سورة الأحزاب تفسير مجالس النور الآية 28

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰ⁠جِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا ﴿٢٨﴾

تفسير مجالس النور سورة الأحزاب

المجلس التسعون بعد المائة: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا


من الآية (28- 52)


بيت النبوَّة هو النموذج الذي ينبغي أن تكون عليه بيوت المسلمين، وهذا من تمام التأسِّي برسولِ الله .
وقد جاءت هذه الآيات لتبسط القول في حياته مع أهل بيته، ومن جوانب وزوايا مختلفة تلتقي كلّها لتكوين الصورة المتكاملة:
أولًا: يبدأ القرآن بالتنبيه إلى الأساس الذي قام عليه بيت النبوَّة، وطبيعة العقد القائم بينه وبين كلِّ زوجة من زوجاته ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰ⁠جِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا ﴿٢٨﴾ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾.
فمن كانت ترجو الدنيا بزواجها من رسول الله، فإنَّها لا تليق أن تكون زوجةً له، ولا أُمًّا للمؤمنين، وطلب الدنيا بحدِّ ذاته ليس إثمًا، لكن الزواج له غايةٌ أسمى من المتاع الزائل، وله رسالة كبرى في تأسيس البيت المسلم الذي يكون مدرسة تربويَّة للأجيال، ولبِنَة صالحة في بناء المجتمع، فكيف بالبيت الذي هو المثل الأعلى في كلِّ ذلك.
وهنا ملحوظةٌ دقيقة، وهي أنَّ أُمَّهات المؤمنين كلّهنَّ مِمَّن اختار اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة؛ إذ لو كانت واحدة منهنَّ ترجو الدنيا وزينتها، لفارَقَها رسولُ الله وسرَّحَها سراحًا جميلًا.
ثانيًا: يُؤكِّد القرآن عقيدةَ العدل الإلهي في تحمُّل المسؤولية وتبِعَاتها لكلِّ مُكلَّفٍ، ولو كانت أُمًّا للمؤمنين، وزوجةً لسيِّد المُرسَلين، بل هذه مسؤوليَّتها مضاعفة؛ لأنّها القدوة لكلِّ زوجة مسلمة، ولأنّها عاشَت مع الوحي ووَعَت نزوله وتطبيقه في بيتها ﴿یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ مَن یَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲ یُضَـٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَیۡنِۚ وَكَانَ ذَ ٰ⁠لِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣰا ﴿٣٠﴾ ۞ وَمَن یَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَـٰلِحࣰا نُّؤۡتِهَاۤ أَجۡرَهَا مَرَّتَیۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقࣰا كَرِیمࣰا﴾.
وليس معنى الآية تجويز وقوع الفاحشة منهنَّ، بل هو للتنبيهِ الصارِمِ على العدل الإلهي، وحدود الشرع التي لا تُحابي أحدًا، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، وقوله في صدر هذه السورة: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ ۚ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ ۗ﴾.
ثالثًا: ثم يُصدرُ القرآن توجيهاته التربويَّة والاحترازيَّة لأمهات المؤمنين؛ فينبِّه أولًا على الاحتياط في القول؛ لأنّه الأداة الأولى والأقرب للتواصُل، وبه تنكشف الملامح الأولى لشخصيَّة الإنسان: ﴿یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِنِ ٱتَّقَیۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَیَطۡمَعَ ٱلَّذِی فِی قَلۡبِهِۦ مَرَضࣱ وَقُلۡنَ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا﴾.
ثم يُعرِّج لتأكيد أهمية الاحتشام والسّتر، والنهي عن عادات الجاهلية في التبرُّج ومخالطة الرجال الأجانب: ﴿وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ﴾.
ثم يُوصيهنَّ بأداء الواجبات من صلاةٍ وزكاةٍ، وكلِّ أمرٍ مفروضٍ في كتاب الله أو في سنَّة رسول الله : ﴿وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِینَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤۚ إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا﴾.
ثم يُذكِّرهنَّ بوظيفتهنَّ الخاصة من بين كلِّ العالمين، وهي وظيفة التبليغ لسنَّة النبي الكريم في حياته معهنَّ، ولا شكَّ أنّ هذا الجانب لا يعلَمُه غيرهنَّ، وهو من صَميم الدين الحنيف وشرعه الشريف ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا یُتۡلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا﴾ وهذه تزكيةٌ من الله لهنَّ دون استثناء، وتأكيدٌ لعدالتهنَّ، وأنَّهنَّ أهلٌ لِأَن يُؤخذ الدِّين عنهنَّ رضي الله تعالى عنهنَّ وأرضاهنَّ.
