، والنداء الذي يخطِف الأبصار ويذهب بالألباب؛ حيث تنكشف الحقيقة كما هي، ويُقِرُّ الجميع بالحق الذي لا يملكون سبيلًا لإنكاره أو الصدود عنه ﴿وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِیَ ٱلَّذِینَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ ﴿٧٤﴾ وَنَزَعۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةࣲ شَهِیدࣰا فَقُلۡنَا هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡ فَعَلِمُوۤاْ أَنَّ ٱلۡحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾.


﴿بَطِرَتۡ مَعِیشَتَهَاۖ﴾ كفَرَت بنعمة الله وطغَت فيها.
﴿وَكُنَّا نَحۡنُ ٱلۡوَ ٰ⁠رِثِینَ﴾ عاد مُلكُهم لنا بانقطاعهم عن آخرهم، فلم يبق لهم وارث.
﴿حَتَّىٰ یَبۡعَثَ فِیۤ أُمِّهَا﴾ في أعظمها أو أهمِّها.
﴿وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، ودفع لأيِّ شُبهة أو توهُّم.
﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ﴾ أي: الآخرة
﴿خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤۚ﴾ مما هو عندكم في الدنيا.
﴿أَفَمَن وَعَدۡنَـٰهُ وَعۡدًا حَسَنࣰا﴾ هو وعدُ الجنَّة ونعيمها.
﴿كَمَن مَّتَّعۡنَـٰهُ مَتَـٰعَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا ثُمَّ هُوَ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِینَ﴾ للحساب، بمعنى: هل يستوي ذلك الموعود بالجنَّة والسعادة الدائمة بهذا الذي تمتَّع بالدنيا وزينتها، ثم أحضَرناه للحساب؟
﴿وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِیَ ٱلَّذِینَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ﴾ والمنادي هو الله الجليل تعالى، ونداؤه هناك بالصفة التي تَلِيقُ به، وحسبُنا أن نصمت ونتدبَّر في مدلول ذلك النداء الذي يخلع القلوب.
﴿قَالَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ﴾ أي: الوعيد بالعذاب.
﴿رَبَّنَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَغۡوَیۡنَاۤ أَغۡوَیۡنَـٰهُمۡ كَمَا غَوَیۡنَاۖ﴾ اعتِرافٌ وندمٌ ما بعده ندم، وحسرةٌ ما بعدها حسرة، فهؤلاء قادةُ الغواية والضلال يعترفون أنهم قد ارتكبوا الغواية مرَّتين: مرَّة بغواية أنفسهم، والأخرى بإغواء أتباعهم.
﴿تَبَرَّأۡنَاۤ إِلَیۡكَۖ﴾ منهم، فلم يعُد بيننا حبلٌ من الصلة والود.
﴿مَا كَانُوۤاْ إِیَّانَا یَعۡبُدُونَ﴾ لأنهم إنما كانوا يتقرَّبون منا ويستجيبون لنا ابتغاءَ الجاه والمتاع، فهم بذلك إنما عبدوا أهواءهم.
﴿وَقِیلَ ٱدۡعُواْ شُرَكَاۤءَكُمۡ﴾ على سبيل التوبيخ والتقريع.
﴿لَوۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ یَهۡتَدُونَ﴾ جوابه محذوف ومفهوم من السياق، ومعناه أنهم لو كانوا يهتدون ويطلبون الهداية لما وصلوا إلى هذه الحال.
﴿فَعَمِیَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَنۢبَاۤءُ﴾ بُهِتوا ولم يَحِيروا جوابًا، ولم يجدوا قولًا أو خبرًا يُجِيبون به، ولا يعلَمون ماذا ينتظرهم بعد هذا السؤال: ﴿مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾؟ ولا يستطيع أحدُهم أن يسأل الآخر أو يُعينه بجوابٍ ﴿فَهُمۡ لَا یَتَسَاۤءَلُونَ﴾.
﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا﴾ بمعنى أن هؤلاء هم الذي أجابوا الرسل في حياتهم الدنيا، فهم يعرفون الجواب لهم في الآخرة.
﴿وَرَبُّكَ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُ وَیَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُۚ﴾ فيه إشارةٌ لسببٍ من أسباب صدود المشركين عن الرسل عليهم السلام؛ إذ تمنَّوا على الله أن يُرسِل غيرهم، فكان هذا سببًا في ضلالهم وكِبرهم وحسدهم.
﴿سَرۡمَدًا﴾ دائمًا.
﴿مَنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِضِیَاۤءٍۚ﴾ بنهار تَسعَون فيه لشؤونكم وأسباب رزقكم.
﴿لِتَسۡكُنُواْ فِیهِ﴾ أي: في الليل.
﴿وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ أي: في النهار.
﴿وَنَزَعۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةࣲ شَهِیدࣰا﴾ أخرجنا من كل أمة شاهدًا يشهَد عليهم.
﴿وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾ تأكيد أن ما كانوا عليه من الضلال لم يكن عن نظر وفكر، وإنما كانوا يكذِبُون على أنفسهم، ويعلَمُون أنهم يكذِبُون.