سورة سبأ تفسير مجالس النور الآية 40

وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعࣰا ثُمَّ یَقُولُ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَهَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِیَّاكُمۡ كَانُواْ یَعۡبُدُونَ ﴿٤٠﴾

تفسير مجالس النور سورة سبأ

المجلس الثالث والتسعون بعد المائة: فقه الحوار


من الآية (22- 54)


يفتح القرآن في هذه السورة بابًا واسعًا للحوار مع المشركين يتناول فيه أصول معتقداتهم، ويُجيب عن تساؤلاتهم وشُبهاتهم بصورٍ مختلفةٍ، ومستوياتٍ متنوعة، وبانتقالاتٍ مُؤثِّرة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، مع تأكيد مستمر لآداب الحوار حتى مع القوم الذين يخالفوننا في أصول ديننا وعقيدتنا:
أولًا: يضع القرآن في هذه الآيات أساسَين كبيرَين لفهم طبيعة هذه الرسالة، ورؤيتها لبني آدم والميدان الذي تفتحه أمامهم للتنافس والتميُّز.
يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا كَاۤفَّةࣰ لِّلنَّاسِ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰا﴾، ثم يقول: ﴿وَمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُكُم بِٱلَّتِی تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰۤ إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا﴾.
فأصلُ الحوار ينطلق إذن من المفهوم العالمي لهذه الرسالة، ومن الفرص المتساوية التي تكفُلها هذه الرسالة لبني آدم على السواء لحمل هذه الرسالة وتبليغها والسموِّ بها، ومِن ثَمَّ فليس هناك أغراض جهويَّة أو قبليَّة أو عنصريَّة، وإنّما الميزان ميزان العمل، فمن تقدَّم به عمله تقدَّم، ومن تأخَّر به عمله تأخَّر، مهما كان نسبه وأصله وفصله، ولا شكَّ أنّ هذه الأسس تبعث روح الطمأنينة في نفوس المخاطَبين؛ لأنّ الإنسان لا يرضَى أن يُخاطَب بالدين من ناحية، ثم يُخاطَب بالاستعلاء والنظرة الفوقيَّة من ناحية أخرى.
ثانيًا: يبدأ القرآن بطرح سؤالٍ يسهِّل فيه للعقل البشري أن يُدرك أنّ هذه الأصنام لا تنفع ولا تضرُّ، وأنّ الخالق الوحيد لهذا الكون إنّما هو الله ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ لَا یَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِیهِمَا مِن شِرۡكࣲ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِیرࣲ ﴾، ثُمّ يطرق على هذه العقول مرة أخرى: ﴿قُلۡ أَرُونِیَ ٱلَّذِینَ أَلۡحَقۡتُم بِهِۦ شُرَكَاۤءَۖ كَلَّاۚ بَلۡ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴾.
ولأنّه كان بعض عقلاء المشركين لا يُنكرون هذه الحقيقة، وأنّ أصنامهم لا تملك شيئًا في هذا الوجود، لكنّهم يتبرَّكُون بها استشفاعًا وتقرُّبًا إلى الله، ردَّ القرآن عليهم: ﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُۥۤ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ﴾.
وهذا هو منطق العقل والفطرة؛ فالشفيع إنّما نستشفع به إذا كُنَّا على يقينٍ أنّه مُقرَّب ممن ندعوه، أما استِشفاع المشركين بأصنامهم إلى الله مع انعدام الدليل على قُرب هذه الأصنام من الله ورِضا الله عنها، فهذا تضليلٌ للنفس، وكذِبٌ على الله.
ثالثًا: وعلى صِلة بالسؤال الأول، يطرح القرآن سؤالًا يمسُّ واقعَ الناس وحياتهم، وأسباب رزقهم: ﴿۞ قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ﴾ وهذا الجوابُ الذي لا يملك المشركون محيصًا عنه، فالله هو الذي خلق الأرض وما فيها، وشقَّ فيها الأنهار، وأودع فيها المعادن، وليس لأصنامهم في كلّ هذا شأن ولا نصيب، ثم يُضيف القرآن أنّ الله الذي خلق هذه الأرزاق هو الذي يُقدِّرها أيضًا بين الناس ضمن نظامٍ محسوبٍ لضبط توازن الحياة ﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّی یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ﴾.
