سورة لقمان تفسير مجالس النور الآية 4

ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ ﴿٤﴾

تفسير مجالس النور سورة لقمان

المجلس الخامس والثمانون بعد المائة: المنظومة القِيميَّة والتربويَّة


من الآية (1- 19)


الموضوع الأساس لسورة لقمان موضوعٌ تربويٌّ جاء بمقدِّماتٍ إيمانيَّةٍ مؤسِّسة للقيم التربويَّة، ثم تجسَّدَت هذه القيم بوصايا أبٍ حكيمٍ حريصٍ على ابنه وهو يقدِّمُ له خلاصة حكمته وتجربته، واختيار الأب في هذا المجال له أكثر من مغزى ومعنى، ثم يأتي نصف السورة الآخر ليرسم المعالم المميِّزة لطريق الحقّ عن طريق الباطل، بتسلسُلٍ يُوحِي أن نقطة الافتراق كانت نقطة تربويّة، فالتربية السليمة تبنِي الإنسانَ السليمَ القادرَ على اختيار الطريق الأفضل له ولمستقبله، بعكس ذلك البعيد الذي تشوَّه عقله وتلوثت فطرته فتخبط في مهاوي الضلال والظلام.
أما منهجُ هذه السورة في بناء المنظومة القيميَّة التربويَّة - وهو لا شك جزءٌ من منهج القرآن الشامل - فيُمكن استخلاصه في النقاط الآتية:
أولًا: بيان مصدر هذه القيم والذي هو مصدر الإسلام كلّه ﴿الۤمۤ ﴿١﴾ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ فهذه القيم والأحكام والتوجيهات ليست اجتهادًا بشريًّا، ولا تصورات تُملِيها البيئة والظروف المحيطة في زمانٍ ما أو مكانٍ ما، إنّه الوحي المُنزَّه عن النقصِ والخطأِ والانحيازِ والمُحاباة.
ثانيًا: ذكر القرآن قيمَتَين مُتلازمَتَين، وهما من القواعد الكبرى في المنظومة القِيميَّة: الهدى؛ وهو العلم النافِع، والرحمة ﴿هُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ﴾ ثم ذكر القيمة الثالثة؛ وهي العبادة المبنِيَّة على الاعتقاد الصحيح والمُنسجِمة مع الهُدى والرحمة ﴿ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾ ثم كرّر الإشارة إلى الهُدى ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ﴾.
وهذه القيم هي نفسها القيم التي أكَّدَتها سورة الفاتحة: الرحمة، والعبادة، والهداية، مما يُدلِّلُ على أننا نقرأ منظومةً مُترابطةً يُقوِّي بعضُها بعضًا، ويُؤكِّد بعضُها بعضًا، وكما أكّدت سورة الفاتحة أنّ المتمسكين بهذه القيم هم الذين أنعم الله عليهم واختارهم من بين خلقه لنعمته ومرضاته، جاء التأكيد هنا بتميُّزِهم وإحسانِهم وفلاحِهم ﴿هُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّلۡمُحۡسِنِینَ﴾، ﴿وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ والإحسان قيمة أيضًا.
ثالثًا: في مقابل هذه القيم الكبرى يذكرُ القرآن أضدادها من القيم المقلوبة والمعايير المنكوسة التي تُدمِّر المجتمعات وتهوي بها في مهاوي الردى والضلال والهلاك، فيذكر الضلال الذي يُقابل الهُدى، والجهل الذي يُقابل العلم ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡتَرِی لَهۡوَ ٱلۡحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ﴾ ثم يذكرُ الاستكبار وهو أُسُّ الضلال، وقرينُ الجهل ﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسۡتَكۡبِرࣰا كَأَن لَّمۡ یَسۡمَعۡهَا كَأَنَّ فِیۤ أُذُنَیۡهِ وَقۡرࣰاۖ فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ﴾.
