﴿إِذۡ جَاۤءَتۡكُمۡ جُنُودࣱ﴾ قريش ومن تحالف معها من قبائل العرب، وذلك يوم
الأحزاب.
﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا وَجُنُودࣰا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ﴾ الظاهر أنَّهم الملائكة، وما يعلم جنودَ ربِّك إلَّا هو.
﴿إِذۡ جَاۤءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ﴾ أي: مِن أعالي المدينة ومِن الجهة المُقابلة لها، ورُبَّما يكون
الأحزاب قد وصلوا المدينة من طريقَين مختلفَين، أو أنَّه أراد بني قريظة؛ حيث كانوا في الجهة الثانية المقابلة للخندق، وقد غدَرُوا بالمسلمين، ونقَضُوا عهدَهم معهم.
﴿وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ﴾ مِن شدَّة الخوف والفزع، والحناجر جمع حنجرة، فكأنَّ القلوب قد انخلعت من أماكنها، وصعدت إلى مستوى الحناجر؛ لما رأته من هولٍ وشِدَّةٍ.
﴿وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠﴾ أي: الظنون المختلفة تبَعًا لاختلاف مستوى الإيمان ودرجة اليقين؛ فالمؤمنون الصادقون لا يظنُّون بالله إلَّا الخير، وأمَّا
المنافقون وضِعاف الإيمان فيظنُّون بالله ظنًّا آخر.
﴿هُنَالِكَ ٱبۡتُلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالࣰا شَدِیدࣰا﴾ تأكيدٌ لحالة الفزع والقلق التي أصابت المؤمنين في ذلك اليوم، وهي حالةٌ بشريَّةٌ طبيعيَّةٌ في مثل هذه الظروف؛ حيث الخوف على النساء والذراري، والخوف من المصير المجهول، والخوف على مستقبل الدعوة أيضًا، وهم قطعًا لا يعلمون الغيب، ولا يعلمون ما الله مُبتَلِيهم به، أمَّا عقيدتهم في الله وتوكلّهم عليه، والتفافهم حول نبيّهم
ﷺ، واستعدادهم للتضحية فكل هذا ثابتٌ لا يتزعزع ولا يتزلزل، فرضي الله عنهم وأرضاهم على ما صبروا وأخلصوا، وقدَّموا وبذلوا.
﴿وَإِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ إِلَّا غُرُورࣰا﴾ عَطَفَ الذين في قلوبهم مرض على المنافقين للتمييز بين المنافق الخالص الذي يُبطِنُ الكفر ويُظهِرُ الإيمان، والآخر الضعيف والمُتردِّد والذي لم يستقر الإيمان في قلبه، واشتراكهم في هذا القول دليلٌ على تأثير المنافقين في دائرة أوسع من دائرتهم، وهذا القول مع ما فيه من سوء ظنٍّ بالله وبرسول الله، فيه أيضًا تثبيطٌ للمسلمين، وإضعافٌ لروح المقاومة عندهم.
﴿وَإِذۡ قَالَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ﴾ أي: من المنافقين.
﴿یَـٰۤأَهۡلَ یَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ﴾ أي: لا جدوَى في مقامكم ورباطكم، فارجعوا إلى مساكنكم.
﴿وَیَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِیَّ یَقُولُونَ إِنَّ بُیُوتَنَا عَوۡرَةࣱ﴾ أي: مكشوفة للعدو، وليس بينها وبينه حائل.
﴿وَمَا هِیَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن یُرِیدُونَ إِلَّا فِرَارࣰا﴾ تكذيبٌ صريحٌ من القرآن لدعواهم تلك، وفضحٌ لنواياهم.
﴿وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَیۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا﴾ أي: لو اقتحم المشركون المدينة من كلِّ جهاتها.
﴿ثُمَّ سُىِٕلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ﴾ أي: طلب منهم المشركون الارتداد عن محمدٍ ودينه.
﴿لَـَٔاتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَاۤ إِلَّا یَسِیرࣰا﴾ أي: لسارَعوا إلى إجابتهم والدخول في دينهم، وهذا تأكيدٌ أنَّ هؤلاء المنافقين لم يكونوا مؤمنين أصلًا، وإنّما هم كاذبون وخائنون.
﴿وَلَقَدۡ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا یُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَـٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسۡـُٔولࣰا﴾ هذه طبيعة المنافقين، فهم مع القوي، ومع من يظنُّون فيه مصلحتهم، فإذا كان غير ذلك انقَلَبوا عليه ونكثوا عهودهم.
﴿وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ بالأجل المكتوب عنده سبحانه والذي يحول بينكم وبين الموت.
﴿قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِی یَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ﴾ أي: يحميكم من قدَر الله، ومن الموت الذي كتبه الله عليكم.
﴿۞ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِینَ مِنكُمۡ﴾ وهم الذين يصدُّون الناس عن الجهاد، ويُرغِّبُونهم في القعود، وهذا معنى قولهم:
﴿هَلُمَّ إِلَیۡنَاۖ﴾ أي: تعالوا معنا واتركوا الجهاد.
﴿وَلَا یَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِیلًا﴾ والبأس هنا: القتال.
﴿أَشِحَّةً عَلَیۡكُمۡۖ﴾ يبخلون عليكم بكلِّ شيءٍ؛ لأنَّهم لا يريدون الخير لكم، ثم أكَّد هذا المعنى بقوله الآتي:
﴿أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَیۡرِۚ﴾.
﴿رَأَیۡتَهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ تَدُورُ أَعۡیُنُهُمۡ كَٱلَّذِی یُغۡشَىٰ عَلَیۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ﴾ وَصْفٌ لحال المنافقين حينما تكون المواجهة مع العدو وتلتحم الصفوف، فلا شيء يفضح المنافقين كالقتال.
﴿فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ أي: ألقَوا عليكم من مفاخرهم ومآثر شجاعتهم الكاذبة ما ينتقِصُون به من شجاعة المؤمنين وصبرهم وثباتهم، وهذا دَيدَنُ المنافقين والمُنتَفِعين بعد كلِّ معركة، فهم قبل المعركة وأثناءها خائِفون وجِلُون، فإذا انقَشَعَت راحُوا يتغنَّون ببُطولاتهم، وينتَقِصُون من المجاهدين الصادقين.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَمۡ یُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَـٰلَهُمۡۚ﴾ بيانٌ لحقيقتهم وللدافع الأساس الذي ينتج كلَّ هذه المواقف السيئة، فهم كافرون حقيقةً وإن تظاهروا بالإسلام.
﴿یَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ یَذۡهَبُواْۖ﴾ يظنُّ
المنافقون أنَّ
الأحزاب لا زالوا قريبين من المدينة وأنَّهم لم يرحلوا.
﴿وَإِن یَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ﴾ كرَّةً ثانية.
﴿یَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِی ٱلۡأَعۡرَابِ﴾ أي: يودُّ
المنافقون لو أنّهم كانوا خارج المدينة في البادية مع الأعراب.
﴿یَسۡـَٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَاۤىِٕكُمۡۖ﴾ بمعنى أنّهم يكتَفُون بالسؤال عنكم عن بُعد، وعن أخبار مُواجهتكم مع المشركين.
﴿وَلَوۡ كَانُواْ فِیكُم مَّا قَـٰتَلُوۤاْ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ لأنّهم لا يقاتلون عن إيمان، وإنّما إن حضروا القتال قاتلوا بما يظنُّون أنّه يدفع عنهم تهمة الكفر والخيانة.
﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ﴾ وهذه قاعدةٌ من أعظم قواعد الدين؛ فالرسول
ﷺ هو المثل
الأعلى الذي تجسَّد الإسلام كلُّه في سلوكه، فهو النموذج التطبيقي للوحي، ولا يمكن فهم الوحي أو تطبيقه من غير سنَّته وسيرته الطاهرة
ﷺ.
وقد أشارت الآية إلى هذا المعنى فربطت بين التأسِّي به وبين ذكر الله:
﴿لِّمَن كَانَ یَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا﴾ وما عَرْض هذا الجانب من سيرته
ﷺ في هذه السورة العزيزة إلا لتحقيق هذه الغاية.
﴿وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّاۤ إِیمَـٰنࣰا وَتَسۡلِیمࣰا﴾ هذا هو الموقف اللائق بأولئك الصفوة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ وفي هذا تفسير لقوله تعالى المتقدِّم:
﴿وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠﴾ فحاشا لهؤلاء الأصفياء الأوفياء أن يظنُّوا غير ظنِّ الحقِّ بالله ثم برسوله
ﷺ، وهؤلاء هم الذين امتَدَحَهم الله وامتَدَحَ مواقفهم:
﴿مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِیلࣰا﴾ وليس بعد هذه التزكية من تزكية.
﴿لِّیَجۡزِیَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِینَ بِصِدۡقِهِمۡ وَیُعَذِّبَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ إِن شَاۤءَ أَوۡ یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾ تذكيرٌ بعقيدة الجزاء التي تنتظر الفريقَين: المؤمن وغير المؤمن، مع الإشارة اللطيفة إلى سعة رحمة الله حتى بأولئك المنافقين الذين خانوا الله ورسوله؛ ترغيبًا لهم بالتوبة والأوبة إلى الطريق المستقيم، وفي هذه إشارةٌ تربويَّة لكلِّ مؤمنٍ أن يحرص على هداية الناس ما وجد إلى ذلك سبيلًا، فإسلامنا دين الرحمة، وليس دين النقمة.
﴿وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ بِغَیۡظِهِمۡ لَمۡ یَنَالُواْ خَیۡرࣰاۚ﴾ لم ينالوا بُغيَتَهم بالظفر على المؤمنين.
﴿وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلۡقِتَالَۚ﴾ ذِكْرُ هذا في مقام الامتنان دليلٌ على أنَّ القتال ليس مطلبًا دينيًّا بحد ذاته، بل الرحمة والدعوة إلى الخير هي الأصلُ، والقتال استثناء، وفي هذا الاستثناء استثناء آخر؛ ففي هجوم المشركين على المسلمين في مدينتهم تحقَّقَ الاستثناء ووجب القتال، لكن لمّا كان عدد المسلمين أقل، وعدَّتهم أضعف تحقَّقَ الاستثناء الثاني، فأصبح تجنُّب القتال مطلبًا بما يحفظ بيضَةَ الإسلام، ويدفع عن المسلمين.
ولذلك عمل رسول الله
ﷺ على حفر الخندق، وهمَّ بأن يُعطي ثُلُث ثمار المدينة لبعض القبائل المتحالفة مع قريش؛ لكي يكفُّوا عن القتال. وهذا فقهٌ عظيمٌ ودقيقٌ.
أمَّا ما نراه اليوم من تدميرٍ لحواضر الإسلام، وتشريدٍ لملايين المسلمين تحت اسم الجهاد، وجَعل الأحياء السكنيَّة ساحةً للحرب، ولردود الأفعال الانتقاميَّة، فهذا أبعدُ ما يكون عن الجهاد الحقّ، وليس في هذا تبرئة لساحة الأعداء مهما كانوا، فهم أعداء، وهذا هو المُتوقَّع والمُنتظَر منهم، لكن الجاهل قد يضُرُّ بنفسه أكثر مما يطلُبُه منه عدوُّهُ.
﴿وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِیًّا عَزِیزࣰا﴾ اختيارُ هاتَين الصفتَين الكريمتَين لله تعالى في التذييل على هذا الموقف، يُشير إشارةً قويَّةً إلى أنَّ القوَّة والعزَّة قد تقتَرِنان بكفِّ العدوِّ ومنعه من القتال، وليس شرطًا أن تقتَرِن بالقتال المباشر.
﴿وَأَنزَلَ ٱلَّذِینَ ظَـٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مِن صَیَاصِیهِمۡ﴾ هم بنو قريظة الذين نقَضُوا عهدَهم مع رسول الله، وظاهَرُوا المشركين يوم
الأحزاب وتحالَفُوا معهم، فلما صَرَفَ الله المشركين، تحرَّكَ الرسولُ
ﷺ لتأديب هؤلاء، فنَزَلُوا على حُكمه، وتَرَكوا صياصِيهم، أي: حصونهم التي كانوا يتحصَّنُون بها، فقتل المسلمون مُقاتِلَتهم، وأسَرُوا الباقِين
﴿وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِیقࣰا﴾.
﴿وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ﴾ حيث أصبَحَت غنيمةً للمسلمين، وهذه لا شكَّ إحدى أهم ثمار هذه المعركة؛ حيث تخلَّص المسلمون من جيبٍ خطيرٍ كان يُهدِّد أمنَ المدينة من داخلها.
﴿وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ﴾ بشارة للمسلمين أنَّهم سيفتحون أرضًا جديدة، وأنَّ دينهم سينتشر في هذه الأرض، وقد كان ذلك بعد غزوة
الأحزاب؛ حيث فُتِحَت خيبر ثُمّ مكَّة، والإشارة إلى خيبر أقرب للسياق، والله أعلم.