رابعًا: يعرض القرآن قول المشركين في الرسول وفي الرسالة كما هو: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ بِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَلَا بِٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِۗ ﴾، ﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالُواْ مَا هَـٰذَاۤ إِلَّا رَجُلࣱ یُرِیدُ أَن یَصُدَّكُمۡ عَمَّا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ إِفۡكࣱ مُّفۡتَرࣰىۚ وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾.
ثم يبيِّن حالهم وأنّهم كانوا في جاهليَّة لم تَرَ نورَ الوحي، ولم ينزل فيها كتاب: ﴿وَمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُم مِّن كُتُبࣲ یَدۡرُسُونَهَاۖ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمۡ قَبۡلَكَ مِن نَّذِیرࣲ ﴿٤٤﴾ وَكَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُواْ مِعۡشَارَ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ فَكَذَّبُواْ رُسُلِیۖ فَكَیۡفَ كَانَ نَكِیرِ﴾.
خامسًا: يضع القرآن قاعدةً في التحاوُر مع المخالفين تعتمد العدل، وتنزل بالداعية إلى مستوى خصمه؛ تمهيدًا لانطلاقٍ متكافئٍ للحوار، وهذا من الخُلُق القرآنيِّ الفريد ﴿وَإِنَّـاۤ أَوۡ إِیَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ ﴾ أي: بما أننا نختلف معكم في أصول الدين، وفي التصوُّرات الكبرى للكون والحياة، فإنّه لا بُدَّ أن يكون أحدُنا على الحقِّ والثاني على الباطل، فتعالَوا نتحاور لنكشف أنفسَنا، ونتعرَّف على مواقعنا.
ثم ينزِل في مستوى الخطاب أكثر من هذا، فيقول: ﴿قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّاۤ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ﴾ وكلُّ هذا تشجيع لهم للجلوس على بساط الحوار، وتطمينٌ لهم أنّ الحوار إنّما هو لمصلحتهم، وليس تمييزًا لأحدٍ عليهم، أو لسلبهم شيئًا مما عندهم من جاهٍ أو مالٍ.
سادسًا: يوجِّهُ القرآن الرسولَ أن يدعو أولئك المخالفين للتفكير مثنى وفرادى، أي: بعيدًا عن ضغط الجمهور، والمُناكفات والمُزايدات التي تعجُّ بها المُجادلات الجماهيريَّة؛ حيث تختلط الغايات، فيكون البحث عن الانتصار للنفس، أو الحزب، أو القبيلة، أمَّا أن يُفكِّر الإنسانُ مع نفسه، أو يجلس إلى جانب مَن يثق به، ويتحاور معه بهدوءٍ بعيدًا عن ذاك الصخب، فلا شكَّ أنّ هذا علامةٌ على صدق التوجُّه والرغبة في الوصول إلى الحقِّ ﴿۞ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰ⁠حِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰ⁠دَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِیرࣱ لَّكُم بَیۡنَ یَدَیۡ عَذَابࣲ شَدِیدࣲ﴾.
سابعًا: يُؤكِّد القرآن أهميةَ نزاهة الداعية المُبلِّغ عن الله عن كلِّ غرضٍ دنيويٍّ: ﴿قُلۡ مَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرࣲ فَهُوَ لَكُمۡۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱلـلَّــهِۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدࣱ ﴾.
ثامنًا: يذكر القرآن بعد كلِّ هذا حوارًا سيجري بين هؤلاء المشركين أنفسهم، ولكنّه في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه حوار، وكأنَّه يقول لهم: لقد كان بوسعكم أن تتحاوروا بهذا وتفكِّروا في مضمونه وأنتم هناك في دار العمل، فما الذي أشغَلَكم وعطَّل عقولَكم؟ ﴿وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ فَزِعُواْ فَلَا فَوۡتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ ﴿٥١﴾ وَقَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ ﴿٥٢﴾ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ ﴾.
تاسعًا: وفي ثنايا ما تقدَّم يلتفِت السياق إلى مشهدٍ آخر، ليعرض حوارًا آخر غايته إبطال عقائد المشركين، وبراءة الملائكة مما ينسبه المشركون إليهم، وبيان مدى جهلهم وتخبُّطهم في ذلك: ﴿وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعࣰا ثُمَّ یَقُولُ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَهَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِیَّاكُمۡ كَانُواْ یَعۡبُدُونَ ﴿٤٠﴾ قَالُواْ سُبۡحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِیُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ یَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ﴿٤١﴾ فَٱلۡیَوۡمَ لَا یَمۡلِكُ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضࣲ نَّفۡعࣰا وَلَا ضَرࣰّا وَنَقُولُ لِلَّذِینَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِی كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾.


﴿لَا یَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِیهِمَا مِن شِرۡكࣲ ﴾ تأكيدٌ لتوحيد الله في المُلك، والذي هو تفريعٌ عن توحيد الله في الخلق، فالذي خلق الأشياء هو الذي يملكها.
﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُۥۤ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰۤ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ﴾ نفيٌ لدعوى المشركين في تقرُّبهم إلى الله بأصنامهم، وما يرجونه من شفاعتها يوم القيامة، فالشفاعة حقٌّ، لكنَّها لا تكون إلَّا لمن أذِنَ الله له.
ثم يسترسِلُ السياق ليرسُمَ صورةً من صور الشفاعة هناك؛ فالناس بعد توجُّهِهم لطلب الشفاعة يمكثُون ما الله أعلم به في كربٍ وضيقٍ، حتى يكشِف الله ما بهم، ويأذَن بالشفاعة فيُعلِي بها شأنَ الشافع، ويُنفِّس كربَ المشفوع له، فيستبشِرُون جميعًا برحمة الله وعفوِه ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ ﴾.
﴿قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّاۤ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ﴾ بمعنى إن كنَّا نحن قد أجرَمنا - كما تزعُمون - فلن تتحمَّلُوا وِزرَنا، وكذلك نحن لا نُحاسَبُ على أعمالكم، فكلُّ عاملٍ مسؤولٌ عن عمله، وفيه دعوةٌ للتفكير بالمصير المحتوم الذي ينتظر الجميع، بعيدًا عن صخَبِ المُجادلة والمُماحكة.
﴿قُلۡ یَجۡمَعُ بَیۡنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي: يوم القيامة؛ حيث تجتمع الخلائق كلّها.
﴿ثُمَّ یَفۡتَحُ بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ ﴾ أي: يقضِي بيننا وبينكم بحُكمه الحقّ ـ.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ بِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَلَا بِٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِۗ ﴾ أي: لن يؤمنوا بالقرآن، ولا بالتوراة والإنجيل.
﴿إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ ﴾ أي: محبوسون ينتظِرون جزاءَهم.
﴿یَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ﴾ أي: يتجادَلون ويتلاوَمون.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ وهذا دَيدَنُ المستكبرين وقادة الضلالة في الأرض؛ حيث كانوا يُسخِّرون كلَّ جهدهم ومكرهم لإضلال الناس وصدِّهم عن طريق الحقِّ، كما نراه اليوم من إنفاقٍ لا حدود له، وتبذيرٍ لموارد الأرض من أجل التضليل السياسي والإعلامي، وخداع الجماهير، ودفعها باتجاه الانحراف، وإخضاعها لمشاريع بعيدة عن فطرة الإنسان وتطلُّعاته، وطبيعة تكوينه.
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِی قَرۡیَةࣲ مِّن نَّذِیرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَاۤ إِنَّا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ ﴾ إشارةٌ إلى أنَّ الطبقة المُترَفَة في كلِّ مجتمعٍ هي التي تخشى التغيير حتى لو كان هذا التغيير باتجاه الأفضل.
﴿وَقَالُواْ نَحۡنُ أَكۡثَرُ أَمۡوَ ٰ⁠لࣰا وَأَوۡلَـٰدࣰا وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِینَ ﴾ هذا هو ميزانهم، فهم يرَون أنفسهم الأفضل من غيرهم، ولا يرَون النعم التي هم فيها إلَّا أنَّها حقٌّ لهم بحكم تميُّزهم في أصل تكوينهم، وفيما يفاخرون به من أحسابٍ وأنسابٍ، ومِن ثَمَّ فهم يرَون أنه حتى لو كانت هناك آخرة وحساب فلن يكونوا هناك من المُعذَّبين، فهم أعلى وأرقى من أن يُحاسَبوا أو يُعذَّبوا!
وقد ردَّ القرآن تصوُّرهم الخاطئ هذا: ﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّی یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُ ﴾ لحكمةٍ يعلمها سبحانه، وليس في هذا تفضيلٌ للغني على الفقير، بل الميزان الحقُّ ميزان الإيمان والعمل: ﴿وَمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُكُم بِٱلَّتِی تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰۤ إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمۡ جَزَاۤءُ ٱلضِّعۡفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمۡ فِی ٱلۡغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ ﴾.
﴿ثُمَّ یَقُولُ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَهَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِیَّاكُمۡ كَانُواْ یَعۡبُدُونَ ﴾ والمقصود: إظهار براءة الملائكة من هذا القول، وبيان جهل المشركين وشدّة غفلتهم وضلالهم.
﴿بَلۡ كَانُواْ یَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ﴾ فقد كان المشركون يخلطون بين الملائكة والجن، فجعلوا الملائكة بنات الله، ثم جعلوا بين الله وبين الجنِّ نسَبًا! ومِن معاني عبادتهم للجنِّ اتباعهم لإبليس وغوايته، واستسلامهم لوساوسه، وهذه صفةٌ عامة في كلِّ المشركين.
﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعۡشَارَ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ﴾ بمعنى أنّ مشركي مكة لم يبلغوا من القوَّة عُشرَ الأقوام السابقين الذين أخذهم الله بعد تكذيبهم للرسل، والمقصود بهذا الإخبار التهديد.
﴿۞ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰ⁠حِدَةٍۖ﴾ أي: بنصيحةٍ واحدةٍ.
﴿مَثۡنَىٰ ﴾ اثنَين اثنَين، يتحاوران ويفكِّران معًا.
﴿وَفُرَ ٰ⁠دَىٰ﴾ كلّ فردٍ يُفكَّرُ مع نفسه.
﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ ﴾ أي: من جنونٍ، وكانت العرب تنسب الجنون إلى مسِّ الجنِّ، والله أعلم.
﴿قُلۡ مَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرࣲ فَهُوَ لَكُمۡۖ﴾ النبيُّ لم يسألهم أجرًا أصلًا، وإنّما المقصود التهكُّم، كأنّه يقول لهم: ما أخذته منكم مِن أجرٍ ونحوه فخذوه.
﴿قُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَمَا یُبۡدِئُ ٱلۡبَـٰطِلُ وَمَا یُعِیدُ ﴾ بمعنى أنّ الباطل لا يفعل شيئًا إذا جاءه الحقّ، فلا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، ولا يُنشئُ شيئًا ولا يُعيد، وهذه أمارةُ اضمِحلالِه وزوالِه.
﴿وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ فَزِعُواْ ﴾ عند البعث.
﴿فَلَا فَوۡتَ﴾ فلا مهرب.
﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ ﴾ أُخِذُوا من المكان الذي هم فيه، وهو أرض المحشر.
﴿وَقَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ﴾ أي: كيف لهم أن ينالوا مُبتغاهم وقد غدَا بعيدًا عنهم، فالآخرة ليست دار استدراك وتوبة، فقد أعطاهم الله في الدنيا من الأعمار ما يُمكنهم فيه التراجع والاستغفار، وكان ذلك قريبًا منهم وبين أيديهم.
﴿وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ ﴾ أي: كانوا يتكلَّمُون بالغيب كلامًا باطلًا، كمن يرمي هدفًا بعيدًا عنه؛ بحيث إنّه لا يراه، ولا يعلم مكانَه.
﴿وَحِیلَ بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ مَا یَشۡتَهُونَ﴾ حيث هم الآن يتمنَّون الرجوع إلى الدنيا لكي يؤمنوا ويتوبوا، ولكن الله جعل بينهم وبين ما يتمنَّون حائلًا.
﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشۡیَاعِهِم مِّن قَبۡلُۚ﴾ بأشباههم من الأُمم السابقة، فلم يرجِع منهم أحدٌ إلى الدنيا، وهذه سُنَّة ثابتة من سُنن الله في هذا الخلق.