رابعًا: يعود القرآن إلى التذكير بفيصل التفرقة بين الحقّ والباطل، ألا وهو الإيمان ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلنَّعِیمِ ﴿٨﴾ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾، ثم يُقيمُ الحجة القاطعة، والشواهد الملموسة والناطقة بهذه الحقيقة ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبـَّةࣲۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ ﯨخَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبـَّةࣲۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ﴾.
خامسًا: بدأ القرآن بقصة لقمان وأسلوبه في تربية ابنه وتأديبه وتهذيبه مستهلٍّا بتزكيةٍ شاملةٍ وعامةٍ لهذه التجربة ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا لُقۡمَـٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ﴾ وهذا بمثابة التهيئة لقبولها والاقتداء بها، والحكمة تعني: العلم، وتعني: الهُدى، وتعني: وضع الشيء في مكانه المناسب، وتعني: التخطيط السليم وترتيب الأولويات، فهي القيمة الجامعة للخِلال الحميدة، والفِعال المجيدة.
ثم ثنّى بالشكر ﴿أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ﴾ وهي قيمة أخرى تعني: تجرُّد الإنسان من هواه حتى لا يرى ما معه من العلم والحكمة إلا نعمةً ربانيَّةً تستوجِبُ الشكر لا الكفر، والتواضع لا التكبّر، والرحمة بالخلق لا التعالي عليهم.
سادسًا: وكانت الوصيَّة الأولى من لقمان لابنه: ﴿یَـٰبُنَیَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱلـلَّــهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمࣱ﴾ فالشركُ أساس الظلم، ومنبع الخطايا والرزايا، فمن تجرَّأَ على الله كان على غيره أجرَأ، ومن تسبَّب في ضلال نفسه وأهله كان بضلال غيره أحرى وأَولَى.
سابعًا: في جملة معترضة يُعرِّجُ القرآن على علاقة الولد بوالدَيه، ووجوب طاعته لهما، ومصاحبتهما بالمعروف حتى لو كانا على دينٍ آخر ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنࣲ وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِی وَلِوَ ٰ⁠لِدَیۡكَ إِلَیَّ ٱلۡمَصِیرُ ﴿١٤﴾ وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾، وبرُّ الوالدين قيمة يقرنها القرآن بالإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وقد مرَّ معنا قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ﴾ [الإسراء: 23].
وفائدةُ التذكير بحقوق الأبوَين في هذا السياق لا تخفى، إلا أنّه لا يبعُد أن يكون المُراد - مع هذه الفائدة - أنّ لقمان أعادَ على ابنه هذا التوجيه الربَّانيَّ؛ لأنّ الوصيّة بالوالدَين من ثوابت الشرائع السماويَّة كلّها، وتذكير الأب ابنه بحقوق الأبوّة ليس فيه مثلبة، بل هو من تمام التربية المطلوبة.
ثامنًا: بعد الإيمان بالله وبرِّ الوالدين شرَعَ لقمانُ في بناء الرقابة الذاتيّة التي تجعل في الإنسان رقيبًا عليه من داخله، لا يُفارِقُه في خلوةٍ أو جلوةٍ ﴿یَـٰبُنَیَّ إِنَّهَاۤ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةࣲ مِّنۡ خَرۡدَلࣲ فَتَكُن فِی صَخۡرَةٍ أَوۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ أَوۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرࣱ﴾ وهذه الرقابة والحسّ المُرهَف هي التي نُسمّيها التقوى، فليست التقوى سِوى المُراقبة والخشية والحذر.
تاسعًا: بعد الرقابة الذاتيّة جاء التذكير بالصلاة؛ لأنّها عنوان لصلاح العلاقة بالخالق العظيم تبارك وتعالى ﴿یَـٰبُنَیَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ وإقامة الصلاة تعني المداومة عليها وأداءها على الوجه الأمثل والأكمل.
عاشرًا: بعد إقامة العلاقة الصحيحة مع الله تأتي العلاقة مع الخلق بالنصح، وتبيان الخير من الشر، والمعروف من المنكر ﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ فهذه علاقةٌ نافعةٌ، وفيها استِشعار المسؤولية العامة لإصلاح المجتمع وسدّ ثغراته، ولأنّ هذه المسؤوليّة تواجه في العادة صدودًا وفتنًا من أهل الشهوات والنزوات، لم يَنسَ لقمان أن يُذكِّر ابنه بالصبر ﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾.
