بعد بيان مقصِد الخلق في الابتلاء والاختبار، والتمييز والتمحيص، انتقل القرآنُ إلى النماذج العمليَّة التي قسَّمَت الناس بالفعل إلى ناجِحِين وخاسِرِين، والتي أفرَزَتها دعوةُ الأنبياء
عليهم السلام في تلك الأجيال المُتعاقِبة من مسيرة البشر:
أولًا: بدأ القرآن بقصَّة
نوح عليه السلام ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِیهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِینَ عَامࣰا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَـٰلِمُونَ ﴿١٤﴾ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَصۡحَـٰبَ ٱلسَّفِینَةِ وَجَعَلۡنَـٰهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
وهكذا تكون نتيجة الدعوة التي استمرَّت قرابة الألف سنة، أنَّها أفرَزَت موقفَين مُختلفَين ومُتمايزَين لأولئك القوم: مُؤمنين ناجِين، وكافرين هالِكِين.
ثانيًا: ثنَّى القرآن بقصَّة إبراهيم
عليه السلام ومُجادلاته لقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ الأصنام والأوثان التي يصنَعونها بأيديهم
﴿وَإِبۡرَ ٰهِیمَ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُۖ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾.
ثم ذكَّرهم بمصير الأمم السابقة
﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدۡ كَذَّبَ أُمَمࣱ مِّن قَبۡلِكُمۡۖ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ﴾.
وحثَّهم على التفكير في الأرض التي يعيشون عليها وما فيها من دلائل وشواهد
﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ كَیۡفَ یُبۡدِئُ ٱللَّهُ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥۤۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ ﴿١٩﴾ قُلۡ سِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَیۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ یُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأَخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾.
ثم أنذَرَهم العاقبة والمصير الذي ينتظرهم، وقوَّة الله عليهم، وإحاطته بهم
﴿یُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُ وَیَرۡحَمُ مَن یَشَاۤءُۖ وَإِلَیۡهِ تُقۡلَبُونَ ﴿٢١﴾ وَمَاۤ أَنتُم بِمُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَآءِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ ﴿٢٢﴾ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَاۤىِٕهِۦۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ یَىِٕسُواْ مِن رَّحۡمَتِی وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾.
لكنَّهم بعد كلِّ هذا ردُّوه وكذَّبوه، وأضرَموا عليه النار لحَرقه، فأنجاه الله منهم
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ ٱقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾.
سلَّط القرآنُ الضوءَ هنا على سبب هذا العناد وهذه المُكابرة
﴿وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَـٰنࣰا مَّوَدَّةَ بَیۡنِكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ﴾ إنَّه الولاء الأعمى للقرابة والصداقة، والبيئة المحيطة ولو كانت على الباطل، على قول القائل:
وهَل أنَا إلا مِن غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ
غَوَيتُ وإِنْ تَرشُدْ غَزِيَّةَ أَرشُدِ
واليوم يَتخذ هذا السببُ أشكالًا جديدة، منها: الولاء للأحزاب والجماعات، ومنها: الولاء للأوطان والقوميَّات؛ حيث يُعطى للحقِّ والباطل تصنيفًا بعيدًا عن ذات الموضوع وفكرته وأدلته، وإنما بحسب هذه الولاءات المُنحازة، فيكون مقياس الحقِّ عند هذا غيره عند ذاك، وقد يختَصِمان ويقتَتِلان، وكلاهما مُقتنع تمامًا أنَّ الحقَّ معه.
لقد حذَّر القرآن من عاقبة هذه الولاءات العمياء الصمَّاء في الآية نفسها:
﴿ثُمَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضࣲ وَیَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ﴾.
ذكَّر القرآن بهجرة إبراهيم واستعلائه على كلِّ تلك الولاءات، مُذكِّرًا بصحبةِ لوطٍ له
عليهما السلام؛ حيث هاجَرَا معًا تاركين الأقوام والأوطان، ومرابع الصبا وذكريات الشباب، وكلّ ذلك التاريخ من الصلات والعلاقات
﴿۞ فَـَٔامَنَ لَهُۥ لُوطࣱۘ وَقَالَ إِنِّی مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّیۤۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾.
وبينما كانت عاقبة تلك الأقوام الكافرة المُكذِّبة الخسران والعذاب، كان إبراهيم
عليه السلام في ظلِّ عناية الله التي جعلت غُربته أُنسًا، وكُربته نبوَّةً وعزًّا
﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَجَعَلۡنَا فِی ذُرِّیَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَـٰبَ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَجۡرَهُۥ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡأَخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾.
