سورة آل عمران تفسير مجالس النور الآية 198

لَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا نُزُلࣰا مِّنۡ عِندِ ٱلـلَّـهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّلۡأَبۡرَارِ ﴿١٩٨﴾

تفسير مجالس النور سورة آل عمران


المجلس الثالث والثلاثون: العلاقة بأهل الكتاب


من الآية (181- 200)


بعد الانتهاء من معركة أُحُدٍ وتداعياتها والدروس المستفادة منها عاد القرآن إلى موضوع السورة الأساس، وهو العلاقات بأهل الكتاب، وربما كانت المناسبة بين الموضوعين هو موقف أهل الكتاب من المسلمين بعد نكسة أُحد ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤاْ أَذࣰى كَثِیرࣰا﴾ والتطرق مجددًا إلى أهل الكتاب حمل انتقادات حادَّة لمواقفهم، ونماذج صارخة من سلوكيَّاتهم، كما جاء بتوصياتٍ جامعة ومركَّزة للمسلمين، ويمكن تلخيص هذا في النقاط الآتية:


أولًا: حال أهل الكتاب:
1- التعالي على الله ﴿ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِیرࣱ وَنَحۡنُ أَغۡنِیَاۤءُۘ﴾ وهذه جرأةٌ ووقاحةٌ لا تنم إلا عن سوء في التديُّن، وسوء في الخُلُق، وهي تعبِّر عن تشوُّش واضطراب في مفهوم الإيمان وعلاقة هذا المخلوق بخالقه.
2- الكذب على الله ﴿ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَیۡنَاۤ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ یَأۡتِیَنَا بِقُرۡبَانࣲ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُ﴾ وهذه الكذبة تحمل في ذاتها دلالة ضمنية على انتظارهم لنبيٍّ، فمن هذا النبيُّ؟ وأين ذهبت هذه النبوءة؟
3- قتل الأنبياء ﴿سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ﴾ ﴿قُلۡ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِی بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِی قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾.
4- كتمان الحقِّ ونبذ الكتاب ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰا﴾.
5- التحالف مع المشركين ضد المؤمنين ﴿وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤاْ أَذࣰى كَثِیرࣰا﴾.
6- الرياء الكاذب ﴿وَّیُحِبُّونَ أَن یُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ یَفۡعَلُواْ﴾ وهذا سوءٌ مركَّب، فالناس يراؤون بصالح أعمالهم، فيكون الرياء سببًا في بطلانها وقطعها عن الثواب المرجوِّ منها، وهؤلاء يراؤون بأعمالٍ لم يعملوها، بمعنى أنهم يدَّعُونها ادعاءً، وقد ينسِبُون لأنفسهم أعمال غيرهم، وبهذا جمعوا بين الكذب والظلم والرياء.
7- إن هذه الخِلال والصفات الذمِيمة لا تَصدُق على عامة أهل الكتاب، فهناك صنفٌ مختلفٌ لم يشَأ أن ينزَلِق إلى هذا المنحدر ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَمَن یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِمۡ خَـٰشِعِینَ لِلَّهِ لَا یَشۡتَرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلًا﴾.

ثانيًا: حال المؤمنين:
1- التفكُّر في هذا الكون والتأمل في نواميسه وسننه ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾، ﴿وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلࣰا﴾ وهذا التفكُّر هو ما يميِّز الإنسان عن سائر الكائنات، وهو وظيفة العقل المعطَّلة لدى كثير من الناس بسبب دورانهم في فلك الشهوات الجسدية، والمصالح المادية، وحبس اهتمامهم فيها.
إنَّ أُولِي الألباب (العقول) هم الذين يُعمِلُون عقولهم لاكتشاف أسرار هذا الخلق، وهي الخطوة الأولى على طريق الهداية.
2- الاستجابة لنداء الإيمان ﴿رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّا﴾ ولكي لا يتوهَّم واهم أن هذا الإيمان جاء تقليدًا للمنادي من غير دليلٍ ولا برهانٍ، جاءت هذه الاستجابة بعد آيات التفكُّر والنظر في ملكوت الله، وإعمال العقول، وهذه الاستجابة تعبِّر في الوقت ذاته عن صدقٍ مع النفس، واستشعار جديَّة الأمر، وإلا فهناك كثيرٌ ممن تقوم عليهم الحجَّة لكنهم يُصِرُّون على الباطل عنادًا وتكبُّرًا، أو رغبةً في اللهو والعبث، وعدم الرغبة في تحمُّل تبعات الإيمان.
3- الالتزام بتبعات الإيمان عبادةً وتضحيةً وثباتًا وصبرًا ﴿ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ﴿فَٱلَّذِینَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾.

