﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ﴾ أي: أقبِل على الدين واستَقِم عليه، ولا تلتفت عنه يمينًا أو شمالًا.
﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ﴾ الفطرة صورة الخلق الأصليَّة في هذا الإنسان في جانبها النفسي أو المعنوي، فكما أنَّ للإنسان صورة ماديَّة جسديَّة، فكذلك له طبائعه التي فطره الله عليها والتي هي صورته المعنويَّة، وعلاماتها في الإنسان أنَّها تظهر فيه من غير تكلُّف ولا تعلُّم.
وذلك مثل حنان الأم؛ فالأم تمتلك هذه الصفة الظاهرة مهما اختلفت درجات التعلُّم والتثقُّف، ومهما تباينت الأزمِنة والأمكِنة، ومثل هذا ظاهرة التديُّن التي لم يَخلُ منها شعبٌ من الشعوب، أو مجتمعٌ من المجتمعات، وكذلك التنزُّه عن كشف العورات في اللقاءات العامة مهما كان دين الشخص ومستواه الثقافي أو المعيشي، وبالتالي فهناك ما يمكن أن نُسمِّيه: سلوكًا مُنسجِمًا مع الفطرة، وسلوكًا شاذًّا عنها.
وهكذا في الأديان والمعتقدات والأفكار، فحينما نقول: الإسلام دين الفطرة؛ فإننا نقصد أنَّه الدين المُنسجِم مع الفطرة، والذي يحقِّقُ في الإنسان خصوصيَّته الإنسانيَّة.
ولا ينبغي أن تُفهم الفطرة على أنَّها الإسلام نفسه؛ إذ الطفل يولد ولا يعرِف عن الإسلام شيئًا
﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا﴾ [النحل: 78]، وعليه فقوله
ﷺ: «كُلُّ مَوْلُوْدٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، إنما يعني أنَّ فطرته الأصليَّة مُنسجمة مع عقيدة التوحيد ومبادئ الإسلام، فلو تُرك له الخيار قبل أن تتلوَّث فِطرته لما اختار غير الإسلام، وليس معناه أنَّه يُولد وهو يُؤمن بالقرآن وبنبوَّة محمد
ﷺ، فهذا لا دليل عليه، ولا يصدِّقه الواقع.
﴿لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِ ۚ﴾ نهيٌ بصيغة الخبر، أي: لا تُبدِّلُوا فِطرةَ الله التي فطر عليها هذا الإنسان.
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ﴾ العدل المستقيم الذي لا عِوَج فيه، والمُنسجِم مع مُقتضيات الفطرة السليمة.
﴿۞ مُنِیبِینَ إِلَیۡهِ﴾ راغبين إليه بالتوبة والاستقامة، وقد جاء بصيغة الجمع؛ للدلالة على أنَّ قوله:
﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ﴾ إنما قصد به كلّ المؤمنين وإن كانت صورة الخطاب لمحمدٍ
ﷺ.
﴿مِنَ ٱلَّذِینَ فَرَّقُواْ دِینَهُمۡ وَكَانُواْ شِیَعࣰاۖ﴾ أي: فِرَقًا مُختلفةً مُتناحرةً، وهذه نتيجةٌ لتفريق الدين؛ فالأمة التي تنقسِم في تصوُّراتها عن الدين ستنقسِم في ولاءاتها، وتفريق الدين لا يكون إلا ببُعد الناس عن أصول الدين ومُحكَماته، ومصادره الصحيحة.
وقد رأينا اليوم من المنتسبين للإسلام مَن يُعرض عن القرآن والسنَّة، بل ينتقص منهما وممَّن نقلَهما وحمَلَهما إلينا، ثم يستمدُّ تصورُّاته عن الدين من الروايات التاريخيَّة، ومما تقوله له مرجعيَّاته الدينيَّة وإن كان بلا حُجَّةٍ ولا دليلٍ، فهذا السلوكُ مِن شأنه أن يُفرِّق الدينَ الواحدَ إلى اثنَين أو أكثر، وسيتبع هذا انقسام الناس أيضًا.
﴿كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ﴾ حيث يتحول التديُّن من بحثٍ عن الدين الحقِّ والتمسُّك به طريقًا للخلاص إلى ولاءٍ حزبيٍّ يتقرَّب فيه المتديِّن إلى مَن يوالونه ويواليهم، بغض النظر عن قُربِهم أو بُعدِهم بالنسبة للدين نفسه.
﴿لِیَكۡفُرُواْ بِمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡۚ﴾ تهديدٌ بصيغة الأمر، وكذلك قوله:
﴿فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ﴾ وفيه إشارةٌ أنَّ سَعَةَ الرزق قد تكون سببًا في الفتنة والكفر إذا لم يُؤدِّ الإنسان حقَّها وشُكرَها.
﴿أَمۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣰا﴾ أي: كتابًا سماويًّا يُظهر حُجَّتهم.
﴿فَهُوَ یَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِۦ یُشۡرِكُونَ﴾ أي: يُؤيِّدهم في دعواهم، ونسبةُ الكلام إلى الكتاب نسبةٌ مجازيَّةٌ، فكأنَّ الكتاب كائِنٌ حيٌّ ينطِقُ بحُجَّتهم، وغايةُ التشبيه هذا فيه تنبيهٌ إلى شدَّة تمسُّكهم بما معهم من الباطل، وكأنَّ لديهم حُجَّة ناطِقة لا تحتَمِل الشكَّ.
﴿یَقۡنَطُونَ﴾ ييأسون من رحمة الله.
﴿یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ﴾ يُوسِّعُه.
﴿وَیَقۡدِرُۚ﴾ يُضيِّق.
﴿فَـَٔاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ﴾ أمر بصِلةِ الأرحام وأداء حقوقِهم.
﴿وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِۚ﴾ من انقطعت به السبيل فحِيلَ بينه وبين ما يملِك، فهذا أهلٌ للمعونة وإن كان غنيًّا حتى يصِلَ إلى أهله وماله.
﴿لِّیَرۡبُوَاْ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ﴾ ليزيد مالكم مما تأخذونه من أموال الناس.
﴿فَلَا یَرۡبُواْ عِندَ ٱلـلَّــهِۖ﴾ بمعنى أنَّه وإن رأيتُمُوه يزداد بسبب الحرام والرِّبا، فهو عند الله مُحتقَرٌ لا خيرَ فيه؛ لأنه سُحتٌ ومصيرُه النار.
﴿وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن زَكَوٰةࣲ تُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ﴾ أي: تتضاعَف حسناتُهم، وهذا هو الأصل؛ إذ الزكاة عبادةٌ، وهي ركنٌ من أركان الإسلام، ولا يمنع أيضًا أن تكون المُضاعَفة بزيادة الرزق؛ لأنَّ الزكاة تُنمِّي المال وتدفع صاحبه للعمل به، وكذلك المُزكِّي بحقٍّ يكون محبوبًا ومؤتمنًا ومحل ثقة التُّجار، وهذه من أسباب زيادة الرزق، والله أعلم.
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ ثُمَّ رَزَقَكُمۡ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡۖ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَفۡعَلُ مِن ذَ ٰلِكُم مِّن شَیۡءࣲۚ﴾ مُحاججةٌ للمشركين الذين يؤمنون أنَّ الله هو خالقهم، وهو رازقهم، ثم يتوجَّهون بالعبادة إلى أصنامٍ عاجزةٍ ليس بيدها من أمر حياتهم أو مماتهم شيء.
﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ﴾ الفساد ضدُّ الصلاح، وظهوره في البرِّ والبحرِ، بمعنى أنه فسادٌ عام في العقائد والأفكار، والتربية والأخلاق، والبيئة وموارد الرزق، والعلاقات المختلفة بين الأفراد والدول والمجتمعات.
وقوله:
﴿بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ﴾ يشمل كلَّ سلوكٍ بشريٍّ يخرجُ بهم عن الهَدْي المستقيم، وعن مُقتضى الفطرة الآدميَّة والقيم الإنسانيَّة، وفي مثل هذا السلوك تعُمُّ الفوضى والأثَرَة المحرَّمة، وينقلب الذكاء والخبرة والتقدُّم العلمي والقدرة الماديَّة إلى وسائل للتدمير والتخريب، وسفك الدماء، وصناعة الشقاء لهذا الإنسان، وهذا هو الذي نراه اليوم بعد انتكاسة الفطرة، وضياع الموازين الصحيحة والحاكمة لسلوك الناس.
﴿لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُواْ﴾ بمعنى أنَّ هذا الذي أصابهم هو بعضُ جزائِهم الذي يستحِقُّون، وفيه تهديدٌ ضمنيٌّ لا يخفى.
﴿لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ بمعنى أنَّ هذا الذي أصابَهم يكفِيهم للتفكُّر في حالهم وفي طريق خلاصِهم، والرجوع مقصِدٌ مِن مقاصد الابتلاء، فإن رجعوا كان هذا ابتلاءً محمودًا، وهو بمعنى التأديب، وإن لم يرجعوا كان انتقامًا - والعياذ بالله -، فهذه دالَّةٌ للتفريق بين مُسمَّى الابتلاءَين: ابتلاء الله لعباده الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه حتى يرجعوا إليه بكليَّتهم مهما انتابَتْهم الغفلات والسهوات، وبين ابتلائِهِ سبحانه للطاغِين والظالمين، وهو ابتلاءُ النقمة والعذاب.
﴿قُلۡ سِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلُۚ﴾ أمر بالحركة والبحث والتأمل والاعتبار، وفيه إشارةٌ لأهميَّة علم التاريخ، وكونه أحد روافد المعرفة.
﴿یَوۡمَىِٕذࣲ یَصَّدَّعُونَ﴾ يتفرَّقون هناك في الآخرة بحسب ما كانوا عليه من افتراق هنا في هذه الدار، فأهل الكفر إلى النار والشقاء، وأهل الإيمان إلى الجنَّة والرضوان.
﴿مَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُۥ ۖ﴾ أي: عليه وبالُ كفره.
﴿وَمَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلِأَنفُسِهِمۡ یَمۡهَدُونَ﴾ أي: يُمهِّدون بعملهم هذا طريقَهم إلى الجنَّة والسعادة الأبديَّة.
﴿لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ﴾ فجزاؤهم كلُّه من فضل الله؛ لأنه غنيٌّ عن أعمالنا، وفيه إيحاءٌ لطيفٌ بسعة هذا العطاء؛ لأنه نسَبَه لفضله وليس لفضلِ الله حدٌّ.
﴿أَن یُرۡسِلَ ٱلرِّیَاحَ مُبَشِّرَ ٰتࣲ﴾ بهُطُولِ المطر والماء الذي تحيَا به الأرض.
﴿وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ أي: مِن رزقه الذي أودَعَه في البرِّ والبحرِ، وفيه ترغيبٌ بالسعي وترك القعُود والتواكُل والكسل.
﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ ترغيبٌ بالشُّكر، والشُّكر أن تَنسبَ النعمةَ إلى المُنعِم سبحانه، وتستعينَ بها على طاعته لا على معصيته.
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَیۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ على وفق سنن الله الثابتة وليس هو وعدًا مطلقًا؛ إذ قد نرى النصرَ المُقتَرِنَ بالتمكين، وقد نرى النصرَ المُقتَرِنَ بالنجاة فقط، وقد نرى الغَلَبَة على المؤمنين لابتعادهم عن سنن الله في هذه الحياة، وهذا كلُّه واقعٌ ملمُوسٌ، وعليه شواهده من قصص القرآن، والقرآن يُفسِّر بعضُه بعضًا، أما
النصر بمعناه الأخروي فهو الثابتُ بإطلاق، والله أعلم.
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَیَبۡسُطُهُۥ فِی ٱلسَّمَاۤءِ﴾ دليلٌ على أنَّ السماء هنا ليست السماء التي تُقابِل الأرض، وإنما هي العلوُّ القريبُ الذي تُؤثِّرُ فيه الرياح.
﴿وَیَجۡعَلُهُۥ كِسَفࣰا﴾ قِطَعًا من الغيوم.
﴿فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ﴾ حبَّات المطر.
﴿یَخۡرُجُ مِنۡ خِلَـٰلِهِۦۖ﴾ من بين السحاب.
﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلِ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِینَ﴾ أي: كانوا قبل نزول المطر آيِسِين مُحبَطين.
﴿كَیۡفَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ﴾ تشبيه غير المحسوس بالمحسوس، وتشبيه عودة الناس مرة أخرى بعد موتهم بحياة الأرض بالمطر بعد موتِها وجدبِها.
﴿وَلَىِٕنۡ أَرۡسَلۡنَا رِیحࣰا﴾ أخرى لا تحمل السحاب وإنما فيها إعصارٌ يهلك الزرع.
﴿فَرَأَوۡهُ مُصۡفَرࣰّا﴾ أي: رأَوا زرعَهم يصفرُّ بعد الخُضرة.
﴿لَّظَلُّواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ یَكۡفُرُونَ﴾ وهذا من غرائب فعل المشركين، فهم يعبُدون الأصنام، ويسترزقون بها، فإن جاءهم البلاء سبُّوا اللهَ ولم يسُبُّوا آلهتَهم!
﴿فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ يُشبِّهُ الكافر المُعاند الذي أغلق كلَّ منافذ المعرفة بالميت الذي لا يسمع.
﴿وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِینَ﴾ تشبيهٌ آخر لهم بحالِ الأصمِّ المُدبِر، فهو لا يسمعُ ولا يرى الشفاه وهي تتحرَّك بالكلام، ولا يرى تقاسيمَ الوجه، بمعنى أنه غير قادرٍ على التقاط أيَّة معلومة، وهكذا حال المُعانِدين.
﴿وَمَاۤ أَنتَ بِهَـٰدِ ٱلۡعُمۡیِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمۡۖ﴾ تشبيهٌ ثالثٌ بحال الأعمى الذي لا يعرِف الطريق، ولا يُميِّز معالِمَه، وهكذا حال الغافِلِين.
﴿إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن یُؤۡمِنُ بِـَٔایَـٰتِنَا﴾ سماع المُطيع المُنفِّذ لأمر خالقه.