حادي عشر: ولترسيخِ هذه العلاقة يُنبِّهُ لقمانُ ابنَه إلى التحلِّي بالتواضُع ولِين الجانب ﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورࣲ﴾.
ثاني عشر: يختِمُ لقمانُ وصاياه لابنه بمسائِل ذوقيَّة وجماليَّة، وهذا بابٌ واسِعٌ من دقائق الآداب التي تُضفِي على الحياة بكلِّ جوانبها وعلاقاتها طابعًا من الأنُس والسكينة والمحبّة ﴿وَٱقۡصِدۡ فِی مَشۡیِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَ ٰ⁠تِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِیرِ﴾.


﴿تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ وَصْفُ القرآن هنا بالحكمة جاء مناسبًا لموضوع السورة الأساس؛ حيث سُمِّيت السورة باسم لقمان الذي وصفه الله بالحكمة ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا لُقۡمَـٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ﴾ وهذه إشارة على نبوَّته، لاسيَّما أنّ الله تعالى أمره أمرًا مُباشرًا بالشكر: ﴿أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ﴾.
وقد وردَت رواياتٌ تنفِي عنه النبوَّة، لكنّها لا ترقَى إلى درجة الاحتجاج، والله أعلم. والخلاف في هذا لا يضُرُّ؛ لأنّ لقمان ليست له شريعة إلا ما أورده القرآن عنه هنا في هذه السورة، والأخذ به مُتحتِّمٌ سواء كان نبيًّا، أم كان حكيمًا من غير نبوَّة.
﴿هُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّلۡمُحۡسِنِینَ ﴿٣﴾ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾ تفسيرٌ للمحسنين الذين يستحقون أن يكون القرآن لهم هٌدًى ورحمة، فهم قد أحسنوا علاقتهم بالله وعلامة ذلك الصلاة، وأحسنوا علاقتهم بالخلق وعلامة ذلك الزكاة، وكان كلّ ذلك ابتغاء لوجه الله وطلبًا لمرضاته وثوابه ﴿وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾.
﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡتَرِی لَهۡوَ ٱلۡحَدِیثِ﴾ الذي ليس له سنَد ولا تُرجَى منه فائدة.
ويشتريه بمعنى يأنس به ويهتم به حتى يبذل فيه وقته فكان كالمُشتري له، وهناك من يشتريه بماله إن كان يباع محفوظًا في كتاب ونحوه، أما اليوم فإنّ أموال الأمّة تنفق على هذا اللهو أكثر بكثيرٍ مما تنفق على العلوم الصحيحة والبحوث النافعة.
﴿لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ فذلك اللَّهو لم يكن لقضاء الوقت والتسلية فحسب، بل للصدِّ عن سبيل الله، وإشغال الناس عن تدبُّر هذا القرآن، والتفكُّر فيما هم أحوَج إليه لصلاح حالهم ومآلهم.
﴿وَیَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ﴾ أي: يتخذ سبيل الله وآياته استهزاءً وسخريةً.
﴿كَأَنَّ فِیۤ أُذُنَیۡهِ وَقۡرࣰاۖ﴾ ثِقلًا يمنعهما من السماع.
﴿خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ﴾ على خلاف ما اعتادَه البشر مِن وضع الأعمدة التي يقوم عليها كلّ سقفٍ مرتفع، وهذه آيةٌ ظاهرةٌ يراها الإنسان بلا تكلُّف ولا تشوُّف.
﴿وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ﴾ أي: جعل في الأرض الجبالَ لتحفظَ توازُنها فلا تضطرب ولا تتحرَّك إلا في مسارها المُحدَّد، واستقرار الأرض وكونها مُمهَّدة لحياة الناس آية أخرى كذلك.
