سورة آل عمران تفسير مجالس النور الآية 134

ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ ﴿١٣٤﴾

تفسير مجالس النور سورة آل عمران


المجلس التاسع والعشرون : في الطريق إلى أُحُد


من الآية (121- 137)


تناولت سورة آل عمران معركةَ أُحدٍ وما جرى فيها من انتكاسة وأذى للمسلمين بسبب الأخطاء التي ارتكبوها باهتمامٍ وتفصيلٍ أكثر من كلِّ المعارك الأخرى؛ تأكيدًا للنهج القرآني في تشجيع المراجعة والتقويم الذاتي، والاستفادة من الأخطاء رغم مرارتها، ومرارة تذكُّرها، وللمساحة الكبيرة التي أخَذَتْها هذه المعركة من هذه السورة ارتَأَيتُ أن أقسِّمها على أكثر من مجلس، والله المستعان.
في هذا المقطع تطرَّقَت السورةُ لعدد من النقاط قبل الْتِحام الجيشَين، وهي:

أولًا: مهَّدَ القُرآن للحديث عن معركة أُحدٍ ببيان حال اليهود والمنافقين ﴿إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُواْ بِهَا﴾ وقد حصل مصداق هذا في الطريق إلى أُحدٍ بنكوص المنافقين، ثم بعد النكسة بشماتة اليهود وتَشَفِّيهم بمُصاب المسلمين، مع أنهم أهل الوثيقة التي تنصُّ على وجوب الدفاع المشترك عن المدينة.

ثانيًا: إن المعركة كانت معركة دفاعية ﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِ﴾ فمقاعد القتال تشير بوضوح إلى أنهم كانوا ينتظرون الغزاة ليصدُّوهم، كما أن الخروج من الأهل يدلُّ على قُرب المقاعد هذه من مساكِنِ الناس، وهذا هو ما حصل بالفعل؛ حيث إن جبل أُحدٍ هو في ضواحي المدينة، وقد قطع المشركون مسافةً طويلةً من مكة قد تستغرق أيامًا ليصلوا إلى أُحدٍ، بل وقد ذكر أهل السير أن الرسول كان من رأيه البقاء في المدينة والدفاع عنها، لكنه تنازَلَ لرأي أغلبية الشباب، خاصة أولئك الذين لم يشهَدوا بَدْرًا.

ثالثًا: استحضار التاريخ القريب، والمواجهة التي حصَلَت بين الفريقين في معركة بدر ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرࣲ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةࣱۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾، وهو توجيه ربَّاني بأخذ العبرة من التاريخ، وقد أكَّدَه في الآية الأخيرة في هذا المقطع: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ وأمرُهُ بالتقوى بعد امتنانه عليهم بالنصر يُوحِي بأنها شرط في تحقيق النصر.

رابعًا: الأمر بالطاعة، وهي من أسس التربية العسكريَّة ﴿وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾، أما طاعة الله فهي أصل الإسلام، وطاعة الرسول هي طاعة لله؛ لأنه المُبلِّغُ عن الله، وفي الحرب يُضافُ إلى هذا المعنى معنًى آخر، وهو: طاعته باعتباره قائدًا لا يستقيم أمر الجيش بغير طاعته.

خامسًا: التجرُّد لله في النية والعمل، والبُعد عن الأثَرَة والتنافس المادي، والذي غالبًا ما يكون سببًا في إضعاف الصف، وظهور الشحناء والبغضاء بين جنوده؛ ولذا أمر بالإنفاق ﴿ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ﴾ وهنا الإشارة للإنفاق في الحرب (الضرَّاء)، وحذَّر من الربا، والذي هو مظهر من مظاهر الجشع والطمع الذي يفُتُّ في عضد الأمة، ويُضعِف مقاومتها ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰۤاْ أَضۡعَـٰفࣰا مُّضَـٰعَفَةࣰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ والفلاح مُستلزِمٌ للنصر.

سادسًا: ذكر القرآن حالة من التردُّد وضعف العزيمة اعتَرَت مجموعتين من المؤمنين لكنَّ الله ثبَّتَهم ﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَا﴾ وهنا إشارة أن المؤمن قد يضعُف ولو كان وليًّا لله ﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَا﴾ فلا ينبغي تنزيهُهم عن النقص لمكان الولاية، ولا التشكيك بولايتهم لوجود النقص.

سابعًا: إن هذا المقطع جاء بمسحة من السماح والعفو والمغفرة، وكأنَّه يمهِّد للموقف المطلوب من أولئك الرماة الذين خالَفُوا أمر رسول الله فتركوا مواقعهم؛ فكانت النكسة ﴿وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ ، ﴿فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ (١٣٥) أُوْلَــٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ﴾.


﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ أي: خرجت مبكِّرًا مع إشراقة النهار لتختار مواقع الجند، والمكان الأصلح للدفاع عن المدينة، وفيه مسؤولية القائد في المبادرة وإن كان الأمر على خلاف ما يراه؛ حيث كان رأيه المكوث في المدينة، ومناجزة المشركين فيها، لكنه استجابَ للشورى كما هو معلوم في كتب السيرة.

﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ﴾ الطائفة مجموعة من الناس يتفقون على شيء، لكنها في عصرنا الحالي تستعمل في معنى أخطر، وهو الانعزال عن الأمة بولاء قاصر وهويَّة مخالفة، والسلوك الطائفي يقصد به اليوم: تغليب مصلحة الطائفة بهذا المعنى على مصلحة الأمة والدولة، وغالبًا ما يؤدِّي هذا السلوك إلى صراعات دمويَّة مريرة وطويلة.

﴿أَن یُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَـٰثَةِ ءَالَـٰفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُنزَلِینَ﴾ الإيمان بالملائكة هو نوعٌ من الإيمان بالغيب، وهو الأصل في العقائد الدينية، والعقل لا يمنع من وجود كائنات لا تقع تحت الحسِّ البشري، وقد رأينا العقل يكتَشِف بأدواته الماديَّة مخلوقات لم تكن معروفة فيما سبق؛ كأنواع الأشعة، والموجات الصوتية، وكثير من الكائنات الحيَّة؛ كالبكتيريا، والجراثيم، والفيروسات، وربما يكتشف العلم كائنات أخرى هي بالنسبة لنا اليوم غيبٌ محضٌ، فالجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده، مع ملاحظة أن المنهج القرآني في الغيبيات أنه لا يذكرها إلا إذا كانت متصلة بحياة الناس، وهنا يذكر القرآن الملائكة؛ لما لهم من دور في مساندة المؤمنين.

﴿لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰۤاْ أَضۡعَـٰفࣰا مُّضَـٰعَفَةࣰۖ﴾ الوصف بالأضعاف المضاعفة وصف لزيادة التنفير، وبيان جشع المُرابي وطمعه وأنانيته، وليس وصفًا احترازيًّا، فقليلُ الربا وكثيرُه حرام.

﴿وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾ لبيان سعتها وسعة رحمة الله فيها، والخوض في حقيقة الطول والعرض لا طائل من ورائه، وهو من التكلُّف، فنحن نجهل المشبَّه به، فكيف بالمشبَّه، فعرض السموات والأرض نوعٌ من الغيب بالنسبة لنا، والجنة غيبٌ أبعد.
وقد شبَّه القرآن الغيبَ بالغيب ليس للتحقق من الهيئة والمسافة، بل لحصول الاطمئنان على أصل السعة، وكبير عفو الله ورحمته، وهذا هو مقصود النص، وهو كافٍ لمن تدبَّر.

﴿وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ﴾ ترغيب بمبادرة الذنب بالاستغفار، وترك التسويف، فالمؤمن يُذنِب، والفاجر يُذنِب، والفرق بينهما الأَوبة والتوبة، فمن استشعر الذنب واستثقله رجع سريعًا، وهذا دليلُ القلب الحي النابض بالإيمان.

﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ البحث في عواقب الأمم يقود إلى نتائج كلية؛ أن الله لا يرضى بالكفر، ولا يرضى بالظلم، وأن هؤلاء مُعرَّضون لعقاب الله في الدنيا قبل الآخرة، أما مُجاوزة هذا إلى حالةٍ من التنبؤ بمصير الأمم والدول الظالمة في كلِّ مواجهة فهو نوعٌ من التغرير الباطل، فالقدر بِيَد الله وحده، وآجال الأمم والدول والحضارات كآجال الناس، بل هي أعقد وأبعد في الغيب.
إنَّ هناك من يحلِف على نصر المسلمين في هذه المعركة المعينة مع الكافرين بناءً على أن الله مع الحقِّ، والله لا ينصر الكافرين والظالمين، وهذا الحَلِف مجازفةٌ لا دليل عليها، وسُنن الله تقضي بهلاك الظالمين دون تحديد الآماد والآجال، ثم هناك سُننٌ أخرى قد نُدركها وقد لا نُدركها؛ كسُنن الله في التمكين، وسُننه في تسليط الظالمين على الظالمين، والله أعلم.