المسألة الأولى: القول في عيسى
عليه السلام:
اختلف أهل الكتاب في عيسى عليه السلام على قولين ضدّين؛ فقالت اليهود بتكذيبه والطعن في نبوته ونسبه، وقالت النصارى بألوهيَّته وأنه ثالث ثلاثة وأنه ابن الله، ومنشأ الخلاف بينهما إنما هو في قصَّة خلقه
عليه السلام؛ لأنه وُلد من غير أبٍ، كما هو متفق عليه بين الديانات الثلاث، فكان هذا مدخلًا للطعن فيه وفي أمه عند اليهود، وهو بذاته مدخلٌ لرفعه إلى مقام الألوهيَّة، وادِّعاء أنه ابن لله عند النصارى؛ حيث إن الوليد لا بُدَّ له من والِدَين (أب وأم)، هكذا جرَت سنَّة الله في خلقه، وغيابُ الأب في قصَّة عيسى
عليه السلام بحاجةٍ إلى تفسير، ولم يهتَدِ أهل الكتاب إلا إلى هذَين التفسيرَين الضِّدَّين.
جاء القرآن لينبِّه الطرفين إلى تفسير ثالث
﴿إِنَّ مَثَلَ عِیسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ فآدم خُلِقَ من دون أبٍ ولا أمٍ، وهذا محلُّ اتفاق الديانات الثلاث، وهو مثال يصحُّ القياس عليه من حيث التصوُّر العقلي وليس من حيث السنَّة المعتادة؛ إذ إن خَلق آدم كان استثناءً، وهذا الاستثناء وارد في النص ومتصوَّر في العقل، وهو التفسير الأقرب للعقل من كلِّ التفسيرات والنظريات الأخرى التي تُحاول الوصول إلى نقطة البداية في هذا الخلق.
إن وجود ولد من دون أب من شأنه أن يثير الريبة - بلا شك -، والإسلام لا يدعو إلى نقض هذه الحقيقة؛ لأنه يُقرُّ النواميسَ الكونيةَ، ويدعو إلى احترامها، وتفسير الأحداث على ضوئها، لكنه في الوقت ذاته يفتح بابًا ضيِّقًّا للاستثناء وباحتياطات مشدَّدة، وهو بابُ المعجزات وخوارق العادات، فما ثبت منها بالدليل القاطع فهو حقٌّ، وما كان بخلافه فهو مرفوض ولا يُقام عليه حكم، وإلا وقع الخلَلُ في حياة الناس ونظامهم، والتَبَسَ الحق بالباطل.
ومن هنا لو ادَّعَت امرأةٌ أنها حمَلَت من غير زوجٍ، واحتَجَّت بقصة آدم أو بقصة عيسى
عليهما السلام، فادِّعاؤها مرفوض واحتجاجُها باطل، أما في قصة عيسى
عليه السلام فقد تضافَرَت الأدلة القاطعة على صدق مريم فيما ادَّعَته، ويكفيها شهادةُ وليدها ونطقُه بالحق في أيامه الأولى، وهي معجزة وبرهان إلهي لا يتكرَّر لغيرها في مثل دعواها، إضافةً إلى الأجواء العامة التي أُحيطَت بها مريم
عليها السلام من ولادتها وكفالتها إلى حملها ولجوئها إلى الجذع، وكذا ولادة ابن كفيلها يحيى بن زكريا
عليهما السلام، وهذا كلُّه استثناءٌ قدريٌّ من أصل السُّنَّة المعتادة.
وهذه المُحاجَجَة موجَّهة في الظاهر إلى اليهود الذين غلَّبُوا هنا جانب السنَّة المعتادة، فاقتَضَى تنبيههم بقصة آدم أن الاستثناء وارد حتى في عقيدتهم، والاستثناء في خَلْق آدم أقوى؛ لأنه خُلِق من غير أبٍ ولا أمٍّ.
أما محاججة النصارى فهي تعتمد على تنبيههم أن وجود الوليد من دون والد لا تعني أنه ابن للإله، ولو كان كذلك لكان آدم أحقَّ بالألوهية أو بالبنوَّة لله من عيسى؛ لأن عيسى فاقد الأب فقط، وآدم فاقد الأب والأم.
المسألة الثانية: التوحيد:
وقد اقتَضَى التطرُّق لهذه المسألة في هذا المقطع استرسالًا في محاورة النصارى بعد قولهم في عيسى
عليه السلام، ورفعهم له إلى مقام الألوهية، وهذا شركٌ أكبر، وهو شرٌّ مما وقعت فيه اليهود من الطعن والقذف.
