﴿الۤمۤ﴾ من الحروف المُقطَّعة، وقد تقدَّم الحديث عنها في سورة
البقرة.
﴿فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ﴾ في أقرب مكانٍ لأرض الجزيرة؛ حيث كانت المعارك بينهما تدنو وتبعد، لكن المعركة الأخيرة التي نزلت بسببها السورة كانت الأدنى، والله أعلم.
﴿وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ ﴿٣﴾ فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ ﯝ﴾ وعدٌ إلهيٌّ واضحٌ ومحددٌ بانتصار
الروم وكرَّتهم على الفرس، وقد حصل هذا بالفعل، فكانت معجزةً من معجزات النبوَّة، ودليلًا مُضافًا من أدلة الوحي.
﴿وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ لأنَّ
الروم كانوا على ديانةٍ سماويَّةٍ، وكانوا على آخر دينٍ نزل، فكانوا أهل حقٍّ مع ما شابَهم من شوائب البدعة والانحراف والتحريف؛ إذ إنَّ الدعوة الإسلاميَّة المحمديَّة لم تخرج بعدُ من مكة، فبقاء النصارى على ما هم فيه قبل بلوغهم الدعوة الصحيحة مُتوقَّع، وقد يكون لكثيرٍ منهم العذر، فإذا واجهوا دعوةً وثنيَّةً واضحةً ليس لها صِلة بدينٍ ولا كتابٍ كدعوة المجوس، فإنَّ المؤمن يجِدُ نفسَه مُنحازًا لهم، يفرحُ لفرحهم، ويحزنُ لحزنهم.
﴿وَعۡدَ ٱلـلَّــهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ﴾ تأكيدٌ آخر لقُربِ تحقُّق النصر، أي: نصر
الروم على الفرس، فهذا هو السياق، أما محاولة صرف هذا الوعد إلى وعد المسلمين ب
النصر على المشركين، فهذا بعيدٌ عن السياق، لكن لا يبعُد أن يكون بطريق الإشارة واللزوم، بمعنى أنَّ الله الذي ينصُر
الروم لما معهم من بقايا العقيدة السماويَّة، سينصر هؤلاء المؤمنين الموحِّدين أيضًا، بل هم أَولَى بنصره وتأييده سبحانه، والله أعلم.
﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا﴾ أي: يعلمون الظواهر الدنيويَّة؛ من أسباب الرزق والمتاع، والزينة والراحة، ولا يفكرون في دلائل هذه الموجودات، وسرِّ هذا التنسيق والتكامل فيما بينها، فإنَّهم لو فكَّرُوا في هذا لوَصَلوا إلى الإيمان.
وهذا الذي عابَه القرآن على مُشرِكي العرب يُعَدُّ اليوم ظاهرة طاغية في السلوك البشري؛ حيث الاهتمام الزائد والمُبالَغ به في أسباب النعيم والراحة، والبهرَج والخيلاء، والإعراض عن التفكير في سرِّ هذه الحياة وما وراءها، وحتى المؤسسات العلميَّة والتعليميَّة غَدَا فيها التركيز واضحًا ومُنحازًا بشكلٍ كبيرٍ للعلوم الماديَّة، والابتِعاد عن العلوم العقليَّة والفلسفيَّة، وهذا كلُّه مؤشِّر على ج
نوح البشريَّة نحو المادَّة، والتعامُل الظاهر مع مفردات الكون بما يحقِّق المتعة والشهوة لا بما يُقرِّب إلى الحقيقة الكامنة في هذا الوجود.
﴿أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُواْ فِیۤ أَنفُسِهِمۗ﴾ وهذا سؤالٌ فيه تأنيبٌ شديدٌ، فالإنسان الذي يُسخِّر عقله للتلذُّذ والتمتُّع بما هو موجود، ولا يسأل نفسَه لماذا هو موجودٌ أصلًا، وما الغاية من وجوده، ولماذا وُجِدت له هذه الأشياء، هو إنسانٌ منكوسٌ ومقلوبٌ في تفكيره واهتمامه، وهو أقربُ للسلوك الحيواني الذي يبحث عمَّا يملأُ بطنَه، ويسدُّ شهوتَه، ولا يدرِي مُبتدأه من خبَره.
﴿مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ﴾ تأكيد أن هناك غاية لهذا الخلق، فلا يعقل أنَّ كلّ هذا الذي نراه إنَّما هو للتمتُّع المجرَّد، والمنافسة في جمع الحطام والتباهي بالمظاهر والشهوات.
﴿كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَاۤ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ هذا تأكيدٌ متصلٌ أنَّ غايةَ الخلق ليست العمران المجرَّد، فالعمران بلا إيمانٍ وبلا أخلاقٍ ستكون عاقبته الدمار والخراب، بل قد يكون الدمار والخراب في ثقافة العمران هذه نفسها؛ إذ هي ثقافةٌ قائمةٌ على التنافُسِ والتباهي والاستعلاء الباطل، مما يجعل البشريَّةَ كلها تعيش في حالة صراعٍ دائمٍ، فما يُشيَّده هؤلاء يهدِمُه غيرهم، وهذا هو المُشاهَد والملموس في تاريخ البشر، وواقعهم المتجدِّد والمتكرِّر.
﴿ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِینَ أَسَـٰۤــُٔواْ ٱلسُّوۤأَىٰۤ﴾ فالسوء من العذاب جزاء السوء من العمل، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا.
﴿أَن كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ تفسيرٌ للسوء الذي أثبَتَه لهم بقوله:
﴿ٱلَّذِینَ أَسَـٰۤــُٔواْ﴾.
﴿وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یُبۡلِسُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾ أي: ييأَسُون مِن رحمة الله.
﴿وَلَمۡ یَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَاۤىِٕهِمۡ شُفَعَـٰۤؤُاْ﴾ أي: من أصنامهم وأوثانهم، بل سيكفرون بهم.
﴿وَكَانُواْ بِشُرَكَاۤىِٕهِمۡ كَـٰفِرِینَ﴾ بعد أن رفعت عنهم غشاوة جهلهم وعنادهم، وأيقنوا أنَّ ما كانوا عليه إنَّما هو الوهم والباطل.
﴿وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یَوۡمَىِٕذࣲ یَتَفَرَّقُونَ﴾ إلى فرقٍ مختلفةٍ؛ فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم الشقيُّ، ومنهم السعيدُ.
﴿فِی رَوۡضَةࣲ یُحۡبَرُونَ﴾ في جنَّةٍ يُسعدَون ويُسرُّون، وأصلُ الروضة: الأرض المخضرَّة بالماء والعشب.