رابعًا: في ثنايا هذه التوجيهات الربّانيَّة، يذكُرُ القرآن الغاية الكليَّة لهذه التوجيهات: ﴿إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا﴾.
ولا شكَّ أنّ المقصود بهذا الخطاب أُمَّهات المؤمنين بعبارة النص القاطعة، وبدلالة السياق؛ حيث تكرَّر الخطابُ الصريحُ لهنَّ ﴿یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ﴾، وتكرَّر الأمر والنهي لهنَّ: ﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ﴾، ﴿وَقُلۡنَ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا﴾، ﴿وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ﴾ .. الخ.
ثُمّ إنّ لفظة: ﴿أَهۡلَ﴾ أطلقها القرآن على الزوجة، فقد مرَّ معنا قولُ موسى عليه السلام: ﴿فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤاْ﴾ [طه: 10]، ولم تكن معه إلَّا زوجته، وأطلَقَ: ﴿أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ﴾ على الزوجة أيضًا: ﴿قَالُوۤاْ أَتَعۡجَبِینَ مِنۡ أَمۡرِ ٱلـلَّــهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِۚ﴾ [هود: 73].
ويُلاحظ هنا أنّ الخطاب جاء بصيغة الجمع المُذكَّر مع أنَّه مُوجَّهٌ إلى امرأةٍ واحدةٍ؛ وهذا لاحتماله دخول كلّ مَن في البيت مِن ذكورٍ وإناثٍ؛ ولذلك قال نوحٌ عليه السلام في ابنه: ﴿وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی﴾ [هود: 45].
أمّا إخراجُ الزوجة من مُسمَّى أهل البيت فلا تحتمِلُه اللغة، ولا يحتمِلُه السياق.
خامسًا: يذكر القرآن الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتحلَّى بها كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ، وهي جملةٌ من القيم، منها: قيَم إيمانيَّة وتعبُّديَّة؛ كالقُنُوت، والخشوع، والصوم، والصدقة، ومنها: قيَم أخلاقيَّة؛ كالصدق، والصبر، والعفَّة ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِینَ وَٱلۡمُسۡلِمَـٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡقَـٰنِتِینَ وَٱلۡقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِینَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِینَ وَٱلصَّـٰبِرَ ٰ⁠تِ وَٱلۡخَـٰشِعِینَ وَٱلۡخَـٰشِعَـٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِینَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَـٰتِ وَٱلصَّـٰۤىِٕمِینَ وَٱلصَّـٰۤىِٕمَـٰتِ وَٱلۡحَـٰفِظِینَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَـٰفِظَـٰتِ وَٱلذَّ ٰ⁠كِرِینَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا وَٱلذَّ ٰ⁠كِرَ ٰ⁠تِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةࣰ وَأَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾.
ثم بعد سلسلة الصفات هذه، يُركِّز القرآن القولَ في صفةٍ أخرى تعدُّ الفيصل العملي بين الإيمان الصادق، والادِّعاء الكاذب ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنࣲ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَمۡرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا﴾.
ويلحظ في الآيتين: التنصيص على المرأة مع الرجل، في إشارةٍ أنَّ هذه من الصفات اللازمة لتكوين البيت المسلم.
سادسًا: يعرض القرآن نموذجًا عمليًّا لما بدأ به في فواتح السورة من إعلانه لإبطال العادات الجاهلية، وقد اختار القرآن هذا النموذج من بيت النبوَّة، وفي هذا أكثر من دلالة، من بينها أن ّالموروث الاجتماعي يحتاج إلى قوّةٍ كبيرةٍ لتغييره؛ فاقتضَى الأمرُ أن يبدأ رسولُ الله بنفسه ليكون قُدوةً للناس، وليسقُط حاجِزُ الهَيبة عن كلّ مورُوثٍ باطلٍ.
ويتلخَّص النموذج النبويُّ في أنّه كان قد تبنَّى قبل البعثة زيد بن حارثة، فكان يُنادى: زيد بن محمد، وكان يحبُّه حبًّا شديدًا، وكان زيدٌ قد تزوَّج بامرأةٍ شريفةٍ تُسمَّى زينب، فلما أراد الله أن يُبطِل عادة التبنِّي وآثارها النفسيَّة والاجتماعيَّة، أمَرَ نبيَّه أن يتزوَّج من زينب بعد طلاقها من زوجها زيد، وكان هذا ثقيلًا على رسول الله - بأبي هو وأمِّي -، فكان يُوصِي زيدًا بالتمسُّك بزوجته، مع أنَّه يعلَمُ أنه سيُطلِّقُها، وأنّها ستكون زوجةً له ﴿وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِیۤ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَیۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَیۡدࣱ مِّنۡهَا وَطَرࣰا زَوَّجۡنَـٰكَهَا لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجࣱ فِیۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرࣰاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولࣰا﴾.
وقد أبانَت الآيةُ عن حكمة هذا الأمر: ﴿لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجࣱ فِیۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ﴾.
ثم أكَّد القرآن انتِفاء الحرج عن رسول الله في تنفيذه لأمره سبحانه: ﴿مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِیِّ مِنۡ حَرَجࣲ فِیمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥ ۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرࣰا مَّقۡدُورًا﴾.
سابعًا: يبني القرآن على هذه القصَّة قاعدة كليَّة في الدعوة إلى الله، وقد جاءت في مقام المدح لأنبياء الله عليهم السلام، وتحفيزًا لكلِّ عالِمٍ ومبلِّغٍ وداعيةٍ أن يحذو حذوهم، ويقتدي بهم ﴿ٱلَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسَـٰلَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا یَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِیبࣰا﴾.
فهؤلاء الصفوةُ وفي مقدمتهم نبيُّنا الأكرمُ محمدٌ صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين قد بلَّغُوا رسالات الله كاملة كما أنزَلَها الله عليهم، ولو كان في ذلك مُفاصَلَة أقوامهم، أو تحمُّل الأذى والمشقَّة من قِبَلهم، فهم لا يخشَون ذا سلطانٍ، ولا ذا جاهٍ، ولا ذا قرابةٍ، أو صداقةٍ، لا سطوة الحاكم بقوَّته وحديده، ولا سطوة المجتمع بأعرافه وتقاليده، وكلّ هذا إنّما يكون بالمنهج الربَّاني الذي يُراعي الحكمة في الدعوة، وترتيب الأولويات، وتقدير النتائج والمآلات، كما عُرِف ذلك في سُنَّته وسيرته .
ثامنًا: ثم ينطلِق القرآن من خصوصيَّةٍ دقيقةٍ لرسول الله تتعلق بموضوع القصَّة إلى خصوصيَّةٍ كبرى تتعلَّق بالدين كلّه، وبالوحي كلّه، وبالرسالات السماويَّة كلّها: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدࣲ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ﴾.
فهذا إعلانٌ قاطعٌ بتوقُّف سلسلة النبوَّات والرسالات عند رسول الله ، فلا نبيَّ بعده، ولا رسول بعده، ولا وحي بعده، فهو النبيُّ الخاتم، والرسولُ الخاتم، ورسالتُه رسالةُ الله الأخيرة إلى الأرض، وهذا يقتضي أنّها الرسالة الصالحة والمناسبة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لئلَّا تنقطع الغاية الكليَّة التي من أجلها خلق الله الإنسان ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فلو لم تكن هذه الرسالة الخاتمة صالحةً لكلِّ زمانٍ، لانقطع الناس عن الله بالكليَّة، وحاشا لله أن يخلق الخلق ثم يتركهم أو يهملهم.
تاسعًا: يتوجَّه القرآن بعد هذا في خطابه إلى المؤمنين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ليؤكِّد لهم أنّ الله معهم، وأنّ نور الوحي باقٍ بينهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فليكونوا هم مع الله ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرࣰا كَثِیرࣰا ﴿٤١﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا ﴿٤٢﴾ هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤىِٕكَتُهُۥ لِیُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَحِیمࣰا ﴿٤٣﴾ تَحِیَّتُهُمۡ یَوۡمَ یَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَـٰمࣱۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَرِیمࣰا﴾.
عاشرًا: ثم يعود القرآن إلى بيان صفاته ووظيفته تجاه هذه الرسالة الخاتمة، وتجاه الناس كل الناس: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدࣰا وَمُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا ﴿٤٥﴾ وَدَاعِیًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجࣰا مُّنِیرࣰا ﴿٤٦﴾ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلࣰا كَبِیرࣰا﴾.
ثم يؤكِّد ما استهل به السورة وما تكرَّر في ثنايا الآيات السابقة من ضرورة التمسُّك بالوحي، وعدم الالتفات إلى الكافرين والمنافقين ﴿وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا﴾.
حادي عشر: ثم يتطرَّق القرآن إلى مسألةٍ دقيقةٍ من مسائل البيت المسلم: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَیۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةࣲ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا﴾.
ثاني عشر: ثم يعود القرآن إلى بيت النبوَّة لبيان ما أحلَّه الله لنبيِّه وبتفاصيل دقيقةٍ، حتى لا يبقى هناك التباسٌ أو غموضٌ ولو كان في أخصِّ خصوصيَّاته : ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّـاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰ⁠جَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَ مِمَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَـٰتِكَ ٱلَّـٰتِی هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةࣰ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةࣰ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ﴾.
ثم يلتفت القرآن إلى ما شرَّعَه الله للمؤمنين عامَّة في هذا المجال: ﴿قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ لِكَیۡلَا یَكُونَ عَلَیۡكَ حَرَجࣱۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾ ليعود ثانية في الآيتين التاليتَين إلى ما بدأ به في هذه الآية: ﴿۞ تُرۡجِی مَن تَشَاۤءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِیۤ إِلَیۡكَ مَن تَشَاۤءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَیۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكَۚ ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن تَقَرَّ أَعۡیُنُهُنَّ وَلَا یَحۡزَنَّ وَیَرۡضَیۡنَ بِمَاۤ ءَاتَیۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَلِیمࣰا ﴿٥١﴾ لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ رَّقِیبࣰا﴾.


﴿فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا﴾ أعطيكنَّ حقوقكنَّ وأطلقكنَّ طلاقًا حسنًا.
﴿یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ﴾ لأنّهنَّ أُمّهات المؤمنين، والمَثَلُ الأعلى لنسائِهم.
﴿إِنِ ٱتَّقَیۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ﴾ بمعنى أنّ لِينَ القول عند مُخاطبة الرجال الأجانب ليس من صفات النساء المُتَّقِيَات.
﴿فَیَطۡمَعَ ٱلَّذِی فِی قَلۡبِهِۦ مَرَضࣱ﴾ بمعنى أنّه سيطمع باستِمالَتِها فيكون أجرَأَ عليها.
﴿وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ﴾ بمعنى: السكون والاستقرار، فالمرأة محل السكينة والاستقرار والأُنس في البيت، وهي المعنيَّة برعاية الأطفال وتنشئتهم على الأخلاق والقيَم السليمة، وليس فيه منعٌ لها من الخروج لشؤونها؛ كالتعلُّم، والتطبُّب، والصلاة في المسجد، وصِلَة الرَّحِم.
﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ﴾ حيث كانت المرأة لا تتورَّع عن إظهار مفاتنها للرجال الأجانب.
﴿إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ﴾ ليُبعِد عنكم كلَّ ما ينبغي التنزُّه عنه.
﴿وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا﴾ من الرِّجس، وفيه تأكيدٌ لا يخفى.
﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا یُتۡلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ﴾ حيث كان الوحي يتنزَّل في بيوتهنَّ، وكان يعيش معهنَّ بهَديه وسنَّته، وفي هذا امتِنانٌ من الله عليهنَّ، وتكليفهنَّ واجِب التبليغ ونقل ما تعلَّمنَه من رسول الله بالقول والعمل.
﴿وَٱلۡقَـٰنِتِینَ وَٱلۡقَـٰنِتَـٰتِ﴾ المخلصين العبادة لله والمخلصات.
﴿وَٱلۡخَـٰشِعِینَ وَٱلۡخَـٰشِعَـٰتِ﴾ ذَكَرَ الخشوع ولم يذكر الصلاة؛ لأنَّ الخشوعَ روح الصلاة، فاكتفى به، والله أعلم.
﴿أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ﴾ أي: الاختيار.
﴿وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِیۤ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ﴾ بالإسلام والصحبة، وهو سيدنا زيد بن حارثة ، والذي كان يُدعى زيد بن محمد؛ حيث تبنَّاه قبل البِعثة وقبل ورود النهي.
﴿وَأَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِ﴾ بالرعاية والمحبَّة والعتق.
﴿وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ﴾ حيث إنّ الله أخبره أن سيدتنا زينب زوجة زيد ستكون زوجةً له بعد أن يُطلِّقها زيد، فلما جاءه زيدٌ يشكُوها إليه ولم يكن يعلَم بما قدَّره الله بشأن زوجته، أخَذَ رسولُ الله يُوصِيه بالتمسُّك بها، ويقول له: ﴿أَمۡسِكۡ عَلَیۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ﴾ أي: فيها.
﴿وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ﴾ حيث كان يستَحيِي أن يُبدي ذلك، ويخاف من تقوُّلات أعدائه من كافرين ومنافقين، فتكون في ذلك فتنةٌ للناس، وتشويهٌ للدعوة.
﴿فَلَمَّا قَضَىٰ زَیۡدࣱ مِّنۡهَا وَطَرࣰا﴾ أي: طلَّقَها وأنهى العلاقةَ بها، ولم يذكر القرآن اسمَ صحابيٍّ غيره.
﴿زَوَّجۡنَـٰكَهَا﴾ نصَّ على أنَّ الله هو الذي اختارَها لنبيِّه، وهو الذي زوَّجَه بها.
﴿لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجࣱ فِیۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرࣰاۚ﴾ بيان للحكمة من هذا الاختِيار القدري، فكأنَّ الله أرادَ أن يُبطِل عادة التبنِّي ويحسِمها عمليًّا حسمًا نهائيًّا.
﴿مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِیِّ مِنۡ حَرَجࣲ فِیمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥ ۖ﴾ بمعنى أنّه لا ينبغي أن يجتمع الحرج مع ما شرَّعَه الله له، فليس في شرع الله ما يُستَحيَى منه.
﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ﴾ أي: في الرسالات السابقة، وليس هذا التوجيه خاصًّا بالرسول الخاتم .
﴿وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرࣰا مَّقۡدُورًا﴾ إشارة أنّ هذا الذي حصل في بيت النبوَّة وزواجه من سيدتنا زينب كان قدرًا إلهيًّا لا خيارَ لأحدٍ به.
﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدࣲ مِّن رِّجَالِكُمۡ﴾ أي: ما كان ينبغي ذلك، وفيه تأكيدٌ لإبطال عادة التبنِّي.
﴿وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ﴾ فأصلُ العلاقة بينه وبين المؤمنين هي رسالتُهُ التي ختَمَ الله بها الرسالات، والتي هي طريقهم إلى عزة الدنيا وسعادة الآخرة.
وكونه خاتمًا للنبيين يقتضي انقطاع الوحي، فمن ادَّعى نزولَ وحي الله على أحدٍ من خلقه بعد النبيِّ، فهو مُخالفٌ لصريح هذه الآية؛ إذ النبوَّة الوحي: ﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ﴾.
﴿وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا﴾ سبِّحوه بداية النهار ونهايته؛ أمّا البداية فاستعدادًا للعمل، وأمّا النهاية فاستغفارًا لما قد يكون فيه من زلَّة وتقصير.
﴿هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ﴾ الصلاةُ من الله: الرحمةُ والعفوُ والمغفرةُ.
﴿وَمَلَـٰۤىِٕكَتُهُۥ﴾ وصلاةُ الملائكة: الدعاءُ بالمغفرة.
﴿تَحِیَّتُهُمۡ یَوۡمَ یَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَـٰمࣱۚ﴾ في ذلك اليوم الذي تنتفض فيه الخلائق كلُّها للحساب، يبشِّرُ الله هؤلاء المؤمنين بالنجاة والفوز، وأنّه سبحانه يُحيِيهم بالسلام، كما قال في آيةٍ أخرى: ﴿سَلَـٰمࣱ قَوۡلࣰا مِّن رَّبࣲّ رَّحِیمࣲ﴾ [يس: 58].
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدࣰا﴾ لله بالوحدانيَّة، ولأنبياء الله جميعًا بالصدق وتبليغ الأمانة، وشاهدًا على الناس مَن آمَنَ بالله، ومَن كفر، ومَن أطاع، ومَن عصى.
﴿وَمُبَشِّرࣰا﴾ بالجنَّة وسعادة الدارين.
﴿وَنَذِیرࣰا﴾ من النار وشقاء الدنيا والآخرة.
﴿وَسِرَاجࣰا مُّنِیرࣰا﴾ وصفٌ لرسول الله ، فهو السراجُ الذي يُنيرُ الحياة كلّها بنور هَديه وسنَّته كما تنيرها الشمس.
﴿وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ﴾ لا تلتَفِت إليه ولا تنشَغِل به عن تبلِيغِ ما أنزَلَه الله إليك.
﴿مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ مِن قبل أن تدخُلوا بهنَّ.
﴿فَمَا لَكُمۡ عَلَیۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةࣲ تَعۡتَدُّونَهَاۖ﴾ هذا حكمُ الله في المرأة التي يُطلِّقُها زوجُها قبل الدخول بها، فإنَّها لا تعتدُّ عدَّةَ الطلاق، بل لها الحقُّ في الزواج بعد الطلاق مُباشرةً.
﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أعطوهنَّ حقوقهنَّ كاملةً.
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا﴾ فارِقوهنَّ فراقًا جميلًا من غير أذًى ولا انتقاصٍ من قدرهنَّ وقدر أهلهنَّ؛ إذ الطلاق غالبًا ما ينتُجُ عن سوءٍ في العلاقة، وقلَّة انسجامٍ واحترامٍ، فجاء التنبيهُ القرآنيُّ للتحرُّز والوقاية عن الظلم والإثم.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّـاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰ⁠جَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: مهورهنَّ، وقد ورد تسمية المهر أجرًا في زواج موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّیۤ أُرِیدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَیَّ هَـٰتَیۡنِ عَلَىٰۤ أَن تَأۡجُرَنِی ثَمَـٰنِیَ حِجَجࣲۖ﴾ [القصص: 27].
﴿وَٱمۡرَأَةࣰ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا﴾ ورد في هذه المسألة ثلاثة شروط:
الأول: أن تكون هناك امرأة مؤمنة متَّصِفة بالإيمان، وأن تهَبَ هذه المرأةُ نفسَها لرسول الله ، راغبةً فيه من غير صداقٍ، وأن يرغبَ النبيُّ بنِكاحِها، وقد ورَدَت في سبب النزول رواياتٌ كثيرةٌ، إلا أنّ الذي في «الصحيحين»: أنَّ امرأةً عرَضَت نفسَها على رسول الله، لكنَّه لم يُرِد نكاحَها، فلم تكن له فيها حاجة، فلم يتزوَّج بها أصلًا، وهذا نصُّ الحديث:
عن سهل بن مُعاذٍ قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله فقالت: إنِّي وهَبتُ منك نفسي. فقامَت طويلًا، فقال رجلٌ: زوِّجْنِيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟»، قال: ما عندي إلا إزارِي، فقال: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا»، فقال: ما أجِدُ شيئًا، فقال: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيْدٍ»، فلم يجِد، فقال: «أَمَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟»، قال: نَعَم، سُورةُ كذا، سُورةُ كذا، لسورٍ سمَّاها، فقال: «زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ».
﴿خَالِصَةࣰ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ﴾ لأنَّ الصداقَ واجبٌ في كلِّ تزويجٍ، فكانت إباحةُ الزواجِ للنبيِّ من غير صداقٍ خصوصيَّة له، والله أعلم.
﴿۞ تُرۡجِی مَن تَشَاۤءُ مِنۡهُنَّ﴾ الإرجاء معناه: التأخير، والمعنى أنّه له أن يَرُدَّ مَن يجوز له نكاحها حتى لو عرَضَت هي نفسها عليه، كما تقدَّم في حديث «الصحيحين».
﴿وَتُـٔۡوِیۤ إِلَیۡكَ مَن تَشَاۤءُۖ﴾ أي: التي تختارَها زوجة لك.
﴿وَمَنِ ٱبۡتَغَیۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ﴾ أي: لك أن ترجِع إلى المرأة التي ترَكتَها.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ﴾ أقرب إلى رضاهنَّ.
﴿أَن تَقَرَّ أَعۡیُنُهُنَّ وَلَا یَحۡزَنَّ وَیَرۡضَیۡنَ بِمَاۤ ءَاتَیۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ﴾ غاية رحيمة كريمة تُبيِّن قَدرَ زوجات النبيِّ عند الله، فكلُّ واحدةٍ منهنَّ دون استِثناء ينبغي أن تكون قريرة العين سعيدة وراضية تمام الرضا.
﴿لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ﴾ هذه الآية حسَمَت مَن يكون لها الحقّ أن تكون أُمًّا للمؤمنين؛ حيث اختارَهنَّ رسولُ الله، وأدناهنَّ، واحتفظ بعلاقَتِه معهنَّ، بعد أن خيرهنَّ فاختَرْنَه واختَرنَ اللهَ والدارَ الآخرة، فهؤلاء هنَّ أمهات المؤمنين؛ لم يزِدنَ بزوجةٍ جديدةٍ، ولم ينقُصن بفَسخٍ أو طلاقٍ.