﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا فِیهِم مُّنذِرِینَ﴾ أي: أرسلنا في الأولين رسلًا مُنذِرين.
﴿فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾ أي: عاقبة تلك الأقوام الذين كذَّبُوا هؤلاء الرسل، ثم شرَعَ بتفصيل هذه الأقوام.
﴿وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحࣱ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِیبُونَ ﴿٧٥﴾ وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ يُثنِي الله تبارك وتعالى على نفسه؛ إذ استجابَ لنوحٍ
عليه السلام دُعاءَه، ونجَّاه وأهلَه من ذلك الطوفان الذي أهلَكَ الله به قومَه.
﴿وَجَعَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِینَ﴾ فلم يبق من بني آدم إلا ذرية نوحٍ؛ ولذلك يقال: إنّه أبو العالم الثاني، والظاهر أنّ المؤمنين الذين نجّاهم الله مع
نوح لم يخلّفوا ذريّة، وليس معروفًا سبب ذلك، وليس معروفًا عددهم أيضًا سوى أنّهم قليل
﴿وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣱ﴾ [هود: 40].
﴿وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ﴾ أي: تركنا له ذِكرًا باقيًا في الأجيال المُتعاقِبة.
﴿۞ وَإِنَّ مِن شِیعَتِهِۦ لَإِبۡرَ ٰهِیمَ﴾ أي: ممن مضَوا على نَهجِه وسُنَّتِه في التوحيد وفي الدعوة إليه، وفيه تأكيد لوحدة الرسالات السماويَّة.
﴿إِذۡ جَاۤءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبࣲ سَلِیمٍ﴾ أي: أقبل على ربِّه بقلبٍ نقيٍّ خالٍ من الشرك والظلم.
﴿أَىِٕفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ﴾ تأكيد أنَّ عبادة الأصنام ليست رأيًا ولا فكرةً أو نظرًا، وإنّما هي الكذب الذي سارَ الناس خلفه دون وعيٍ أو تفكيرٍ.
﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ يسأل إبراهيم
عليه السلام قومَه عن ظنِّهم بربِّ العالمين؛ إذ لو كانوا يعرفونه حقَّ معرفته، ويقدرونه حقَّ قَدره ما اتخذوا من دونه أندادًا من حِجارة يصنعونها بأيديهم.
﴿فَنَظَرَ نَظۡرَةࣰ فِی ٱلنُّجُومِ﴾ بمعنى أنّه فكَّر ملِيًّا خالِيًا بنفسه، كحالِ مَن يتأمَّل النجوم، والعرب تُشبِّهُ المُستغرِق بتفكيره بالناظر في النجوم؛ لأنَّ الذي ينظر فيها يستغرِقُ فيها وينسَى ما حولَه، ولا مانع أيضًا أنَّه
عليه السلام كان يتأمَّل في النجوم وفي سعة هذا الكون العظيم، ثم ينظر إلى هذه الأصنام الصغيرة الحقيرة، فتهونُ عليه، ففكَّر بإهانَتِها في عيون أهلها، وهكذا بدأَت قصته في تحطيم الأصنام.
﴿فَقَالَ إِنِّی سَقِیمࣱ﴾ تعلَّل بمرضه عن الخروج مع قومه في إحدى مناسباتهم، والظاهر أنَّه لم يكن مريضًا، وإنَّما هي حيلةٌ اتخذها ليخلو بأصنامهم، وكلمة سَقِيم تحتمل المرض وتحتمل الضعفَ والهمَّ ونحو ذلك، فورَّى بذلك توريةً.
﴿فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِینَ﴾ أي: خرجوا وتركوه وحيدًا.
﴿فَرَاغَ إِلَىٰۤ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ ﴿٩١﴾ مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ﴾ يطرح إبراهيم أسئلته هذه على الأصنام تهكمًا واستهزاءً بها وبأهلها الذين يعبدونها من دون الله، ويرجون منها ما لا يرجونه من الله.
﴿فَرَاغَ عَلَیۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡیَمِینِ﴾ أي: مالَ عليهم بيمينه حتى حطَّمَهم.
﴿فَأَقۡبَلُوۤاْ إِلَیۡهِ یَزِفُّونَ﴾ أي: يُسرِعون.
﴿قَالُواْ ٱبۡنُواْ لَهُۥ بُنۡیَـٰنࣰا فَأَلۡقُوهُ فِی ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: في النار التي أوقدوها لحرقه.
﴿فَأَرَادُواْ بِهِۦ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَـٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِینَ﴾ إذ ردَّ الله كيدهم ونجَّاه من نارهم.
﴿فَبَشَّرۡنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِیمࣲ﴾ هو إسماعيل على أبيه وعليه السلام؛ حيث ساقَ القرآن هنا قصَّتَه وقصةَ فدائِه، ثم قال بعد ذلك:
﴿وَبَشَّرۡنَـٰهُ بِإِسۡحَـٰقَ نَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾.
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ﴾ أي: شبَّ وأخذَ يمشي مع أبيه.
﴿قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ﴾ ورؤيا الأنبياء وحيٌ، بدلالة قوله تعالى الآتي:
﴿یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ ۖ ﰎ﴾ ولم يكن هذا الأمر الإلهي مقصودًا بذاته، وإنَّما لتقديم نموذجٍ للتضحية وإخلاص الطاعة لله، والاستسلام لأمره ـ؛ ولذلك بعد استسلامهما لهذا الأمر
﴿فَلَمَّاۤ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِینِ﴾، جاء نداء الله الكريم الرحيم:
﴿وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ أَن یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ ﴿١٠٤﴾ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤۚ إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُاْ ٱلۡمُبِینُ﴾ ابتلاءٌ كبيرٌ للأبِ في تغليب حبِّ الله على حُبِّه لولده، وابتِلاءٌ كبيرٌ للابن في تقديم نفسه قُربانًا لله وتنفيذًا لأمره.
﴿وَفَدَیۡنَـٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِیمࣲ﴾ لم يُبيِّن القرآن صفةَ هذا الفِداء، ولا يبعُد أنَّ الله أمَرَ إبراهيم
عليه السلام بأن يذبح كبشًا أو نحوه، ووصف الكبش بالعظيم ليس لذاته، وإنَّما لأنَّه كان فداء نبيٍّ كريم، والله أعلم.
﴿وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ﴾ أي: ترَكنا له ذِكرًا باقِيًا في الأجيال المُتعاقِبة.
﴿وَبَشَّرۡنَـٰهُ بِإِسۡحَـٰقَ﴾ هو الولد الثاني لإبراهيم بعد إسماعيل، ومعلومٌ أنّ إسحاق من سارة ابنة عمِّ إبراهيم، وأنّ إسماعيل من هاجر عليهم السلام أجمعين.
﴿وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ﴾ أي: أنعمنا عليهما.
﴿وَنَجَّیۡنَـٰهُمَا وَقَوۡمَهُمَا مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ مِن ظُلْمِ فرعون وتعذيبه لهم بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم.
﴿وَءَاتَیۡنَـٰهُمَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلۡمُسۡتَبِینَ﴾ الذي فيه البيان والهدى والنور، والمقصود به التوراة.
﴿وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِمَا فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ﴾ أي: تركنا لهما ذكرًا باقيًا في الأجيال المُتعاقِبَة.
﴿وَإِنَّ إِلۡیَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ لم يَرِد في القرآن تفصيلٌ لقصته ولطبيعة قومه، والأَوْلَى الوقوف عند حدِّ النص، والبحث في مقصود الخبر وغايته العمليَّة والتربويَّة.
﴿أَتَدۡعُونَ بَعۡلࣰا﴾ وهو اسم وثنٍ أو صنمٍ كان قوم إلياس يعبدونه من دون الله؛ ولذلك قال:
﴿وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَـٰلِقِینَ﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ﴾ أي: لمجموعون للحساب يوم القيامة.
﴿إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ هو استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنّ الذين كذَّبُوا إلياس ليس فيهم عبادٌ مُخلِصُون، وفائدةُ هذا الاستثناء: المقارنة بين حال المؤمنين وحال المُكذِّبين.
﴿سَلَـٰمٌ عَلَىٰۤ إِلۡ یَاسِینَ﴾ هو إلياس نفسه بدلالة السياق، ولعلَّه اسم ثانٍ كان يُدعى به، أو أنَّه أُتِيَ به جمعًا للدلالة عليه وعلى من اتبعه وناصَرَه.
﴿إِلَّا عَجُوزࣰا فِی ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾ هي امرأةُ لوطٍ، واستُثنِيَت من أهل لوطٍ الذين نجَّاهم الله مع لوط
عليه السلام؛ حيث كانت مُواليةً لقومها المشركين، فعمَّها العذاب، والتنصيص عليها في هذه الومضة من قصة لوطٍ؛ للدلالة على أنَّ النسب لا يُغني شيئًا مِن أمْرِ الله.
﴿وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَیۡهِم مُّصۡبِحِینَ ﴿١٣٧﴾ وَبِٱلَّیۡلِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ يعني أنّكم تمرُّون على مساكن قوم لوطٍ في ذهابكم وإيابكم، في ليلكم أو نهاركم، وكان عليكم أن تعتبروا بحالهم وما كان مِن شأنهم.
﴿إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ﴾ أي: هرب ولم يصبر على دعوة قومه، وسمَّاه إباقًا؛ لأنّه خرج من غير إذنٍ، فكلُّ عبدٍ خرج من غير إذنِ سيده يقال عنه: أَبَق، والفلك المشحون: السفينة المملوءة بالناس أو البضائع.
﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِینَ﴾ حيث أوشَكَت السفينة على الغرق، فألقَوا ما فيها مِن متاعٍ، ثم اقترعوا لإلقاء واحدٍ من الركُّاب لينجو الآخرون، فظهرت القرعة باسم يونس
عليه السلام، فكان من المُدحضين أي: الخاسرين في القرعة، وكان لله في هذا حكمةٌ عظيمةٌ؛ حيث أرجعه الله إلى قومه فآمنوا به.
﴿فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِیمࣱ﴾ أي: مُستحقٌّ للملامَة على خروجه عن غير إذنٍ مِن ربِّه.
﴿فَلَوۡلَاۤ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِینَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِی بَطۡنِهِۦۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ﴾ أي: لبَقِيَ في بطن الحوت ولم يخرج منه، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ التسبيح منجاة من الضيق، وقد كان دعاؤه
عليه السلام والذي خلَّده القرآن الكريم:
﴿لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [الأنبياء: 87]، وهو دعاءٌ جمع بين التوحيد الخالص، وتسبيحه لله تعالى بمعنى: تنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، واعترافه بتقصيره في جناب ربِّه سبحانه؛ حيث اجتهد فخرج من قومه من غير أمرٍ ولا إذنٍ مِن ربِّه.
﴿۞ فَنَبَذۡنَـٰهُ بِٱلۡعَرَاۤءِ وَهُوَ سَقِیمࣱ﴾ أي: فألقاه الحوت بتقديرنا على وجه أرضٍ جرداء وهو عليلٌ وضعيفٌ.
﴿وَأَنۢبَتۡنَا عَلَیۡهِ شَجَرَةࣰ مِّن یَقۡطِینࣲ﴾ واليَقطِين: القَرْع، وهي شجرةٌ ذات أوراقٍ كبيرةٍ سريعة التمدُّد، ولعلَّ المقصود أنّه استظَلَّ بها، أو أنّها التفَّت على جسَدِه فسَتَرَتْه، وربَّما أكل من ثمرها أيضًا، ولم يُفصِّل القرآن مُدَّة مُكثِه في بطن الحوت، ولا مُدَّة مُكثِه في العراء أو تحت ظلِّ هذه الشجرة، فالعِبرة أعلى وأسمَى من هذه التفاصيل.
﴿وَأَرۡسَلۡنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ یَزِیدُونَ﴾هم أهل المُوصِل، والآية تُشير إلى أنَّها كانت مدينة عامرة منذ ذلك التاريخ.
﴿فَـَٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾ هذه ميزةٌ لقوم يونس
عليه السلام من بين كلِّ النماذج المُتقدِّمة.