ثالثًا: ميدان المنافسة وميزان العمل:
مع بيانه لحال الفريقين أخذ القرآن يحدد ميدان المنافسة، ومعيار التقويم في نقاط محددة وواضحة:
1- إنَّ الله لا يظلم أحدًا ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّامࣲ لِّلۡعَبِیدِ﴾، فالله هو ربُّ العالمين، خلقهم من العدم، وهو أعلم بهم منهم، وأرحم بهم من أنفسهم، وهو القادر على أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، ومَن كان كذلك فهو مبرَّأٌ عن الظلم؛ لأن الظلم صفة نقصٍ من كلِّ وجهٍ، فهي صفةٌ مذمومةٌ بذاتها، وقبيحةٌ بصاحبها، وهي علامة عجزٍ؛ حيث إنَّ الظالم يخاف فوت مصلحةٍ أو شهوةٍ، أو يرغب في مضاعفتها، فيُبادر بظلم الآخرين وأكل حقوقهم، أو أنه يظلم سهوًا، فدلَّ ذلك على غفلته وقلَّة علمه، وكلُّ ذلك مُنافٍ لصفات الله العليم القدير سبحانه.
2- إن كلَّ مكلَّفٍ مسؤول عن سلوكه وعمله خيرًا أو شرًّا ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ﴾، ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ ، ﴿ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلࣲ مِّنكُم ﴾ فهذا هو الميزان الحقُّ، فلا مجال للاعتِذار بالقَدَر، فكلُّ فعلٍ إنما يُنسب لفاعله، فهذا مُصلٍّ، وذاك سارِق، وهذا مؤمنٌ، وذاك كافر، ونسبة هذه الأفعال إلى القدر مغالطة ومحاولة لتشتيت المسؤولية الجزائيَّة، فالله شرَّع أحكامًا دنيويَّة، وثبَّت جزاءات أخرويَّة على هذه الأفعال، وإنما يُؤخذ الفاعل بفعله، أما أن تكون هذه الأفعال خاضعة تحت مظلة القدر الكليَّة، بمعنى: أن الله قد قدَّر على الإنسان أن يُمتَحن في هذه الدار، ويُجازَى على أدائه، فهذا القدر حقٌّ، وهو من كمال ربوبيَّته سبحانه وألوهيَّته، وليس فيه نسبةُ الفعل لغير فاعله، أو أن هناك إكراهًا قدريًّا على الفعل، فإكراه المخلوق للمخلوق مُؤْذِنٌ برفع التكليف عن المكرَه، فكيف بإكراه الخالق للمخلوق؟
3- إن الغشَّ في هذا الميدان محرَّمٌ ومؤذِنٌ ببطلان العمل حتى لو كان صوابًا في نفسه، فالعمل ينبغي أن ينتج عن نيَّة صادقة، وعن إرادة متجرِّدة لفعل الخير ﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أَتَواْ وَّیُحِبُّونَ أَن یُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ یَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةࣲ مِّنَ ٱلۡعَذَابِ﴾.
4- إن التقلُّب في هذه الحياة في نِعَم الله أو في ضَنك العيش ليس دليلًا على الفوز والنجاح، ولا الهلاك والخسران؛ فأحوالُ الإنسان في هذه الدنيا من غِنًى وفقرٍ، وصحةٍ ومرضٍ، وما إلى ذلك لا تحمل دلالة معيَّنة على نتيجة المسعَى ﴿لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ (١٩٦) مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ ﴿وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ ﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّلۡأَبۡرَارِ﴾.
5- إن ميدان الامتحان يمتدُّ حتى الموت، وهو المصيرُ المحتومُ الذي لا يستثني أحدًا ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِ﴾.
6- إن الجزاء الحقَّ إنما هو الذي سيكون بعد الموت ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَ﴾، ﴿لَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا نُزُلࣰا مِّنۡ عِندِ ٱلـلَّـهِ﴾، ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابࣰا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ﴾.
وأما أولئك الكاذبون المكذبون ﴿سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِیقِ﴾، ﴿لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِﮇ مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾.
7- إن من تمام العبوديَّة الصادقة وعلامة الفوز أن يتضرَّع العبد بين يدي خالقه يطلب منه العفو والمغفرة، ولا يغترَّنَّ بما يُقدِّم، فإنَّ الله له المنَّة والفضل قبل العمل وبعده، فالله هو الذي ميَّزنا بالعقل، وحواس الإدراك، وأدوات العمل، وهو الذي علَّمَنا ما لم نعلم، ثمَّ إن ما قدَّمناه إنما هو لسعادتنا في الدنيا، والله هو الغنيُّ عنَّا وعن عبادتنا، فالثواب على الحقيقة إنما هو كرمٌ وفضلٌ محضٌ، ونحن لا نستحِقُّ الثوابَ إلا بوعده سبحانه؛ ولذا فإن الاغترار بالعمل دليلٌ على قلة الفقه، أو ضعف التديُّن ﴿رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِﯮ رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ﴾.


﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِیرࣱ وَنَحۡنُ أَغۡنِیَاۤءُۘ﴾ الله يسمع قول هؤلاء وقول غيرهم، ويسمع كلَّ همسةٍ وحركةٍ في هذا الوجود، والتنصيصُ على السمع هنا قُصِدَ به لازِمُه وهو الغضب الشديد؛ إذ سماع الشتيمة بلا نقلٍ أو واسطةٍ أَدعَى للغضب؛ ولذلك توعَّدَهم مباشرة ﴿سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِیقِ﴾.
وفي قوله: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِیقِ﴾ مقابلة القول بالقول، فلما قالوا كلمة الكفر، كانوا أَولَى بسماع قولة العذاب، و﴿ذُوقُواْ﴾ خرجت عن ذوق اللسان، وهو المألوف في أصل الاستعمال إلى معنى مباشرة العذاب وتحسُّسه يقينًا مؤكدًا، كما يتذوق اللسان المطعومات.

