لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق، وأنه عبد أنعم الله عليه، وأن من زعم أن فيه شيئاً من الإلهية فقد كذب على الله، وكذب جميع أنبيائه وكذب عيسى - صلى الله عليه وسلم - فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلهاً شبهة باطلة، فلو كان لها وجه صحيح لكان آدم أحق منه فإنه خلق من دون أم ولا أب، ومع ذلك فاتفق البشر كلُّهم على أنه عبد من عباد الله، فدعوى إلهية عيسى بكونه خلق من أم بلا أب دعوى من أبطل الدعاوي، وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه أن عيسى كما قال عن نفسه:
{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم}؛ وكان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد نصارى نجران ، وقد تصلبوا على باطلهم بعدما أقام عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - البراهين بأن عيسى عبد الله ورسوله حيث زعموا إلهيته، فوصلت به وبهم الحال إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم فإنه قد اتضح لهم الحق ولكن العناد والتعصب منعاهم منه، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين، فتشاوروا هل يجيبونه إلى ذلك، فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه لأنهم عرفوا أنه نبي الله حقًّا، وأنهم إن باهلوه هلكوا هم وأولادهم وأهلوهم فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - ولم يحرجهم لأنه حصل المقصود من وضوح الحق، وتبين عنادهم حيث صمموا على الامتناع عن المباهلة، وذلك يبرهن على أنهم كانوا ظالمين. ولهذا قال تعالى:
{إن هذا لهو القصص الحق}؛ أي: الذي لا ريب فيه،
{وإن الله لهو العزيز} الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات وأذعنت له سكان الأرض والسماوات، ومع ذلك فهو
{الحكيم}؛ الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.