سورة آل عمران تفسير مجالس النور الآية 34

ذُرِّیَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضࣲۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ﴿٣٤﴾

تفسير مجالس النور سورة آل عمران


المجلس الرابع والعشرون: التمايز بين أهل الحق وأهل الباطل


الآية (10- 34)


إن القضيَّة المحوريَّة التي يتناولها هذا المقطع إنما هي الصراع المستمر بين أهل الحقِّ وأهل الباطل، وقد عرض القرآن الكريم في هذا المقطع معالم واضحة لهذا الصراع وطبيعته ومآلاته مما لا غنى عنه لكلِّ جيلٍ من أجيال المؤمنين، وفي كلِّ حلقةٍ من حلقات هذا الصراع.

أولًا: فيصل التفرقة بين الفريقَين إنَّما هو الإسلام ﴿إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ﴾ ﴿فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ﴾.

ثانيًا: يتميَّز المؤمنون بكل عمل صالح ونافع للبشريَّة ﴿ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ إِنَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِﭜٱلصَّـٰبِرِینَ وَٱلصَّـٰدِقِینَ وَٱلۡقَـٰنِتِینَ وَٱلۡمُنفِقِینَ وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِینَ بِٱلۡأَسۡحَارِ﴾.

ثالثًا: يُقابل أولئك المؤمنين الكافرون ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَیَقۡتُلُونَ ٱلَّذِینَ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ﴾.

رابعًا: ينتمي المؤمنون إلى عمقٍ تاريخي يضم خيرة البشر في كلِّ جيل ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰۤ ءَادَمَ وَنُوحࣰا وَءَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَءَالَ عِمۡرَ ٰ⁠نَ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٣٣﴾ ذُرِّیَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضࣲۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ﴿٣٤﴾ وهذا الانتماء إنما هو انتماء للحق أينما كان زمانًا ومكانًا وحالًا، بغض النظر عن الانتماءات الثانويَّة والجانبيَّة، كالانتماء للنسب والأرض واللون والطبقة الاجتماعية.

خامسًا: والكافرون أيضًا لهم سندهم التاريخي، ولهم أسلافهم في الكفر والظلم والضلال ﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ﴾.

سادسًا: وبين الفريقَين تمايُز في الفكر وصراع حتمي على الأرض ﴿فِئَةࣱ تُقَـٰتِلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ ﴾،﴿لَّا یَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰ⁠لِكَ فَلَیۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِی شَیۡءٍ﴾.

سابعًا: وأن الدافع للتمسك بالباطل والتقاعس عن نصرة الحقِّ إنما هو شهوة الدنيا ﴿زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَـٰطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَ ٰ⁠لِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا﴾، أما دافع المؤمنين وحادِيهم إلى البذل والتضحية فإنما هو الرضوان من الله والجنة ﴿لِلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَأَزۡوَ ٰ⁠جࣱ مُّطَهَّرَةࣱ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱ مِّنَ ٱللَّهِ﴾.



﴿قُل لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ﴾ ليس هذا قانونًا لازمًا لكلِّ كافرٍ، وإنما هو خبرٌ مخصوصٌ بزمانه ومكانه وأشخاصه بعد توفُّر مستلزمات النصر والتمكين للأمة المسلمة، أما بفقدها فإنَّ سُنن الله في انتصار القوي الآخذ بالأسباب وإن كان كافرًا لن تتخلف، ومثاله: ضياع الأندلس وخروج المسلمين منها، وكذا ضياع فلسطين والكثير من بلاد المسلمين مع أن الطرف المتغلِّب لا شك في كفره.

﴿زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ﴾ أسند الفعل لمجهول؛ لتتَّسِع العبارة لأكثر من فاعل، ولأكثر من غرض، فالله ركَّب في الناس هذه الشهوة وجعلها أصلًا في جوهر الإنسان وخِلقَته؛ امتحانًا لهم، ودفعًا لإعمار الأرض والمنافسة فيها، والشيطان يُزيِّن هذه الشهوات بطريقة أخرى ليدفعهم نحو الفساد وارتكاب المحرَّمات، وأهل الباطل يقدِّمون هذه الشهوات إغراءً للناس، وطلبًا لودِّهم وتأييدهم.
ولأن هذه الشهوات ليست شرًّا محضًا، بل هي بحسب التزيين والمُزيَّنَة له، جاء تعقيب القرآن: ﴿قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَیۡرࣲ مِّن ذَ ٰ⁠لِكُمۡ﴾ فالخير موجودٌ في هذه الشهوات، وهو مُمتزِجٌ بالشر، أما خيرُ الآخرة فهو خيرٌ خالصٌ ليس فيه مِن دَخَن الباطل شيء.

﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤىِٕمَۢا بِٱلۡقِسۡطِ﴾ إشارة إلى أن العدل لا يكون بغير العلم، فمن وَلِيَ من أمور الناس شيئًا وهو جاهل فقد وقع في الظلم لا محالة.

﴿وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡ﴾ وهذا نوعٌ آخرٌ من الظلم لا يكون بسبب الجهل، وإنما بسبب البغي، وهو الشهوة الداخلية للتجاوز على حقوق الآخرين مع سابق علمه وتقصُّده.
﴿وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ﴾ إشارة إلى أن الداعية لا يُكلَّف بتغيير قلوب الناس، ولا يُحاسب على النتائج، فمهمته البلاغ لا غير، وهنا زلَّت الأقدام في تصوُّرَين خاطئين:
مَن جعل هذا ذريعةً للغلظة في البلاغ، وهذا مُنافٍ لقوله تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125].
وهناك من ظنَّ أن المسلم لا يُحاسب على نتائج تصرفاته في السياسات والإدارات قياسًا على مسألة التبليغ، وهذا مُنافٍ لكلِّ مبادئ العدل وقواعد الشرع، فالجاهل في الصنعة ضامن ومحاسب حتى في الطبخ والخياطة ودقائق الأعمال والوظائف، فكيف بمصير الأمم والجماعات وما يتعلق بها من دماء وأموال وجهود؟
وقد صحّ عن رسول الله أنه قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، والمسؤولية لا تنحصر في حسن النيَّة، بل هي أوسعُ وأكبرُ من ذلك.

﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُ﴾ نسب كل ذلك لمشيئته المطلقة سبحانه من غير تحديدٍ للجهة التي تقع عليها هذه المشيئة؛ لكي لا يظنَّ ظانٌّ أنه بانتسابه لهذا الدين قد ضَمِنَ الملك والعزة، فسُنن الله غلَّابة، وهي لا تُحابِي ولا تُجاري أحدًا، وإطلاق المشيئة ليس معناه الفوضى - حاشَا لله -، وإنما هي السنن الإلهية والنظام الكوني الذي أودَعَه الله في هذا الكون، والذي لا يتخلّف أبدًا إلا ما شاء الله تعالى.

﴿إِلَّاۤ أَن تَـتَّـقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةࣰۗ﴾ هذا استثناء من وجوب التمايُز عن أهل الباطل، أباحَ الله فيه مُوافقتهم ظاهرًا اتقاءً لشرِّهم، ولهذا الاستثناء ضوابط معروفة في مظانِّها، فليس كلُّ إكراهٍ يسوِّغ الحرام، فالإكراه على القتل، أو انتِهاك العرض، أو معاونة العدو بكشف عورات المسلمين ونقل أخبارهم، كلُّ هذا ونحوُه لا يدخل في الاستثناء؛ إذ الاستثناء جاء لدفع الضرر، والضرر المتوقع هنا أشد، فيعود الحكمُ إلى الأصل، والله أعلم.

﴿قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِی صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُ﴾ هذه تتمَّة للاستثناء، فالاستثناء الوارد لا يُعفي المسلم من مراقبة نفسه وتنقية نيَّته، ومقتضى التتمَّة هذه أن موافقة الباطل ينبغي أن لا تكون برغبةٍ ورضا نفسٍ، ولا تكون ذريعةً للتقرب من أهل الباطل طمعًا بما عندهم من مالٍ وجاهٍ، بل هي ضرورة، والضرورة إنما تُقدَّر بقدرها.

﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ﴾ دلالةٌ أن العلاقة بين العبد وربه ليست علاقة الطاعة المجرَّدة، والعبوديَّة النابعة من خضوع الضعيف للقوي، كما يخضع العبيد لأسيادهم، والجنود لقادتهم، بل هي علاقةٌ قائمةٌ على المحبَّة، وما العبادة إلا وسيلة للربط بين المحبَّتين: محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، فالعبد يحبُّ الله فيهرع للصلاة؛ لأنَّها صِلَتُه بمحبوبه، والله يُقبِلُ على عبده في الصلاة فيسمع له، ويستجيب دُعاءَه، وهذه العبادة لا تصح إلا باتِّباع رسول الله ؛ إذ هو المبلِّغُ عن الله، فطاعتُه إنما هي طاعة لله، وهكذا يكون اتباع النبي واسِطة العقد بين المحبَّتَين.