سورة الصافات تفسير مجالس النور الآية 154

مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ ﴿١٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة الصافات

المجلس المائتان: تتمَّة الحوار مع المشركين


من الآية (149- 182)


بعد هذه السلسة النورانيَّة من النماذِج والقصص النبويَّة، عادَ القرآنُ مُواصلًا ومُجدِّدًا حواره مع المشركين:
أولًا: يبدأ القرآن حواره في هذه الجولة بمسألةٍ جزئيَّةٍ، لكنها تؤشِّر بوضوحٍ إلى الخطأ المنهجي الذي يمضِي عليه المشركون في تصوُّراتهم الدينيَّة والغيبيَّة بلا حجةٍ ولا دليلٍ، ولا مسكةٍ من علم ﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ ﴿١٤٩﴾ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ إِنَـٰثࣰا وَهُمۡ شَـٰهِدُونَ ﴿١٥٠﴾ أَلَاۤ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَیَقُولُونَ ﴿١٥١﴾ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ ﴿١٥٢﴾ أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِینَ ﴿١٥٣﴾ مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ ﴿١٥٤﴾ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿١٥٥﴾ أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَـٰنࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٥٦﴾ فَأۡتُواْ بِكِتَـٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾.
ثم يُصحِّحُ القرآن هذا المفهوم الخاطئ وعلى لسان الملائكة أنفسهم: ﴿وَمَا مِنَّاۤ إِلَّا لَهُۥ مَقَامࣱ مَّعۡلُومࣱ ﴿١٦٤﴾ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّاۤفُّونَ ﴿١٦٥﴾ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ﴾ فالملائكة إنَّما يتقرَّبون إلى الله بطاعته وعبادته، وتسبيحه تعالى وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به.
ثانيًا: وعلى صلةٍ بهذه المسألة، يُعرِّجُ القرآن على مسألةٍ أخرى ليؤكِّد لهم أنّهم ماضون على الطريق الخطأ، وبالمنهج الخطأ ﴿وَجَعَلُواْ بَیۡنَهُۥ وَبَیۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبࣰاۚ وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ ﴿١٥٨﴾ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ﴾.
ثالثًا: ثم يؤكِّدُ القرآن أنَّ هذا النهج القاصر والخاطئ لا يصحُّ أن يكون سببًا بنفسه لغواية الناس وإضلالهم؛ لافتِقاره إلى الدليل والمنطق المُقنِع، أمّا الذين يُفتنون به فإنّما فتنتهم أهواؤهم وشهواتهم، وأولئك أصحاب الجحيم ﴿فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ ﴿١٦١﴾ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ بِفَـٰتِنِینَ ﴿١٦٢﴾ إِلَّا مَنۡ هُوَ صَالِ ٱلۡجَحِیمِ﴾.
رابعًا: ثم يُذكِّرُ القرآن المشركين بما كانوا يتمنَّونه من نزول الكتاب عليهم، كما هو شأن أهل الكتاب من يهود ونصارى ﴿وَإِن كَانُواْ لَیَقُولُونَ ﴿١٦٧﴾ لَوۡ أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرࣰا مِّنَ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٦٨﴾ لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ ﴿١٦٩﴾ فَكَفَرُواْ بِهِۦۖ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾ وهذا التذكير يُقصد به: بيان أنّهم إنَّما يُعادُون القرآن بعد أن أنزَلَه الله عليهم؛ لحسدٍ في أنفسهم، ومرضٍ في قلوبهم، وليس من أجل الْتِباسٍ في الرؤية، أو خطأٍ في النظرة والفكرة.
