تناولت سورة
آل عمران معركةَ أُحدٍ وما جرى فيها من انتكاسة وأذى للمسلمين بسبب الأخطاء التي ارتكبوها باهتمامٍ وتفصيلٍ أكثر من كلِّ المعارك الأخرى؛ تأكيدًا للنهج القرآني في تشجيع المراجعة والتقويم الذاتي، والاستفادة من الأخطاء رغم مرارتها، ومرارة تذكُّرها، وللمساحة الكبيرة التي أخَذَتْها هذه المعركة من هذه السورة ارتَأَيتُ أن أقسِّمها على أكثر من مجلس، والله المستعان.
في هذا المقطع تطرَّقَت السورةُ لعدد من النقاط قبل الْتِحام الجيشَين، وهي:
أولًا: مهَّدَ القُرآن للحديث عن معركة أُحدٍ ببيان حال اليهود والمنافقين
﴿إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُواْ بِهَا﴾ وقد حصل مصداق هذا في الطريق إلى أُحدٍ بنكوص المنافقين، ثم بعد النكسة بشماتة اليهود وتَشَفِّيهم بمُصاب المسلمين، مع أنهم أهل الوثيقة التي تنصُّ على وجوب الدفاع المشترك عن المدينة.
ثانيًا: إن المعركة كانت معركة دفاعية
﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِ﴾ فمقاعد القتال تشير بوضوح إلى أنهم كانوا ينتظرون الغزاة ليصدُّوهم، كما أن الخروج من الأهل يدلُّ على قُرب المقاعد هذه من مساكِنِ الناس، وهذا هو ما حصل بالفعل؛ حيث إن جبل أُحدٍ هو في ضواحي المدينة، وقد قطع المشركون مسافةً طويلةً من مكة قد تستغرق أيامًا ليصلوا إلى أُحدٍ، بل وقد ذكر أهل السير أن الرسول
ﷺ كان من رأيه البقاء في المدينة والدفاع عنها، لكنه تنازَلَ لرأي أغلبية الشباب، خاصة أولئك الذين لم يشهَدوا بَدْرًا.
ثالثًا: استحضار التاريخ القريب، والمواجهة التي حصَلَت بين الفريقين في معركة بدر
﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرࣲ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةࣱۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾، وهو توجيه ربَّاني بأخذ العبرة من التاريخ، وقد أكَّدَه في الآية الأخيرة في هذا المقطع:
﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ وأمرُهُ بالتقوى بعد امتنانه عليهم ب
النصر يُوحِي بأنها شرط في تحقيق النصر.
رابعًا: الأمر بالطاعة، وهي من أسس التربية العسكريَّة
﴿وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾، أما طاعة الله فهي أصل الإسلام، وطاعة الرسول هي طاعة لله؛ لأنه المُبلِّغُ عن الله، وفي الحرب يُضافُ إلى هذا المعنى معنًى آخر، وهو: طاعته باعتباره قائدًا لا يستقيم أمر الجيش بغير طاعته.
خامسًا: التجرُّد لله في النية والعمل، والبُعد عن الأثَرَة والتنافس المادي، والذي غالبًا ما يكون سببًا في إضعاف الصف، وظهور الشحناء والبغضاء بين جنوده؛ ولذا أمر بالإنفاق
﴿ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ﴾ وهنا الإشارة للإنفاق في الحرب (الضرَّاء)، وحذَّر من الربا، والذي هو مظهر من مظاهر الجشع والطمع الذي يفُتُّ في عضد الأمة، ويُضعِف مقاومتها
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰۤاْ أَضۡعَـٰفࣰا مُّضَـٰعَفَةࣰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ والفلاح مُستلزِمٌ للنصر.
سادسًا: ذكر القرآن حالة من التردُّد وضعف العزيمة اعتَرَت مجموعتين من المؤمنين لكنَّ الله ثبَّتَهم
﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَا﴾ وهنا إشارة أن المؤمن قد يضعُف ولو كان وليًّا لله
﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَا﴾ فلا ينبغي تنزيهُهم عن النقص لمكان الولاية، ولا التشكيك بولايتهم لوجود النقص.
سابعًا: إن هذا المقطع جاء بمسحة من السماح والعفو والمغفرة، وكأنَّه يمهِّد للموقف المطلوب من أولئك الرماة الذين خالَفُوا أمر رسول الله
ﷺ فتركوا مواقعهم؛ فكانت النكسة
﴿وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ ،
﴿فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ یُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ (١٣٥) أُوْلَــٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ﴾.