ثالثًا: بسياق مُتصل مع قصَّة إبراهيم، عرَّج القرآن على قصَّة لوط، وقد تقدَّمَت الإشارة آنفًا إلى معيَّتِه وصحبته له
عليهما السلام.
كانت رسالة لوط
عليه السلام رسالة أخلاقيَّة، تسعى لمعالجة الشذوذ والانتكاسة التي وقع فيها قومه، وهذا شاهدٌ آخر على أنَّ مساحة الاختبار تتناول الحياةَ بكلِّ جوانبها وأبعادها، ولا تختص بالجانب الروحي أو التعبُّدي
﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
ردَّ قومُه دعوته بالعناد والتحدِّي الفارغ الجاهل
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ ٱئۡتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾، وهنا لجأ لوطٌ إلى ربِّه يرجو نصرته
﴿قَالَ رَبِّ ٱنصُرۡنِی عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.
استجابَ الله دعاءه، فبعث عليهم ملائكته، وفي تذكيرٍ متصلٍ بقصة إبراهيم وصحبة لوطٍ له
عليهما السلام يذكُرُ القرآن أنَّ الملائكة هؤلاء قد مرُّوا بإبراهيم، فكان له معهم هذا الحوار:
﴿وَلَمَّا جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوۤاْ إِنَّا مُهۡلِكُوۤاْ أَهۡلِ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُواْ ظَـٰلِمِینَ﴾ لقد بشَّروه بالغلام على كِبَر سنِّه، ثم أخبَرُوه أنَّ الله أرسلَهم ليُهلِكوا قوم لوط، وهنا لم تُنسِه البُشرى الكريمة أخاه في الله، وصاحِبَه في محنته وهجرته
﴿قَالَ إِنَّ فِیهَا لُوطࣰاۚ﴾.
ثم وصل الملائكة بعد إبراهيم إلى لوطٍ، فضاق بهم ذرعًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ قومه لا يُكرِمون الضِّيفان، ولا يُراعُون حقًّا لقريبٍ أو بعيدٍ، فكانت عاقبتهم الخزي والهلاك
﴿وَلَمَّاۤ أَن جَاۤءَتۡ رُسُلُنَا لُوطࣰا سِیۤءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعࣰاۖ وَقَالُواْ لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ ﴿٣٣﴾ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰۤ أَهۡلِ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ رِجۡزࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ بِمَا كَانُواْ یَفۡسُقُونَ ﴿٣٤﴾ وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَاۤ ءَایَةَۢ بَیِّنَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾.
رابعًا: ذكَّر القرآن أيضًا بقصَّة شُعيبٍ
عليه السلام مع أهل مديَن؛ حيث دعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن الفساد في الأرض؛ إذ كانوا يُطفِّفُون في الكيل والميزان، ليأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، فردُّوه وكذَّبوه، فأهلَكَهم الله كما أهلَكَ أمثالهم
﴿وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰا فَقَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرۡجُواْ ٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ ﴿٣٦﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ﴾.
خامسًا: ذكَّر القرآن تذكيرًا سريعًا بقصتَي عاد وثمود، وهما من قبائل الجزيرة العربية، وقد جمَعَهما؛ لما بينهما من تشابُه وتقارُب في الأحوال والصفات، والأسباب والنتائج
﴿وَعَادࣰا وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَیَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـٰكِنِهِمۡۖ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ وَكَانُواْ مُسۡتَبۡصِرِینَ﴾.
سادسًا: عرض القرآن نموذجًا مُختصرًا من قصة موسى
عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، مُؤكِّدًا أنَّ صفة الاستكبار كانت السبَبَ في ضلالهم وهلاكهم
﴿وَقَـٰرُونَ وَفِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَۖ وَلَقَدۡ جَاۤءَهُم مُّوسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كَانُواْ سَـٰبِقِینَ﴾.
سابعًا: في خِتام هذه النماذج لخَّصَ القرآنُ أنواعَ العذاب الذي أصابَ تلك الأقوام، مُنبِّهًا ومُؤكِّدًا لعقيدة العدل الإلهي، وأنَّ كلَّ هذا الذي حصَلَ لهم إنَّما كان باختِيارهم وظُلمهم لأنفسهم
﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِ حَاصِبࣰا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّیۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾.