سورة العنكبوت تفسير مجالس النور الآية 45

ٱتۡلُ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ﴿٤٥﴾

تفسير مجالس النور سورة العنكبوت

المجلس التاسع والسبعون بعد المائة: حوار مع المخالفين والمكذِّبين


من الآية (41- 52)


بعد عرض كلِّ تلك النماذج وما فيها من دروس وعبر تُلجئ العقول إلى التفكير الجاد بمصائرها وما ينتظرها، أخذ القرآن بمحاورة هذه العقول، وفتح آفاق التفكير أمامها، لعلَّها تتغلَّب على نوازع الشر وأسباب العناد، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: يُقرِّرُ القرآن قبل البدء بالحوار حقيقة أنَّ الإشراك بالله واتخاذ آلهة من دونه دعوى باطلة مُتهافتة لا تقوم على عِلم، ولا يُسنِدُها برهان، ومن ثَمَّ فالمشرك إنما يتمسَّك بالوهم الذي لا يدفع عنه ضرًّا، ولا يجلِب له خيرًا ﴿مَثَلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِیَاۤءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَیۡتࣰاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُیُوتِ لَبَیۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ یَعۡلَمُونَ ﴿٤١﴾ إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿٤٢﴾ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَـٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا یَعۡقِلُهَاۤ إِلَّا ٱلۡعَـٰلِمُونَ﴾.
ثانيًا: يُقرِّرُ القرآن صفاتِ الداعي الذي يحملُ هذا الدين، ويُرغِّبُ الناس فيه ويجادلُ عنه، وهي صفات تمزج بين العلم وبيانه، وبين العبادة الصادقة وآثارها في النفس والسلوك، وبين الاستشعار الدائم لمراقبة الله والخشية منه ﴿ٱتۡلُ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ﴾.
ثالثًا: يُقرِّرُ القرآن قواعدَ للتحاور مع أهل الكتاب: المجادلة بالتي هي أحسن، وتمييز المحسن منهم عن الظالم، والتذكير بالمشتركات الإيمانيَّة الجامِعة ﴿۞ وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَأُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمۡ وَ ٰ⁠حِدࣱ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾.
رابعًا: يُقدِّم القرآن دليلًا قاطعًا على أنَّ هذه الرسالة إنما هي وحيٌ من الله، وليس للهوى البشريِّ فيها نصيب، وهذا الدليل يستند إلى أمِّيَّته وأنَّه لم يكن يقرأ من كتابٍ، ولا يعلم الخط والكتابة ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَـٰبࣲ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِیَمِینِكَۖ إِذࣰا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ﴿٤٨﴾ بَلۡ هُوَ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ فِی صُدُورِ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾.
خامسًا: يردُّ القرآن شُبهةً أثارها المشركون تتلخَّص في أنَّهم يُريدون آيةً خارقةً، وهذا مع ما فيه من مُماحكةٍ ومُجادلةٍ باطلةٍ دليلٌ على انتِكاسة عقولهم، فإنَّهم لم ينظروا في مضمُون الرسالة وما جاءت به من أخبارٍ وأحكام، والتي تحمل في ذاتها دليل صدقها، وتضمن السعادة والطمأنينة لمن يتبعها ويسير عليها، وتُحقِّق العدلَ بين الناس على عِلمٍ وبصيرةٍ، فهذا كلُّه كأنَّه لا يَعنِيهم، ولا يستحِقُّ النظر والتفكير فيه ﴿وَقَالُواْ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡـَٔایَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَاۤ أَنَا۠ نَذِیرࣱ مُّبِینٌ ﴿٥٠﴾ أَوَلَمۡ یَكۡفِهِمۡ أَنَّاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَرَحۡمَةࣰ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ ﴿٥١﴾ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡ شَهِیدࣰاۖ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾.


﴿كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَیۡتࣰاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُیُوتِ لَبَیۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ﴾ مثَلٌ ضرَبَه الله لحال المشركين وهم مُتشبِّثون بأصنامهم وأوثانهم، فبيتُ العنكبوت لا يستقرُّ ولا يَثبُت على أساس، وهو مُفَكَّكٌ مُخترَقٌ تلعبُ به الريح، ولا يَقِي من قطرة ماءٍ ولا ذرَّة غبارٍ، وهكذا حال العقائد الوثنيَّة التي لا تستند على دليلٍ، ولا تُبنى على منطقٍ، ولا تصمُد أمام التفكير، وليس لها جواب على سؤال، ولا قدرة على حوار.
ثم إنَّ المشركين يستنصِرونها ويسترزِقونها، وهي أضعَفُ منهم وأفقرُ منهم، وأما في الآخرة فسيكتَشِفون أنَّهم ما استظَلُّوا بشيءٍ، ولا احتَمُوا بشيءٍ، وهكذا هي العنكبوت حينما ترى بيتَها يتهاوَى بأدنى هبَّةٍ، وأقصَر نفخةٍ.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲۚ﴾ فهذه الأصنام التي هي كبيت العنكبوت ليست شيئًا، بل هي وهمٌ في وهمٍ، وسرابٌ في سرابٍ.
﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَـٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا یَعۡقِلُهَاۤ إِلَّا ٱلۡعَـٰلِمُونَ﴾ لأنَّ العالِم ينظر في موضوع المَثَل ومغزاه، أما العابِث الهازِل فإنَّه يتعامَلُ مع المَثَل بنفسٍ مريضةٍ، وعقلٍ غافلٍ.
﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ﴾ تلك هي الصلاة التي يُريدها الله، إنَّها صِلةٌ بين الإنسان وربِّه، وصِلةٌ بين الإنسان وأخِيه، إنَّها العبادة الممزوجة بالأخلاق ومعاني الخير والنُّبل والفضيلة، أما حينما تنعَزِل الصلاة عن كلِّ هذه المعاني؛ حيث تقتَرِن بالظلم والنفاق والمنكر فهذه صلاةٌ مغشوشةٌ، تُشوِّهُ الدين، وتضرُّ العالمين.
وقوله: ﴿تَنۡهَىٰ﴾ أي: تزرَعُ في صاحبها الوازع والرادع، فقامت في نفسه مقام الناهي، والله أعلم.
﴿وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ﴾ وصفٌ لأهميّة تلك الصلاة وعظمتها، تلك التي تنهى عن الفحشاء والمنكر بدلالة السياق، والصلاة ذِكرٌ.
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ﴾ عقيدةٌ تبعثُ في نفس المؤمن حسَّ الرقابة الذاتيَّة، واستِصحاب الخوف من الذنب والخطيئة، وتلك هي التقوَى.
﴿۞ وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ خُلُقٌ إسلاميٌّ رفيعٌ، ومبدأٌ عزيزٌ من مبادئ التحاوُر والتفاهُم مع الآخر، وهو مُتضمِّنٌ لحُسن المعاملة بشكلٍ عام، وضمان حقوقهم الكاملة دون بَخسٍ ولا ظلمٍ، وإذا كان هذا في حقِّ أهل الكتاب، فهو الأَولَى بين المختلِفين داخل المنظومة الإسلاميَّة.
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ﴾ بعدوان وخيانة ونحوهما.
﴿وَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَأُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمۡ وَ ٰ⁠حِدࣱ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ توجيهٌ ربَّانيٌّ بإعلان المشتركات العقديَّة والفكريَّة مع أهل الكتاب، وهذه حقيقةٌ معرفيَّةٌ، وفيها غايةٌ دعويَّةٌ إصلاحيَّةٌ لا تخفَى على لَبيبٍ، وليس في هذا ما يخدِشُ عقيدة الولاء والبراء، بل هو من فقهِ العلاقات الذي يغيبُ في زحمة الصراع، وردود الأفعال المرتبكة وغير المُتوازِنة.
﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ فَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ﴾ إبرازٌ للذين أسلَمُوا من أهل الكتاب، أو الذين كان بعِلمِ الله أنَّهم سيُسلِمون، وهو إبرازٌ مقصودٌ لتوسيع دائرة المشتركات، مع ما فيه من إقامة الحجة على المُعانِدين والمُكذِّبين.
﴿وَمِنۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ مَن یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ﴾ أي: من أهل مكة، وأتَى بالفعل المضارع ﴿یُؤۡمِنُ﴾ إشارةً وبشارةً باستمرار دخولهم في الإسلام.
﴿ر﴾ تأكيدٌ لأُمِّيَّته ، والأُمِّيَّة نقصٌ في حقِّ كلِّ إنسان إلَّا في حقِّه فهي شرفٌ؛ لأنَّها تُثبِتُ صِدقَ الوحي، ونزاهته في رسالته وما يُبلِّغُه عن ربِّه؛ ولذلك قال بعدها: ﴿إِذࣰا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ﴾ فكانت أُمِّيَّتُه قاطعةً لهذا الارتِياب.
﴿بَلۡ هُوَ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ فِی صُدُورِ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ﴾ بمعنى أنَّ القرآن أبعَد ما يكون عن الرَّيب؛ إذ هو يحمِلُ بنفسه آيات صِدقِه ودلائل وَحيِه.
وفي الآية إشارةٌ إلى أنَّ الذين يُدرِكون هذه الآيات وهذه الدلائل إنَّما هم أهلُ العلم، بخلاف الجاهلين والغافلين.
﴿وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ تأكيدٌ أنَّ الإنسان العاقل السوِيَّ لا يُمكنه إذا اطَّلع اطِّلاعًا صحيحًا على هذه الآيات إلا أن يفتح لها عقله وقلبه، وعليه فالجحودُ ليس اجتهادًا ولا رأيًا صادرًا عن نظرٍ وفكرٍ، وإنما هو العناد والظلم، ومُجانبة العدل في القول والحكم.
﴿وَقَالُواْ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ﴾ هذا قولُ الظالمين الجاحِدين، وليس الباحِثين عن الحقِّ، ولو كانوا صادِقين في دعواهم لتفكَّروا أولًا في معاني آيات القرآن وما فيها من هَديٍ وعدلٍ ونورٍ قبل أن يطلُبُوا خوارقَ العادات؛ ولذلك ردَّ القرآن عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمۡ یَكۡفِهِمۡ أَنَّاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَرَحۡمَةࣰ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ ﴿٥١﴾ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡ شَهِیدࣰاۖ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾.