المجلس السابع والسبعون بعد المائة: فتنة الاختبار والتمحيص
من الآية (1- 13)
الاختبار مقصدٌ من مقاصِد خلق الإنسان، يتناسَبُ مع وظيفته وطبيعة تكوينه، وغاية الاختبار: التمحيص والتمييز بين الصالح والطالح ﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ﴾ [الملك: 2].
وفي هذه السورة تأكيدٌ لهذا المقصد في حقِّ الناس أجمعين، وفي حقِّ المُنتسِبِين منهم للإيمان أيضًا، وهذه معالم هذا المقصد العظيم كما بيَّنَتْه فواتحُ هذه السورة:
أولًا: دَفَعَ القرآنُ توهُّم بعض المُنتسِبِين للإيمان أنَّ دعواهم هذه تُخرِجُهم من دائرة الابتلاء والاختبار ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤاْ أَن یَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُواْ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ فهذه سنَّةٌ إلهيَّةٌ ثابتةٌ في الناس كافَّة لا تستثنِي أحدًا، ولا يفلِت منها أحد.
ثانيًا: أكَّدَ القرآن أنَّ الإنسان مجزِيٌّ بعمله، وأنَّ الذين يقترِفُون السيئات سينالُون عقابهم ولن يجدوا لهم مَهرَبًا أو مَخرَجًا ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن یَسۡبِقُونَاۚ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ﴾.
ثالثًا: أكَّد القرآنُ أنَّ العامل إنَّما يعمل لنفسه، فما يزرعه يحصده، والله غنيٌّ عن العالمين، فلا ينتفع مِن صلاحهم، ولا يتضرَّر مِن فسادهم ﴿مَن كَانَ یَرۡجُواْ لِقَاۤءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَـَٔاتࣲۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ ﴿٥﴾ مَن كَانَ یَرۡجُواْ لِقَاۤءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَـَٔاتࣲۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ﴾.
رابعًا: أكَّد القرآن سعة رحمة الله، وعظيم عفوه لمَن أقبل عليه تائبًا، واستقام على الطريق الذي يُرضي الله سبحانه ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَحۡسَنَ ٱلَّذِی كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾.
خامسًا: بيَّن القرآن أنَّ موضوعَ الاختبار لا ينحصر في الشعائر التعبُّدية؛ من صلاةٍ وصيامٍ ونحوهما، بل هو مساحةٌ أوسع تشمل كلَّ حياة الإنسان ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۤۚ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٨﴾ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُدۡخِلَنَّهُمۡ فِی ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾.
وجاء تخصيصُ الوالدَين؛ لأنَّهما الأقربُ والأَولَى بالبِرِّ، فمَن قصَّرَ معهما كان مع غيرهما أجرَأ على التقصير.
سادسًا: بيَّن القرآن طبائِعَ بعض النفوس الضعيفة التي تتَّجه قلوبها نحو المصالح الآنيَّة، فهم مُتردِّدُون بين طاعة الله وطاعة البشر، وبين الخوف من الله والخوف من البشر، وهذا يعني أنَّ عقيدتهم في الله مرتبكة ومهزوزة؛ ولذلك فهم يدورون مع شهواتهم ورغباتهم أين ما تكون، في طريق الرحمن أو في طريق الشيطان ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَاۤ أُوذِیَ فِی ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱلـلَّــهِۖ وَلَىِٕن جَاۤءَ نَصۡرࣱ مِّن رَّبِّكَ لَیَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِی صُدُورِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
سابعًا: أكَّد القرآن أنَّ علم الله الشامل والكامل مُحيطٌ بسلوك الإنسان وخَلَجات نفسه، فلا يختلط عليه سبحانه إيمانُ المؤمنين بدعاوى المنافقين ﴿وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ﴾.
ثامنًا: نبَّه القرآن إلى سببٍ من أسباب السقوط في هذا الاختبار؛ حيث يتصدَّى دُعاةُ الباطل للغافلين من الناس، يُرغِّبونهم بالباطل، ويُطمئِنونهم أنَّهم يتحمَّلون عنهم كلَّ شيءٍ، كما يفعل اليوم من يُسمُّون أنفسهم برجال الدين والمراجع الدينيّة، وكثيرٍ من المُفتِين الذين يدعون الناس لاتِّباعهم من غير تفكيرٍ، ولا سؤالٍ، ولا استدلالٍ ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِیلَنَا وَلۡنَحۡمِلۡ خَطَـٰیَـٰكُمۡ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِینَ مِنۡ خَطَـٰیَـٰهُم مِّن شَیۡءٍۖ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾.
﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤاْ أَن یَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ﴾ تأتي الفتنة لمعانٍ مختلفة، منها: الرِدَّة عن الدين كلِّه أو بعضه، ومنها: الفساد والاضطراب العام، لكنها هنا جاءت بمعنى الاختبار، وهو من أجلى مقاصِد الخلق.
وفي الآية دفعُ توهُّم من يتوهَّم أن المؤمن مُعافَى من الابتلاء؛ إذ المؤمن يعيش في هذه الحياة وهو مُعرَّض لعوارضها، ويُبتلَى في نفسه وأهله وماله كما الناس يُبتلَون، لكنه إنما يتميَّز عنهم بالصبر على المصيبة، والشكر على النعمة، فهما جناحَا النجاح، ومبعث السعادة والفلاح. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ﴾ تأكيد أنَّها سنَّة ماضية لا تستثني أحدًا ولا تُحابِيه. ﴿لَنُدۡخِلَنَّهُمۡ فِی ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ لندخلنَّهم الجنَّة في زُمرة الصالحين. ﴿جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱلـلَّــهِۖ﴾ يعني أنّه يخشى من عذاب الناس كما يخشى من عذاب الله، وهذا دليلُ جهلِه أو ضعفِ إيمانِه، ولا شكَّ أنَّ هذا التصوُّر الخاطئ سيُنتِج نفوسًا مُتردِّدةً تسقُط في أوَّل اختبار. ﴿وَلَىِٕن جَاۤءَ نَصۡرࣱ مِّن رَّبِّكَ لَیَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ﴾ طلبًا للغنيمة المادية أو المعنوية، وهو ديدَنُ المنافقين والمُتردِّدين واللاهِثين خلف مآربهم أينما اتَّجَهت. ﴿وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ﴾ وَعِلمُ اللهِ سابقٌ على كلِّ ذلك، فلا يحدُّه مكان، ولا يمنعه زمان، وإنَّما المقصود تجلِّي علمه تعالى في واقع الناس وسلوكهم بما يُقيم الحجة عليهم، ولا يدَعُ عُذرًا لمُعتذِرٍ. ﴿وَمَا هُم بِحَـٰمِلِینَ مِنۡ خَطَـٰیَـٰهُم مِّن شَیۡءٍۖ﴾ فكلُّ إنسان مجزِيٌّ بعمله، ومسؤولٌ عن نيته واختياره. ﴿وَلَیَحۡمِلُنَّ أَثۡقَالَهُمۡ وَأَثۡقَالࣰا مَّعَ أَثۡقَالِهِمۡۖ﴾ لأنَّهم كانوا سبَبًا في ضلال الآخرين، فتحمَّلُوا وِزرَ الضلال ووِزرَ الإضلال. ﴿وَلَیُسۡـَٔلُنَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ عَمَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾ سؤالُ تقريعٍ وتوبيخٍ، وفيه: أنَّ ضلالَهم وإضلالَهم لم يكن عن نظرٍ وفكرٍ، بل كان عن كذبٍ وافتراءٍ.