﴿إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ إشارة إلى أن قولهم في القربان الذي تأكله النار كذِبٌ مِن كذِبِهم، قصَدُوا بها التنصُّل من الاعتراف بالحقِّ المؤيَّد بالبراهين القاطعة، وحَرَفَ مسار الحوار إلى مثل هذه المُماحَكَات، وقد كشف الله نواياهم هذه ﴿قُلۡ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِی بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِی قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ﴾ والقرآن هنا يذكِّر بحادثة قتل اليهود لنبيٍّ لهم بعد أن جاءهم بقربانٍ تأكله النار كما طلبوا.

﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِ﴾ تقريرُ المصير الواحد الذي ينتظر البشَرَ بمُختَلَف أسمائِهِم وانتماءاتِهم، وفيه إشارة لتسلية المؤمنين على ما فَقَدوه من أحباب وأصحاب في معركة أُحُد.

﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ﴾ إشارة إلى صعوبة ذلك بسبب طبيعة البشر، وكثرة ظلمهم لأنفسهم؛ لأن الزحزحة عن الشيء تعني قرب الوقوع فيه، وهي إشارة تحذيريَّة وتربويَّة تجعل المرء أقربَ للطاعة، وأبعدَ عن المعصية.

﴿وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ في الدنيا نِعَم كثيرة وجليلة، وقد امتنَّ الله بها على عباده في أكثر من موضع، والتهوين منها هنا تهوينٌ نسبيٌّ؛ لأن المقام هنا مقام الآخرة، والدنيا بالنسبة للآخرة ليست بشيء؛ لأن الآخرة هي الخلود، وكلُّ عمرٍ يقاس بالخلود فهو ليس بشيء، والله أعلم.

﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أَتَواْ وَّیُحِبُّونَ أَن یُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ یَفۡعَلُواْ﴾ أي: بما أتَوا من جرائم ومظالِم؛ كتحريفهم للكتاب، وقتلهم للنبيين، وتعدِّيهم على مقام الربِّ الجليل سبحانه، وهذا سلوكٌ معروفٌ ومألوفٌ، فالكثيرُ من الظالمين يشعرون بالزهو ولذَّة الانتصار مع كلِّ جريمة يرتكبونها، فكلُّ أعمالهم المنكرة يعدُّونها إنجازات وانتصارات، وهم مع هذا يريدون من الناس وحتى المظلومين أن يُصفِّقُوا لهم ويشكُرُوهم على ما قدَّمُوه لهم! بعد تزيِينِهِ بالكذب والباطل، وهذا هو الرياءُ المُركَّب بالظلم والكذب، والذي استحقُّوا به ﴿فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةࣲ مِّنَ ٱلۡعَذَابِ﴾.

﴿ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ﴾ ترغيب بالذكر، وتيسير على الذاكرين ليذكروا ربَّهم في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، ووضعٍ وحالٍ؛ لما للذكر من دَورٍ في تهذيب النفس وتزكيتها ودفعها للعمل والسلوك الأفضل.

﴿رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ﴾ ترغيب في الدعوة إلى الله، وفي النداء معنى الصراحة والوضوح والشعور بجديَّة الأمر، وكل هذا من شروط نجاح الدعاة في مهمتهم.

﴿إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ﴾ وهو الميعاد بالثواب وقبول التوبة واستجابة الدعاء، والله لا يخلف أبدًا ما وَعَدَ به، أما الوعيد فإنه مختلف؛ لأن العفو عن مستحق العقوبة واردٌ، وهو من كمال ربوبيَّته سبحانه، وهي صفةٌ محمودةٌ في الخلق، فكيف بالخالق الذي هو الأرحَمُ بعباده، والأغنى عن معاقبتهم؟

﴿لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ﴾ إشارة أنهم الكبار الذين يتحكَّمُون في البلاد والعباد، والذين يغترُّ بهم عامة الناس؛ لما يمتازون به من متاعٍ وأبَّهةٍ وسلطانٍ.

﴿ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ﴾ ثلاثة أوامر ربَّانيَّة للعباد المؤمنين تختتم بها السورة، والفرق بين الصبر والمُصابرة: أن المُصابرةَ لا تكون إلا بوجود خَصمٍ صابرٍ على باطله لتتحقق المشاركة والمغالبة، وهو مُستوى من الصبر أشدُّ من الصبر الأول؛ لأنه يستلزم المطاولة وحبس النفس إلى نهاية المشوار، فإنما الأمور بخواتِيمِها.
وأما المُرابطة فهي المكوث في موضع الحراسة أو ساحة الجهاد، مع الحذر والاستعداد التام، ويُقاسُ عليها الثبات في كل ميادين الحقِّ؛ من دعوةٍ، وتربيةٍ، وعلمٍ، وعملٍ، وهي معاني التقوى، وشروط الفلاح ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾.