﴿یسۤ﴾ من الحروف المقطَّعة، وقد مرَّ الحديث عنها في أوائل سورة
البقرة، على خلاف ما يُشاع أنَّه اسمٌ من أسماء نبيِّنا محمد
ﷺ؛ إذ هو قولٌ بلا دليلٍ، ونظيرُ هذا القول في
﴿طه﴾ [طه: 1].
وهنا وقفةٌ: فإن شيُوع هذَين الاسمَين عند عامة الناس على أنَّهما من أسمائه
ﷺ؛ بحيث تنصَرِف أذهانهم عند الإطلاق إلى هذا فينبغي ملاحظته، واحترام هذَين الاسمَين وتبجِيلهما في النداء؛ لمحل انصرافهما في أذهان الناس، وهذا من حُسن التأدُّبِ معه
ﷺ.
﴿لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰۤ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ هو علمُ الله السابق أنَّهم لن يؤمنوا استكبارًا وعنادًا من أنفسهم، وليس بسلب الإرادة عنهم.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَا فِیۤ أَعۡنَـٰقِهِمۡ أَغۡلَـٰلࣰا فَهِیَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ﴾ هذه صورةٌ مركبةٌ فيها تقريبٌ حالهم وهم ينأَون عن الحقِّ، وعن نور الوحي، فينطوُون على أنفسهم لشدَّةِ عِنادِهم، كما ينطوي المُكبَّل بالقيود.
وفيه أيضًا تقرير صورة عذابهم في الآخرة، والتي تُناسِب ما اختاروه لأنفسهم في الدنيا؛ حيث سيُقيَّدون بالسلاسل فعلًا، وتجمع أيديهم مع أعناقهم، والأذقان: جمع ذقن، وهو مجمع اللحيَين، ومُقْمَحُون أي: شاخصةٌ أبصارهم، ومرتفعةٌ أذقانهم لغِلَظ السلاسل التي حول أعناقهم.
﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ سَدࣰّا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدࣰّا فَأَغۡشَیۡنَـٰهُمۡ فَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ﴾ طريق الحقِّ، وهذا الجَعل ليس على سبيل سَلب إرادتهم، بل هو نتيجة لما اختاروه لأنفسهم، وهذا من سُنَنه تعالى الثابتة في الاختبار والتكليف، فالله لا يظلِمُ أحدًا، ولا يُكرِهُ أحدًا على الضلالة، وإنَّما هم مَن أغلق منافذَ النظر في ملَكوت الله الواسع، وأغلقوا منافذَ النظر في أنفسهم وفي تاريخ أسلافهم، فسَدُّوا طريقَ المعرفة على أنفسهم، فكان لهم ما أرادوا.
﴿وَسَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ لتكبُّرهم وعِنادهم، وهذا في فئةٍ مخصُوصةٍ من المشركين، وليس عامًّا فيهم؛ إذ قد أسلَمَ كثيرٌ منهم وحسُنَ إسلامهم، ولو كان هذا عامًّا في المشركين أو الكافرين لانقطع سبيلُ الدعوة إليهم.
﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِیَ ٱلرَّحۡمَـٰنَ بِٱلۡغَیۡبِۖ ﯘ﴾ ظاهِرُه قصر الإنذار على هؤلاء المؤمنين، والحقيقة أنَّه قصرٌ إضافيٌّ جاء لمدح المؤمنين وإعلاء شأنهم في مُقابل أولئك المُعاندين، أمّا الدعوة إلى الله بشارة ونذارة فمفتوحة للعالمين كلِّ العالمين
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107].
والتنويه بشأن هؤلاء الصفوة في هذا المقام يُفيد أنّهم إنّما اهتَدوا؛ لأنَّهم طلَبُوا الهدايةَ بصدقٍ، وفتحوا عقولهم وقلوبهم لكلمة الحقِّ، فكلُّ مَن كان كذلك كان جديرًا بالهداية والانتفاع بالدعوة وإن لم يكن الآن مؤمنًا.
﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ﴾ من عملٍ صالحٍ أو طالحٍ، وفيه إشارةٌ إلى قدرة الله على إحياء قلب الكافر بالإيمان، وإحياء قلب العاصي بالتوبة.
﴿وَءَاثَـٰرَهُمۡۚ﴾ حيث لكلِّ عملٍ آثاره في نفوس الناس وحياتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، فالسُّنَّة الحسنة لها آثارها، والسُّنَّة السيئة لها آثارها، وما يتركه المرءُ مِن علمٍ وسُمعةٍ، وصدقةٍ جاريةٍ ووقفٍ يُنتفَعُ به، كلُّ ذلك من الآثار الباقية بعده.
﴿وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ﴾ من أعمال بني آدم وآثارهم.
﴿فِیۤ إِمَامࣲ مُّبِینࣲ﴾ في كتابٍ لا يَضلُّ ولا ينسى.
﴿فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ﴾ أي: فأيَّدناهما برسولٍ ثالث.
﴿قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَیَّرۡنَا بِكُمۡۖ﴾ أي: تشاءمنا بمجيئكم، والطِّيَرة: الشؤم.
﴿قَالُواْ طَـٰۤىِٕرُكُم مَّعَكُمۡ﴾ أي: شؤمكم معكم بسبب كفركم وظلمكم.
﴿أَىِٕن ذُكِّرۡتُمۚ﴾ شرطٌ حُذِفَ جوابه؛ لأنَّه معلومٌ في السياق، ومعناه: أإِنْ ذكَّرناكم بالله تشاءَمتم مِنَّا؟
﴿مُّسۡرِفُونَ﴾ متجاوِزون للحد.
﴿وَجَاۤءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ رَجُلࣱ﴾ من أطرافها.
﴿یَسۡعَىٰ﴾ يمشي مُسرِعًا.
﴿ٱلَّذِی فَطَرَنِی﴾ الذي خلقني من العدم.
﴿إِنِّیۤ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ﴾ فاشهدوا على إيماني، والمقصود أنَّه أعلن إيمانه ولم يُخْفِهِ عن قومِه وهو يعلم أنَّ هذا يسوؤهم.
﴿۞ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ لإهلاكهم، فالأمر أهون من ذلك.
﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ﴾ أهلكهم بالصوت، وهو نوعٌ من أنواع العذاب الذي لم يكتشفه العلم إلا مؤخَّرًا.
﴿یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ﴾ بمعنى أنَّ هؤلاء يستحقُّون التحسُّر على حالهم وما أوقعوا أنفسهم فيه، كأنَّه يقول: يا حسرةً احضري فهذا أوانُكِ.
﴿كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ﴾ من الأُمَمِ السابقة في القرون الماضية.
﴿وَفَجَّرۡنَا فِیهَا مِنَ ٱلۡعُیُونِ﴾ فماء العين يتدفَّق تدفُّقًا ولا يحتاج إلى واسطة لإخراجه، وهذا من معنى التفجير ولوازمه.
﴿لِیَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَیۡدِیهِمۡۚ أَفَلَا یَشۡكُرُونَ﴾ أي: ليأكلوا من ثِمار النخيل والأعناب التي خلَقَها الله لهم ولم تعمَلها أيديهم؛ لأنَّ الثمار من خلق الله وليست من صُنعهم، فتكون (ما) نافِية، وهذا أوفق لسياق الامتِنان والشكر، ويجوز في اللغة أن تكون (ما) موصولة، بمعنى: ليأكلوا من هذه الثمار ومما صنَعَته أيديهم، ولكنَّه بعيدٌ عن السياق، والله أعلم.
﴿ٱلۡأَزۡوَ ٰجَ﴾ الأصناف المختلفة.
﴿وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ حيث جعل الذكر والأنثى لاستقرار الحياة واستمرارها.
﴿وَءَایَةࣱ لَّهُمُ ٱلَّیۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ﴾ إشارة إلى أنَّ الليل أصلٌ؛ لأنَّه لا سبب له، والنهار استثناء؛ لأنَّه مُرتبطٌ بطلوع الشمس، فإذا انسلخ النهار بغروب الشمس بقِيَ الليل.
﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِی لِمُسۡتَقَرࣲّ لَّهَاۚ﴾ والمقصود حركة الشمس اليوميَّة التي يراها الناظر البسيط والبدوي في الصحراء دون تكلُّف، بغض النظر عن حركتها الذاتيَّة، فهذه خارج السياق، والمعنى أنَّ تعاقُبَ الليل والنهار مستمِرٌّ في هذه الأرض بشروق الشمس وغروبها، فإذا أذِنَ الله بإنهاء الحياة توقَّفَت حركة الشمس هذه كما تتوقَّف النجوم والكواكب كلّها، وذلك مستقرها، والله أعلم.
﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِیمِ﴾ والمقصود هنا: تقدير الأهِلَّة في دورتها الشهريَّة المعروفة، والعُرجون: عِذْقُ الرُّطَب المُتقوِّس، وهي صورةٌ تمثيليَّةٌ للهلال في أوَّلِ الشهر وفي مُنتهاه.
﴿لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ﴾ لأنّهما في مدارَين مختلِفَين، وذلك من تقديره سبحانه ولطفه في خلقه.
﴿وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ﴾ لأنّهما أثران ناتجان عن حركةٍ فلكيَّةٍ محسوبةٍ لا مجال فيها للإسراع أو البُطء، ولا مجال فيها للفوضى.
﴿وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ﴾ أي: كلٌّ يجري في مداره وموقعه المخصص له.
﴿وَءَایَةࣱ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ﴾ أي: حمَلنا أولادَهم - والمقصود هنا: أولاد بني آدم عامَّةً - في البحر على هذه السُّفن التي تمخُرُ البحر وتعومُ عليه بقُدرة الله، وهي مُحمَّلةٌ بالأثقال، ويبعُد في السياق أن يكون المقصود سفينة نوحٍ
عليه السلام؛ وذلك لقوله تعالى الآتي:
﴿وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ فَلَا صَرِیخَ لَهُمۡ وَلَا هُمۡ یُنقَذُونَ﴾، والله أعلم.
﴿وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا یَرۡكَبُونَ﴾ من الإبل والخيول ونحوها.
﴿فَلَا صَرِیخَ لَهُمۡ﴾ فلا مُغِيثَ لهم.
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیكُمۡ وَمَا خَلۡفَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ أي: اتَّقُوا الله تقوى شاملة فيما تُقدِّمون، وفيما تُخلِّفُون، وجوابُ (إذا) محذوف؛ لأنَّه مفهومٌ من السياق، وتقديرُه: أعْرَضُوا، بدلالة قوله تعالى الآتي:
﴿وَمَا تَأۡتِیهِم مِّنۡ ءَایَةࣲ مِّنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِینَ﴾.
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ﴾ أي: على المساكين والفقراء.
﴿قَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥۤ﴾ فيه استِكبارٌ وازدِراءٌ بالفقراء والمساكين، وفيه أيضًا سُخريةٌ بعقيدة المؤمنين أنَّ الله يرزُقُ مَن يشاء، وبهذا يجتمِعُ في المشركين سُوء الدين، وسُوء الخُلُق.