سورة آل عمران تفسير مجالس النور الآية 115

وَمَا یَفۡعَلُواْ مِنۡ خَیۡرࣲ فَلَن یُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ ﴿١١٥﴾

تفسير مجالس النور سورة آل عمران


المجلس الثامن والعشرون : مقوِّمات بناء الأمة المسلمة


من الآية (100- 120)


بعد عرض القرآن لنقاط الخلاف والتمايز مع أهل الكتاب، وتثبيته لمعنى الإسلام الحق وصلته بالرسالات السماويّة شرَعَ في بيان المقوِّمات والأسس التي ينبغي أن تتشكَّل عليها هذه الأمة المنوط بها حمل هذه الرسالة لكل العالمين.

أولًا: الإيمان هو الأساس الذي تتكون حوله وتحت ساريته هذه الأمة، فليس الإيمان هنا ذلك التصوُّر الذي يتشكل في العقول والضمائر، ولا تلك الممارسات الشعائريَّة المنبثقة منها، إنه قبل كلِّ هذا هويَّة جامعة تنبثق من رؤيةٍ موحدةٍ لعالمَيْ الغيب والشهادة، وهو كذلك مشروع تنصهر فيه كلُّ طاقات الأمة وإمكانياتها؛ ولذلك يأتي الخطاب القرآني دائمًا: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ﴾ بصيغة الجمع، وهي صيغةٌ مقصودةٌ وكلُّ ما بعدها مبنيٌّ عليها.

ثانيًا: الاعتصام بحبل الله والانصِهار في مفهوم (الأمة) والوحدة الإسلامية الجامعة ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾، ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ﴾، ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ﴾، ﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ﴾.

ثالثًا: حمل الرسالة الإلهيَّة للعالمين، وهي رسالة الرحمة والخير والمحبَّة ﴿ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ﴾، ﴿وَیُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِ﴾، ﴿وَمَا یَفۡعَلُواْ مِنۡ خَیۡرࣲ فَلَن یُكۡفَرُوهُ﴾ فالخير سِمَة هذه الأمة ومسؤوليتها، وبه تستحق وصف الخيريَّة، والخيرُ مفهومٌ جامعٌ لكلِّ معاني البرِّ والإحسان؛ ولذلك أطلقه القرآن ليتناول جملة واحدة كلَّ تلك المعاني.

رابعًا: الإصلاح، وهي مسؤوليةٌ مستمرَّةٌ تبدأ بالذات أولًا ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ ﴾ والتقوى إنما هي محاسبةٌ ومراقبةٌ ذاتيَّةٌ، وحسٌّ مُرهَف، يتتبَّع خلَجَات النفس ونوازعها الداخلية، ويسجِّل السلوكيات المختلفة صغيرها وكبيرها، ويَزِنها جميعا بميزان الشريعة.
ثم بعد هذا تنتقل المسؤولية لمساعدة الآخرين في تصحيح أخطائهم، وتقويم سلوكهم ﴿وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ وهذه الإيجابية مظهر من مظاهر الخير المغروسة في كلِّ نفسٍ مؤمنةٍ بالله واليوم الآخر ﴿یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِۖ وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ وهذا الربط بين الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقطع ذلك السلوك الجاف والمؤذي لمشاعر الناس ومكانتهم وكرامتهم باسم النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

خامسًا: التمايُز عن الباطل وأهله، والحذر من مشاريعهم الهدَّامة وأساليبهم الملتوية في التضليل والتلبيس ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِن تُطِیعُواْ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِینَ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُواْ بِطَانَةࣰ مِّن دُونِكُمۡ لَا یَأۡلُونَكُمۡ خَبَالࣰا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ﴾، ﴿وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَیۡظِ﴾، ﴿ضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَیۡنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلَّا بِحَبۡلࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلࣲ مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾ وهؤلاء استِثناء من عموم العالمين اقتضاه موقفهم المُعادِي للحقِّ وأهله، أما عموم الناس ممن لم يتَّخِذُوا مثل هذا الموقف، فإرادة الخير لهم والتعامل معهم بالحسنى أصلٌ في ديننا.
وهنا تزِلُّ بعض الأقدام، وتخلط بين مقامات الناس؛ ظنًّا منهم أن كلَّ مَن ليس بمسلمٍ فهو عدوٌّ للمسلمين، وهذا خطأٌ فاحشٌ لا يستقيم مع مبادئ الإسلام ونظرته للكون والحياة والإنسان.


﴿وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ أي: التفرق المذموم الناتج عن العصبيات القبليَّة والحزبيَّة، والولاءات القاصرة، أما الخلاف الاجتهادي والتنوُّع في الاختصاصات والاهتمامات فهذا من لوازم المعرفة، والتطور الحضاري، وقد صارَ كثيرٌ من الناس اليوم يخلِط بين التفرُّق المذموم والاجتِهاد المحمود، وإذا كان الاجتهاد مطلوبًا، فالتعدد والخلاف من لوازمه، وأما من يدعو للاجتهاد ويحذِّر من الخلاف، فقد وقع في التضادِّ والاضطراب.

﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ﴾ أي: كونوا أمة، فـ (مِنْ) هنا للتكوين والتحويل، كما تقول: جعلتُ مِن العجين خُبزًا، وتدل عليه الآية الآتية: ﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ﴾.
﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلـلَّـهِ﴾ قدَّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان على غير عادة القرآن في تقديم الإيمان على العمل؛ وذلك لاعتبارَين:
الأول: أن مناط الخيرية على الناس إنما هو بما نقدِّمه من خيرٍ لهم، فقدَّمَ المناط وعلَّة التخيير على الإيمان، مع أن الإيمان أصلٌ لكلِّ خير، ويكون هذا كقولك للسقيم: أتيناك بالطبيب المسلم، فتُقدِّم الطب على الإسلام؛ لارتباطه المباشر بحاجة السقيم.
والثاني: أن الدعوة إلى الله - أمرًا ونهيًا - هي السبب في وصول الإيمان إلى الناس، ولولاها لما عرف الناس الإيمان أصلًا، ولما بقي في قلوب الناس؛ إذ إن مَعَاول الهدم والتجهيل والتنفير كثيرة، وإنما تُردُّ كلها بهذه الفريضة الربانيَّة.
﴿لَن یَضُرُّوكُمۡ إِلَّاۤ أَذࣰى﴾ المقصود لن يضرُّوكم الضرر الذي يريدونه لكم، كاستئصالكم وذهاب دينكم، أما الأذى فهو ما دون ذلك من الضرر مهما كان كبيرًا، والواقع يؤيِّد هذا المعنى؛ فالمسلمون يتعرَّضُون للقتل والحبس والتشريد والحصار من بدء الدعوة وإلى اليوم، وحتى في المعارك التي انتصر فيها المسلمون حصل لهم من الضرر الشيء الكثير، قتلًا وجرحًا وأَسرًا، فكيف بالمعارك التي خسِرُوا فيها؟

﴿وَإِن یُقَـٰتِلُوكُمۡ یُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ﴾ خبرٌ مخصوصٌ لقومٍ مخصُوصِين ومرحلة مخصوصة، وليس قاعدة مطَّرِدة، يدلُّ عليه قوله تعالى في غير هذا الموضع: ﴿فَیَقۡتُلُونَ وَیُقۡتَلُونَ﴾ [التوبة: 111]، وقوله في يوم أُحُد: ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ﴾ [آل عمران: 152].
وواقع المسلمين في ماضيهم وحاضرهم يشهد لهذا السِّجال، وخضوع الجميع لسنن الله الغالبة، والقوانين السببية التي وضعها الله في هذه الحياة، فمَن أخَذَ بها مع الإيمان كان أَولَى بالنصر، ومن قصَّر فيها لحِقَته الهزيمة مهما كان إيمانه، والله أعلم.

﴿إِلَّا بِحَبۡلࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلࣲ مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾ حبل الله هنا: عهد الأمان الذي يمنحه المسلمون لليهود صُلحًا، أو عهدًا، أو ذمَّةً، كما حصل في وثيقة المدينة، وفي اتفاق خيبر، ثم في عقد الذمَّة الذي وفَّر الحمايةَ الكاملةَ لليهود في كل بلدٍ إسلامي يتواجدون فيه.
وحبلٌ من الناس: هو التحالفات التي يبنيها اليهودُ مع الدول الأخرى، وفحوَى الآية: أن اليهود سيبقون أقلية غير قادرة على حماية نفسها أو تحقيق أهدافها إلا بهذه العقود والتحالفات، وهذا هو حال اليهود منذ البعثة وإلى اليوم.

﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُواْ بِطَانَةࣰ مِّن دُونِكُمۡ﴾ نهيٌ عن اتخاذ أحد من الأعداء وليًّا مهما كانت الصلة والقرابة والمصلحة الشخصية، وقال:﴿مِّن دُونِكُمۡ﴾ أي: من خارج الصفِّ المؤمن، ممَّن يُعادُون هذا الصف، ويعملون على تفكيكه واستئصاله ﴿لَا یَأۡلُونَكُمۡ خَبَالࣰا﴾ أي: لا يقصِّرون ولا يتردَّدُون في رميكم بالفساد والشرِّ، وكلِّ أذًى ونقيصةٍ.
و﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ﴾ أي: يودُّون لكم العَنَتَ والمشقَّة، وقوله: ﴿بِطَانَةࣰ﴾ إشارة إلى العلاقات الخفيَّة، وهي المتوقَّعة أيام الحروب والصراعات، والآية لا تُحرِّم العلاقات الإنسانيَّة والمجتمعيَّة المعروفة، وإنما الحديث فيها عن الأعداء المحاربين ﴿قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ﴾.

﴿هَـٰۤأَنتُمۡ أُوْلَاۤءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا یُحِبُّونَكُمۡ﴾ هذا أصلٌ في خلق المسلم؛ أنه يحبُّ الخير لكل الناس مؤمنهم وكافرهم، وليس في هذا شائِبة، إنما الشائِبة في محبَّة من لا يحبُّ المسلمين، ويُضمِر لهم الشرَّ، ويعمل على استئصالهم ﴿وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَیۡظِ﴾، ﴿ إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُواْ بِهَا﴾ فتكون المحبة لهم سذاجة أو خيانة.
وكثرة الاحترازات الواردة هنا، وذكر تفاصيل أوصافهم وما يُبطِنون وما يُعلِنون دليل قاطع أن المقصود بالنهي إنما هم هؤلاء بأوصافهم هذه، وليس ذلك عامًّا في كلِّ الكافرين، والله أعلم.
﴿وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ كُلِّهِۦ﴾ أي: الكتب السماوية جميعها، إجمالًا بالنسبة للكتب السابقة، وتفصيلًا بالنسبة للقرآن؛ إذ الكتب السابقة قد تعرَّضَت للتحريف، فلا يصحُّ الإيمان بما هي عليه اليوم، بخلاف القرآن الذي تعهَّد الله بحفظه إلى يوم القيامة.