﴿لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ﴾ رُكنا الميثاق: الإيمان ثم النصرة، وفيه إشارة إلى أن الصراع بين الإيمان والكفر صراعٌ حتميٌّ، وأن مستقبل الإيمان على هذه الأرض مرهونٌ بحماية أهله له ودفاعهم عنه.
﴿أَفَغَیۡرَ دِینِ ٱللَّهِ یَبۡغُونَ وَلَهُۥۤ أَسۡلَمَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَإِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ﴾ إشارة إلى أن الإسلام يُحقِّق الانسجام بين الإنسان والكون المحيط به؛ ذلك لأن الكون كله خاضع في حركته كلها للنواميس الإلهية خضوعًا قدرِيًّا، فخضوع الإنسان للأحكام الإلهية يُحقِّق هذا الانسجام، ويشعر معه الإنسان أنه أصبح صديقًا لهذا الكون ومفرداته التي سخَّرها الله بالأصل لخدمته وتحقيق سعادته.
وفي قوله:
﴿وَإِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ﴾ اختصار لمجادلة قرآنية أنَّ الناس قد يختَلِفُون هنا على هذه الأرض على مناهج ومشارب، فالأَولَى بهذا الإنسان أن يسلك النهج الذي يضمَنُ له سعادته في حياته الثانية، وعلى هذا ينبغي عليه استبعاد المشارب الأرضيَّة والدنيويَّة البحتة؛ لأنها لو حققت له بعض مصالحه هنا، فكيف بحياته الأبدية هناك؟ مع أن الإسلام هو الأقدر على تحقيق المصلَحَتَين.
﴿وَمَن یَبۡتَغِ غَیۡرَ ٱلۡإِسۡلَـٰمِ دِینࣰا فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡهُ﴾ الخلاف في كون المقصود بالإسلام هنا الدين الجامع لكل الرسالات السماويَّة، أو الرسالة المحمديَّة خاصة خلاف لا يُنتِج؛ فالإسلام بمعناه الأول يتحقق في كل عصر بالرسالة التي تمثله، والكفر بالرسالة اللاحقة ينقض الإيمان بالرسالة السابقة، فالذين آمنوا بالتوراة ثمَّ لم يؤمنوا بالإنجيل قد كفروا بالتوراة أيضًا، وإن ادَّعوا الإيمان بها، وهكذا مَن آمَنَ بالإنجيل ثم كفر بالقرآن، أما بمعناه الثاني فهو حكم للمخاطبين الموجودين فعلًا أثناء البعثة المحمديَّة وما بعدها حتى قيام الساعة، وبهذا تكون النتيجة واحدة على المعنَيَين، والله أعلم.
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ﴾ الإصلاح شرط التوبة المقبولة عند الله؛ لأنه الكفيل بتحويل الندم إلى فعلٍ إيجابيٍّ مؤثِّرٍ، أما بدونه فقد تكون مجردَ حالة نفسية تنتَابُ المرءَ بعد ضعف شهوته الدافِعَة له نحو الظلم والخطيئة.
﴿فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبࣰا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦۤ﴾ إشارة أن الطاعة إنما تقبل في وقتها، أما بعد غلق الصحف وانتهاء مرحلة التكليف والاختبار فلا عبرة لها.
وفيه إشارة أن الله غنيٌّ عن العالمين، وهو قادرٌ أن يسدَّ حاجة عياله الفقراء دون صدقةٍ ولا زكاةٍ، وإنما فتَحَ لأهل الخير هذا الباب رحمةً بهم، وابتلاءً لصدق إيمانهم.
﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ لأن المتصدِّق إنما يتصدَّق لله امتثالًا لأمره، وطمعًا برضاه وقُربه، ومصداق هذا القصد إنما هو إيثار ما يُقدِّمه لله على ما يُقدِّمه لنفسه، وهذا يشمل كل ما يُقدِّمه المسلم من مالٍ وجهدٍ ووقتٍ، فمن جعل لله الفَضلةَ من ذلك كله كان أبعد ما يكون عن البرِّ بالله، وهو الاجتهاد في محبَّته I، والتحبُّب إليه بكلِّ ما يُحبُّ من الصالحات.
﴿كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلࣰّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَ ٰۤءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ﴾ إسرائيل هو نبيُّ الله يعقوب، و
التحريم معناه هنا: الامتناع عن المباح، كما حصل لرسولنا الكريم في قوله تعالى:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ﴾ [التحريم: 1]، وهذا الامتناع ليس تشريعًا؛ إذ ليس لأيِّ نبيٍّ أن يشرِّع من نفسه.
وقد ورد في المأثور أن هذه الآية جاءت في أجواء المنازعة في حقيقة الرسالة الإبراهيميَّة والمنتسبين إليها؛ حيث عابَ اليهودُ على المسلمين أكلَهم للحوم الإبل مع أنها محرمة في الإبراهيميَّة! فبيَّنَت الآية بطلانَ هذه الدعوى، وحاكَمَتهم إلى التوراة نفسها إن كان فيها هذا التحريم.
﴿فِیهِ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ مَّقَامُ إِبۡرَ ٰهِیمَ﴾ المقام هو أثر القدَمَين الشريفَتَين على تلك الصخرة المرتفعة والقريبة من الكعبة المشرَّفة، وذكر المقام هنا جاء تأكيدًا للصلة الوثيقة بين دعوة النبي الخاتم ودعوة أبيه وأبي الأنبياء إبراهيم
عليهم السلام؛ ولكي لا يتوهَّم متوهِّم أن هذه الصلة هي في تعظيم ذلك الأثر الإبراهيمي، جاء قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ﴾، فالحجُّ - وهو الركنُ الخامس في الرسالة المحمديَّة - هو أيضًا نسك إبراهيم ودعوته التي وجهها للعالمين.
وفي الآية إشارة إلى أن الإسلام مع حرصه الشديد على صفاء التوحيد وحمايته من كل شائبة، لم يمانع من الاحتفاظ بآثار الأنبياء؛ بل ولَفَتَ الأنظار إليها حُبًّا واحترامًا واعتزازًا، بل لقد اختار الله من هذه الآثار معالمَ للهويَّة الإسلامية تهوي إليها أفئدة المسلمين أينما كانوا في هذه الأرض.
إن الإنسان بطَبعِهِ يميلُ للمحسُوس؛ ولذلك يَشتَطُّ نحو عبادة المجسَّمات والكائنات التي هي أضعف منه، وأقل منه شأنًا، وعلاج هذا الشَّطَط ليس بقمع طبعه بل بتوجيهه الوجهة الصحيحة، فتعلُّق القلب بالمسجد والبيت والمقام مشروع لما يُحقِّقه من سدٍّ لحاجة الإنسان الفطريَّة، وهذه الأماكن والآثار تُعزِّز جانب التوحيد كما هو ظاهرٌ ومعروفٌ، ولا تُشوِّشُ عليه، والله أعلم.
﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنࣰا﴾ هو خبرٌ على معنى الهيبة التي منحها الله لهذا البيت؛ بحيث لا يتجرأ أحد على انتهاك حرمته، ويعضِّد هذا المعنى ردُّ الله لجيش أبرهة:
﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ﴾ [الفيل: 1]، وهذا المعنى لا يلغي المعنى التكليفي، وهو أنه يجب عليكم - أيها المسلمون - أن تُوفِّروا الأمن لهذا الحرم، فهو أمرٌ بصيغة الخبر، ومن قصَّر في ذلك مع قدرته فقد ارتكَبَ إثمًا، والله أعلم.
﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ لمن استَهَانَ بالحج جُحُودًا أو استخفافًا، أما عند عدم القدرة مع وجود النية والرغبة فقد بيَّنَته الآية نفسها
﴿مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰا﴾.
غير أن الاستطاعة التي هي شرط التكليف قد تُعدم بتقصيرٍ من الإنسان نفسه؛ كضيق المكان عن استيعاب الحجيج، وقلَّة الخبرة الإدارية، وضعف الاستعداد، فهذه مسؤوليات يتحمَّلُها المسلمون كلٌّ بحسب صلاحياته وإمكانياته، والتقصير فيها إثمٌ؛ إذ إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالحرم المكي وُضِعَ للناس كافَّة
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ﴾، وهذا يتطلب أن يكون من السعة والإعداد بحيث يكفي لأداء النسك، واستقبال الزائرين وفق خطة جادة ومدروسة لا تستثني أحدًا من المكلَّفِين، والله أعلم.