﴿وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبـَّةࣲۚ﴾ ربط بين استقرار الأرض وبثّ الحياة فيها، فلولا استقرارها وتمهيدها لما غدت صالحة لحياة الناس والأنعام، وكلّ كائن حيّ يتحرك عليها.
﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ﴾ بعد أن ذكر صلاحية الأرض لحياة الإنسان والحيوان نبّه إلى صلاحيتها أيضًا للإنبات وإخراج الزرع والشجر، وبهذا تكتمل صورة الحياة، وقد جاء التنبيه إلى كلّ هذه الآيات المتناسقة لدحض ما يسعى إليه المبطلون من إشغال الناس بلهو الحديث عن هذه الحقائق الصافية والدلائل الهادية، ووصف النبات بأنه كريمٌ دليلٌ على رفع الحرج عن تسمية المخلوق بما يشبه صفات الخالق من حيث اللفظ لا من حيث حقيقة المعنى.
﴿هَـٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِی مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِینَ مِن دُونِهِۦۚ﴾ سؤالٌ تعجيزيٌّ لأولئك المشركين الذين اتخذوا لهو الحديث بديلًا عن آيات الله، وحرموا أنفسهم من الاطلاع على أسرار هذا الكون وما فيه من دلائل وشواهد، وهو سؤالٌ يُحفِّزُ العقل وينتشله من وهدة اللهو والعبث.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا لُقۡمَـٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ﴾ تقدّم القول في لقمانعليه السلام في صدر السورة، ووصفه بالحكمة هنا تزكية له، وليُمهِّد العقول والقلوب لتدبُّر وصاياه الآتية والأخذ بها.
﴿وَمَن یَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ﴾ لأنّ فائدة الشُّكر تعود على الشاكر ولا تعود على الله، فهو الغنيُّ الحميدُ سبحانه.
﴿وَمَن كَفَرَ﴾ فإنّما يكفُرُ على نفسه أيضًا.
﴿وَهُوَ یَعِظُهُۥ﴾ ينصَحُه ويُذكِّرُه.
﴿یَـٰبُنَیَّ﴾ نداء اللطف والمودَّة والرحمة، وهذا خُلُقٌ من أخلاق الدعوة الناجحة.
﴿حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنࣲ﴾ ضعفًا على ضعف، فالحمل يُضعِف الأم ويُرهِقها، ثم الطَّلْق والولادة كذلك، ثم الإرضاع وما تتطلَّبه رعاية الطفل من سهرٍ وحذرٍ ومتابعةٍ، فكلّ ذلك تعبٌ على تعب، ووهَنٌ على وهَن.
﴿وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ﴾ الفصال الفطام، والسياق جاء لتأكيد الوهن الذي تُعاني منه الأم بسبب وليدها، وفيه أنّ مُدَّة الرضاعة الشرعيّة حولان فما دون، بدلالة قوله: ﴿فِی عَامَیۡنِ﴾ و﴿فِی﴾ تحتمل النقص ولا تحتمل الزيادة، وقد ورد هذا الحكم صراحة في سورة البقرة ﴿۞ وَٱلۡوَ ٰ⁠لِدَ ٰ⁠تُ یُرۡضِعۡنَ أَوۡلَـٰدَهُنَّ حَوۡلَیۡنِ كَامِلَیۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن یُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ﴾ [البقرة: 233].
﴿أَنِ ٱشۡكُرۡ لِی وَلِوَ ٰ⁠لِدَیۡكَ﴾ إعلاء من شأن الوالدين والبرّ بهما؛ حيث قرَنَهما بطاعة الله، وسمّى هذه الطاعة وذلك البرّ شكرًا؛ لأنّه جاء بعد التذكير بنِعَم الله أولًا، ثم بما يتحمَّله الوالدان والأمّ خاصة من جهدٍ ومشقةٍ.
