﴿إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَ ٰنَ رَبِّ إِنِّی نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِی بَطۡنِی مُحَرَّرࣰا﴾ إشارة إلى يتم مريم؛ حيث كانت أمها تتولاها وتقرر مصيرها لوحدها دون استئذان الأب أو استشارته، وفيه صدق العزم وحسن التوكل والتعبُّد من قِبَلِ الأم؛ لأنها مع ترمُّلها تكون أحوجَ لوليدها، لكنها نذَرَته لله
﴿مُحَرَّرࣰا﴾ أي: خالصًا ليس لها فيه نصيب.
﴿وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰ﴾ يحتمل أنه من كلام امرأة عمران، كأنها تتحسَّر أن لم يكن المولود ذكرًا؛ ليكون أقدر على خدمة الدين، ويحتمل أن يكون من كلام الله المكمل لقوله:
﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ﴾ جوابًا لقولها:
﴿رَبِّ إِنِّی وَضَعۡتُهَاۤ أُنثَىٰ﴾ فيكون المعنى: أن الله أعلم بما وضعت، وأنه تعالى يعلمُ أن الذكر الذي تتمنَّاه ليس بأفضل من هذه الأنثى التي اختارها الله.
ويحتمل أن يكون ذلك تقريرًا لواقع التفاوت بين جنس الذكور وجنس الإناث عامة، فتكون اللام فيهما للجنس وليس للعهد، والتفاوت بين الجنسَين حقيقة لا ينكرها إلا مُكابِر، وهو تفاوت وظيفي؛ فللذكر دوره في هذه الحياة، وللأنثى دورها، والتفاوت سمة في هذا الخلق وأحد مقوِّمات وجوده واستمرار الحياة فيه، والله أعلم.
﴿أُعِیذُهَا بِكَ وَذُرِّیَّتَهَا﴾ تأكيدٌ لحرص الأم الصالحة ليس على أولادها فقط؛ بل وذرياتهم بإطلاق ومن دون تحديد؛ ليشمل كلَّ جيلٍ آتٍ إلى يوم الدين، وهذه رغبة تعبِّر عن قلب موصول بالله واليوم الآخر، ومملوء بمحبة الخير لكلِّ الناس.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِیَّا﴾ وهذا من تداخُل القدر الإلهي بالفعل البشري؛ حيث ذكر القرآن فيما بعد أنهم تخاصموا واقترعوا في كفالتها حتى خرج سهم زكريا، فتتحصَّل هنا صورتان: صورة الخلق وهم يتنافسون ويقترعون، وصورة القدر المحتوم باختيار زكريا، والصورتان ممزوجتان لا تنفكُّ إحداهما عن الأخرى، وهذا كثيرٌ في القرآن، ومثله:
﴿وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ [الأنفال: 17]، والله أعلم.
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَیۡهَا زَكَرِیَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقࣰاۖ قَالَ یَـٰمَرۡیَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ﴾ إشارة لصلاحها وكثرة تعبُّدها، فوجودها المتكرر في المحراب لا يَحمِل إلا هذا، وأما الرزق فهو من الله سواء كان بواسطة أو بغير واسطة.
وسؤال زكريا لها فيه استغراب، وهو ما يشير إلى ما نقله بعض أهل التفسير من وجود الطعام عندها في غير أوانه المعهود، ولا يمنع أيضًا أن يكون بعض هذا الطعام من النفر الذين كانوا حريصين على كفالتها، ويكون سؤال زكريا عن المصدر احتفاظًا بفضله، واطمئنانًا على مكفولته، وكل ذلك يَصدُقُ فيه قولها:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَرۡزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابٍ﴾، والله أعلم.
﴿وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ﴾ شهادة للكفيل، كما شهد للمكفولة بحسن التبتل وطول التعبد، وفيه إشارةٌ أن ذلك التبتُّل والتعبُّد مظنَّة استجابة الدعاء، كما قال تعالى في موضع آخر:
﴿أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُواْ لِی وَلۡیُؤۡمِنُواْ بِی﴾ [البقرة: 186].
﴿أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ أما الكلمة فهي إشارة لمجيء عيسى
عليه السلام، وهما من عائلة واحدة؛ فيحيى ابن الكفيل، وعيسى ابن المكفولة، والسيِّد: الشريف في قومه المتقدِّم عليهم بكلِّ خصالِ الخيرِ والريادةِ.
وأما الحَصُور فالسياق للمدح، وما ذكره بعض المفسِّرين من منعه خِلقةً عن مقاربة النساء ليس فيه مدح، والأظهر أنه محفوظ من الوقوع بما يخالف مقام النبوة والسيادة، فليس في اللفظة دلالة على غير الحفظ والصيانة، والله أعلم.
﴿قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَیَّامٍ إِلَّا رَمۡزࣰاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِیرࣰا﴾ لقد طلب زكريا آية من ربه على قرب تحقق ما وعده الله به من رزقه بيحيى بعد أن شاخَ وكبِرَ، فكانت العلامة بانقطاعه عن كلام الناس وتفرغه لذكر الله ثلاثة أيَّام تامة ومتوالية، والانقطاع لا يكون علامة إلا بسلب قدرته على الكلام، وهي خارقة أيضًا.
وفيها إشارة أن التوجُّه إلى الله وحده والتوكل عليه والثقة به مظنة استجابة الدعاء، ولا بأس بالتفرغ لذلك لبعض الوقت، كما هي سنَّة النبيين في الاعتكاف، والله أعلم.
﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ﴾ الظاهر أن الملائكة كلَّموها شِفاهًا، وهذا هو الأصل، وتأويله بالإلهام أو المنام تحرُّزًا عن القول بنبوَّة النساء لا يخلو من التكلُّف، ولا أعلم نصًّا صريحًا في المنع يقتضي هذا التأويل خاصَّة عند من يفرِّق بين معنى النبي ومعنى الرسول، فيرى التبليغ لازمًا للرسالة دون النبوة، فهذا التفريق متنفَّسٌ قويٌّ لمن يقول بنبوة المرأة؛ إذ لم يَرِد اختصاص الرجال إلا بالرسالة
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا﴾ [يوسف: 109]، والله أعلم.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ﴾ الكلمة هي الأمر الإلهي بخلق عيسى من دون مباشرة الأسباب المعهودة، فعيسى هو كلمة الله، أيْ: أنه كان بكلمة الله وليس هو الكلمة، وقدَّم الكلمةَ على الاسم؛ لما فيها من تنزيهِ مريم وتقديم براءتها على بشارتها، وهذا هو الأَولَى بكلِّ امرأةٍ صالحةٍ، فكيف بمريم؟ والبشارة لها تقتضي أنه ابنها، ثم نسبه إليها صراحة تشريفًا وتكريمًا لها.
﴿وَیُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰا﴾ التكليم في المهد على غير المعهود معجزة له وكرامة لأُمِّه؛ لأنه الدليل على براءتها، وتكليمه كهلًا هو التبليغ برسالة الله، وخصَّهما بالذكر لأهميتهما وعِظَم قدرهما، وإلا فهو قادرٌ على الكلام في كل أيَّامه ومراحل عمره كسائر الناس.
﴿وَیُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ﴾ عطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة يحتمل أنه من إضافة الخاص على العام، فالله قد أعطى عيسى
عليه السلام العلمَ بما هو مكتوب من علوم الأولين، ثم أعطاه القدرة على الاختيار، وتمييز الصحيح من السقيم، ثم علَّمَه التوراةَ، وأوحى إليه بالإنجيل.
﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ دلالة على خصوصية الرسالة المسيحية في بني إسرائيل، وما طرأ من تعميم الرسالة إنما أحدَثَه بعض المنتسبين إليه، وفي رسائل بولص تصريح بهذا، وهو من جملة التحريفات التي تعرَّضَت لها الرسالة.
﴿أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ الخالق هو الله، ونسبة الفعل إلى عيسى
عليه السلام من باب نسبة الحدث إلى سببه، كما تقول: هذا الدواء يشفي، وهذا القارب ينجي، واختصاصه بهذا السبب على خلاف العادة هو المعجزات الخاصّة بالنبيين وقد تقدَّم مثله في سورة
البقرة عن إبراهيم
عليه السلام:
﴿رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ [البقرة: 260]، وقوله:
﴿بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾، و
﴿بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ فيه تأكيد لجانب التوحيد وتبرئة السيد المسيح من صفات الألوهية التي يلصقها به النصارى ظلمًا وكفرًا.
﴿وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ دليل أن دين الله واحد، فحواريُّو عيسى وأصحاب محمد وكل متَّبع لنبي هم أمة واحدة، وينتسبون إلى دين واحد مهما اختلفت أجناسهم وأزمانهم.
﴿إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَىٰۤ إِنِّی مُتَوَفِّیكَ وَرَافِعُكَ إِلَیَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ الأصل في التوفِّي عند إطلاقه الموت، وهو الشائع عند العرب والمعروف في لغتهم بحيث لا تنصرف الأفهام إلا إليه بادي الأمر، وإنما تأوَّلَه هنا من تأوَّلَه بالنوم والوفاء وغيرهما من التأويلات؛ لورود الأخبار الصحيحة بنزوله
عليه السلام في آخر الزمان، فصار الناس إلى واحدٍ من التأويلَين؛ إما تأويل الوفاة، وإما تأويل النزول، والأَولَى الجمع بينهما من غير تأويل، فالله ذكر أنه يتوفَّاه ويرفعه ويطهره، فهذه أفعال عُطِفَت بالواو، والواو يقتضي العطف ولا يقتضي الترتيب.
وربما قدَّم التوفِّي دفعًا لتوهُّم الاستثناء بالخلود، وتقريرًا للحقيقة التي يخضع لها الخلق كافة، فبدأ بها ثم عرَّج على ما خصَّه الله به من رفعِهِ إلى السماء وهو حيٌّ، وبقائِهِ فيها إلى يوم أن يبعَثَه الله إلى الأرض، كما أخبر رسولنا الصادقُ المصدوقُ عليه وعلى سائر النبيين الصلاة والتسليم.
﴿وَجَاعِلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ ذكَرَهم بوصف الاتباع وليس بالجنس واللون والانتساب المجرَّد، فالأنبياء ليسوا أبطالًا قوميين أو وطنيين، بل هم حَمَلَة رسالة، من اتَّبَعها كان معهم، ومن حادَ عنها كان في الخندق الآخر، والمسلمون إن صدقوا الاتباع كانوا أَولَى بهذا الوعد؛ لأنهم الأقرب إليه ممن يُؤلِّهه اليوم ويعبده من دون الله.