وقد ربط القرآن بين المسألتين بقوله:
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ﴾، ثم وجَّه لهم الدعوة للتراجع عما وقعوا فيه:
﴿قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾، ثمَّ نزَّهَ القرآن عيسى
عليه السلام عن هذه المقولة الكافرة الظالمة:
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُؤۡتِیَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادࣰا لِّی مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِیِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ﮋ وَلَا یَأۡمُرَكُمۡ أَن تَـتَّـخِذُواْ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾.
والقرآن هنا يتعرَّض لعقيدة النصارى بشيءٍ من التفصيل؛ حيث ندَّد باتخاذ الملائكة أربابًا، وليس النبيين فقط، وهو ما عليه (التثليث المسيحي) الأب والابن وروح القدس.
إن عجز النصارى عن تفسير معجزة ولادة السيد المسيح قد أوقعهم في المستحيلات العقليَّة والدينيَّة، وجاءوا بعقيدة مركَّبة تركيبًا عبثيًّا؛ ليحلُّوا بها سرَّ تلك الولادة، ثم ذهبوا ليُقيمُوا عليها أصل تصورهم للدين والحياة، وعالَميْ الغيب والشهادة، وقد كان الأمر أهون من ذلك بكثير.
المسألة الثالثة: تحريف الكتاب:
وهو اتهامٌ يوجهه القرآن صراحة لأهل الكتاب في هذا الموضع وفي غيره
﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقࣰا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ﴾، ويقول:
﴿یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾.
وتحريف الكتاب الذي بين أيدينا اليوم بعهدَيْه (القديم والجديد) وبملحقاته وشروحاته حقيقة واقعة لا ينكرها إلا مكابر، ليس لما تحويه من شركٍ ظاهر، ومخالفات لثوابت التوحيد والإيمان فحسب، بل لما تحويه أيضًا من تناقضات صارخة بين سِفرٍ وسِفرٍ، ونسخةٍ ونسخةٍ، وقد تابَعتُ الكثيرَ من هذا بنفسي، وليس هنا محلُّ التفصيل.
المسألة الرابعة: حقيقة الإبراهيمية:
الرسالات السماويَّة واحدة، وقد جاءت من مصدر واحد، ولغاية واحدة؛ ولذا نجد
القصص النبوي يأخذ المساحة الأوسع من آيات القرآن الكريم، ويصرِّح باتِّباعهم والاقتِداء بهم جميعًا
﴿فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡ﴾ [الأنعام: 90].
والخلاف بين الديانات السماويَّة ليس مردَّه اختلاف الرسالات، بل التحريف الذي تعرَّضَت له الديانات السابقة (اليهوديَّة والنصرانيَّة) وكتبهم الموجودة بين أيدينا اليوم تؤكِّد هذا التحريف، إلا أن اليهود وكذا النصارى يُصرُّون على صحة انتسابهم للإبراهيميَّة وهي ديانة إبراهيم
عليه السلام، بل وانتساب إبراهيم لهم! لمآرب كثيرة، منها: أن سيدنا إبراهيم هو القاسم المشترك الأقرب بين الديانات الثلاث، فإثباتهم ليهوديته أو لنصرانيته يعطيهم دليلًا مضافًا، ومصداقيةً أكثر لصحة ديانتهم، ثم يتَّخِذون هذا قاعدةً لإبطال كلِّ ديانةٍ تُخالفهم؛ لأنها ستخالف بالضرورة القاسم المشترك لهذه الديانات، من هنا يأتي اهتمام القرآن بهذه المسألة.
يبدأُ القرآن مجادلته معهم بقوله:
﴿یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لِمَ تُحَاۤجُّونَ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمَاۤ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِیلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ وهذه المحاججة ليست على طريقة القرآن المعهودة؛ حيث إن الأصل في القرآن الكريم أنه يتكلَّم عن كلِّ الأنبياء بسياقٍ واحد، فهم كلُّهم يحمِلُون وحيَ الله إلى عباد الله من أولهم إلى آخرهم، فاليهودية حقٌّ، والنصرانية حقٌّ، كما كانت الإبراهيمية حقًّا، وسبق الإبراهيمية لهما لا يستلزم بطلانهما، ولو صحَّ لانجرَّ هذا الحكم إلى الرسالة المحمديَّة أيضًا ومن باب أَولَى لتأخُّرها في الزمن عنهما.
الحقيقةُ: أن القرآن هنا يُحاجِجُ كلَّ قومٍ على وفقِ منهجهم وطريقتهم في التفكير، فاليهود - والنصارى في هذا تَبَعٌ لهم - إنما يتكلَّمُون عن الانتِساب السُّلاليِّ الوراثيِّ، ونصوص العهد القديم التي بين أيدينا لا تذكر إبراهيم إلا أنه جدٌّ لسلسةِ (العهد الإلهي)، وهنا يردُّ القرآنُ عليهم ويؤكِّد الانتساب الديني العقدي، والتشابهَ الواضحَ بين ما كان عليه إبراهيم وكلُّ الأنبياء من بعده وبين ما جاء به النبيُّ الخاتم
ﷺ.
إن القرآن يقول لليهود: إن كنتم تنتسبون لإبراهيم فأظهِروا عقيدة إبراهيم؛ لكي تصحَّ أصلًا للحكم والقياس والمحاجَّة، وإن لم يكن عندكم منها شيء
﴿فَلِمَ تُحَاۤجُّونَ فِیمَا لَیۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمࣱۚ﴾، أما إن كان مُستَنَدكم السند السُّلالِيَّ الوراثيَّ المجرَّدَ فهذا لا يصلح دليلًا لانتسابكم له، فكيف بانتسابه لكم؟
﴿ مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیࣰّا وَلَا نَصۡرَانِیࣰّا﴾ وهذا هو الذي استوجب النكير المشدَّد
﴿أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾.
ومن هنا نجد القرآن يؤكِّد دعوة إبراهيم للتوحيد، ومحاربة الأصنام، وبناء الكعبة إبرازًا لعناصر الالتقاء بين الدعوة في عنوانها الإبراهيمي وبين الدعوة في عنوانها المحمدي، وفي هذا تأكيدٌ أيضًا لمنهجية القرآن في التقويم على أساس فحوى الرسالة ومضمونها وليس على مقولات النسب والسلالة والوراثة، والقرآن يؤكِّد في موضع آخر أنَّ إبراهيم
﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾ [الحج: 78]، وهذا يفسِّر المقصود بقوله هنا:
﴿وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفࣰا مُّسۡلِمࣰا﴾ فأصل التسمية منه ونحن له تَبَع.
وقد صرَّح القرآن بهذه التبعيَّة:
﴿أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ﴾ [النحل: 123]، و
﴿ قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ﴾ [الممتحنة: 4]، والقرآن هنا لا يعزل اليهوديَّة والنصرانيَّة عن هذا السياق، فهو يقول:
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ یَـٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَیۡهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِینَ﴾ [يونس: 84]، ويقول:
﴿فَلَمَّاۤ أَحَسَّ عِیسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران: 52]، وفي هذا تتَّضِح الصورة الكاملة، ويتبيَّن موضع الخطأ الدقيق في دعوى اليهود والنصارى، والله أعلم.
المسألة الخامسة: قواعد الحوار:
في ثنايا هذه الحوارات يعرض القرآن لجملةٍ من قواعد الحوار المنتج وآدابه، فهو يجمع بين الأسلوب العلمي والقياس العقلي، وبين الأسلوب العاطفي الوجداني، فتراه مرةً يقول:
﴿تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ﴾ ويقول:
﴿تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَاۤءَنَا وَأَبۡنَاۤءَكُمۡ وَنِسَاۤءَنَا وَنِسَاۤءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾، وفي مكان آخر يقول:
﴿إِنَّ مَثَلَ عِیسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾، ويقول:
﴿لِمَ تُحَاۤجُّونَ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمَاۤ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِیلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾، وهو في كلِّ هذا إنما يُخاطِبُهم بندائه المتكرر:
﴿یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ وهو نداء الاحترام والتذكير بالمشتركات.
وحينما ينتقد القرآن سلوكًا ما فإنه لا يُعمِّم، بل يحتاط لكي لا يصِل النقدُ لبريءٍ ولو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، فتراه يقول:
﴿وَدَّت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یُضِلُّونَكُمۡ﴾، ويقول:
﴿وَقَالَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾، ويقول:
﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ ﴾، وهذا هو العدل الذي جاء به الإسلام، والإنصاف الذي أمرنا أن نحتكم إليه حتى مع المخالفين.