﴿وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ﴾ يُعالِجُ القرآن هنا مسألةً معقَّدةً وشائكةً، فالأصل أنّ طاعة الوالدين من طاعة الله، وشكرهما من شكره، لكن ماذا لو كان الوالدان في الطرف المضاد لمنهج الله؟ هنا يأتي التوجيه الربّاني الذي يوازن بين القيمتين؛ فطاعة الله مقدَّمة على طاعة الوالدين قطعًا، فعلى الولد أن لا يستجيب لضغوطهما مهما بلغت في هذا الاتجاه، أما حقوقهما الدنيويّة من الرعاية والنفقة والاحترام فهذه محفوظة لهما مهما بلغا مِن الشرك ومِن الحماس له والدعوة إليه، وفي قوله: ﴿وَصَاحِبۡهُمَا﴾ على ما هما عليه من الشرك والمجاهدة؛ فيه دليلٌ أنَّ مُصاحبةَ المؤمن للمُشرك لا تخدش الإيمان، ولا تنقُضُ عقيدةَ الولاء والبراء.
﴿وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ﴾ أي: من أقبل عليّ بالطاعة، وفيه ترغيب بصحبة الصالحين والاقتداء بهم.
﴿یَـٰبُنَیَّ إِنَّهَاۤ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةࣲ مِّنۡ خَرۡدَلࣲ فَتَكُن فِی صَخۡرَةٍ أَوۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ أَوۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ﴾ أراد أنّ الله لا يخفى عليه شيء مهما كان صغيرًا أو دقيقًا، والخردل نباتٌ معروف، وحباته مضرب المثل في الصغر.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرࣱ﴾ صفتان لله تفيدان إحاطة علم الله بالكائنات دقيقها وجليلها، وأسبابها ونتائجها، واللطيف من اللطف المُوحِي بمعرفة الخفايا والدقائق التي لا تُرى في العادة، والخبير تُوحِي بالعمق، ومعرفة الجذور والأصول، والمُقدِّمات والنتائج.
﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَكَۖ﴾ من الأذى، في إشارةٍ أنّ الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من شأنه أن يتعرَّض للأذى بمختلف الطرق والأساليب.
﴿إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾ بمعنى أنّ الصبر على هذا دليلٌ على العزيمة والقوة وصدق التوجّه، ويحتمل أيضًا أن تلك الوصايا كلّها مطلوبة على وجه الإلزام والعزيمة ولا تحتمل التهاون والرخصة.
﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي: لا تُعرِض عنهم بجانب وجهك تكبُّرًا وتعالِيًا عليهم.
﴿وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ﴾ جَذلًا مغرُورًا بما عندك من مالٍ أو متاعٍ.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورࣲ﴾ المُختال هو المُعجَب بنفسه والذي يمشي مِشيةَ الخُيَلاء، والفخور يمتنُّ على الناس ويُفاخِرُهم بما عنده.
﴿وَٱقۡصِدۡ فِی مَشۡیِكَ﴾ الاقتصاد معناه الاعتدال، كأنّه يقول له: لا تدبّ دبيبًا ولا تهرول هرولة، فالدبيب علامة التكبّر، والهرولة علامة الخفّة.
﴿وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ﴾ اخفض من صوتك، فلا ترفعه إلَّا على قدر الحاجة.
﴿إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَ ٰ⁠تِ﴾ أقبحها.
﴿لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِیرِ﴾ وهنا مسألةٌ دقيقةٌ؛ إذ الحمار خَلْقٌ من خلق الله، وصوتُه مخلوقٌ لله كذلك، والحمار ليس مُكلَّفًا، وليس قادرًا على تبديل صوته، فلا بُدَّ أن يتَّجِه الإنكار إلى محلٍّ غير محلِّ الخِلقة.
والأظهرُ في هذا أن نقول: إنّ صوتَ الحمار يُناسِب خِلقَته ووظيفته، لكنّه بالنسبة للإنسان مصدر إزعاجٍ وعدم ارتياح، ومن هنا جاء تشبيهُ صوت الإنسان المُزعِج المُتجاوِز للحدِّ بصوت الحمار، ومن هنا كان الإنكار، والله أعلم.