خامسًا: يُؤكِّد القرآن أنّ عاقبة الصراع ستؤُول حَتمًا لصالح المؤمنين، وقد حصل هذا بالفعل بعد الهجرة النبويَّة المباركة، ثم فتح مكة، ثم دخول الناس أفواجًا في دين الله ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٧١﴾ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ ﴿١٧٢﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ ﴿١٧٣﴾ فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ ﴿١٧٤﴾ وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ ﴿١٧٥﴾ أَفَبِعَذَابِنَا یَسۡتَعۡجِلُونَ ﴿١٧٦﴾ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَاۤءَ صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾.
سادسًا: يُوصِي الله  في خِتام هذه السورة نبيَّه الكريم والمؤمنين من بعده بالإعراض عن هؤلاء المُعانِدين المُخاصِمين، وهو الإعراض عن استِفزازاتهم ومكائدهم، وليس الإعراض عن دعوتهم والمحاورة معهم ﴿وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ ﴿١٧٨﴾ وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ ﴿١٧٩﴾ سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ ﴿١٨٠﴾ وَسَلَـٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٨١﴾ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
فسلامٌ عليك سيدي رسول الله وعلى آل بيتك وصحابتك، ومن سارَ على نهجك وحمل دعوتك إلى يوم الدين، وسلامٌ على إخوانك المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ﴾ سَلْهُمْ.
﴿أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ﴾ هذا سؤالٌ مركبٌ، كأنّه يقول لهم: إن كنتم تُفضِّلون البنين على البنات، فكيف تخصُّون الله بالبنات بادِّعائكم أنَّ الملائكة بنات الله، وتخصُّون أنفسكم بالبنين؟ وهو سؤالٌ استنكاريٌّ يقصد منه دحض تصورات الجاهلية عن الله، وعن الملائكة، وعن البنين والبنات، وميزان التفاضل في الخلق.
﴿أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ إِنَـٰثࣰا وَهُمۡ شَـٰهِدُونَ﴾ سؤالٌ يُقصد به التوبيخ، وبيان جهلهم، وافتقار مُعتقداتهم إلى الدليل.
﴿أَلَاۤ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَیَقُولُونَ ﴿١٥١﴾ وَلَدَ ٱللَّهُ﴾ أي: ينسبُون لله الولد بادِّعائهم أنّ الملائكة بناتُ الله، فهذا إفكٌ وكذبٌ اخترَعوه من أنفسهم ﴿وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾.
﴿أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِینَ﴾ توبيخٌ آخر لبيان جهلهم وغفلتهم وجرأتهم على الله، وتسفيهٌ لزعمهم أنَّ الملائكة بنات الله، وبيانٌ لتخبُّطهم وقولهم في الغيب بلا عِلمٍ ولا دليلٍ، ونظرتهم الدونيَّة عن الأنثى، ثم نسبة هذا الدون إلى الله! وكأنّهم بهذا يرَون حالَهم أفضل من حال خالقهم؛ إذ هُم لهم الأولاد البنون والبنات، بينما ينسبون له سبحانه البنات خاصَّة!
﴿أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَـٰنࣱ مُّبِینࣱ﴾ حُجَّة واضحة على دعواكم.
﴿فَأۡتُواْ بِكِتَـٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ بمعنى أنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله لا يحتمل الاجتهاد والنظر العقلي؛ إذ هو إخبارٌ عن الغيب، وهذا الإخبار بحاجةٍ إلى الوحي والكتاب المُنزَّل من السماء، فإذ لم يأتوا بالكتاب فإنّهم الكاذبون.
﴿وَجَعَلُواْ بَیۡنَهُۥ وَبَیۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبࣰاۚ﴾ هذا تخبُّطٌ آخر من تخبُّطات الجاهلية؛ حيث جعل المشركون بين الله - تعالى عن قولهم - وبين الجنِّ قرابة ومصاهرة، وربما أخَذُوا هذا من بعض العقائد المجوسيَّة التي كانت قريبًا منهم في ناحية العراق وفارس؛ حيث قامت هذه العقائد على وجود إلهٍ للخير وإلهٍ للشر، وهناك غبَشٌ وارتباكٌ في تصوُّر العلاقة بين الإلهَين!
﴿وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ﴾ أي: مجمُوعون للحساب؛ لأنَّهم مُكلَّفُون بالشرائع، ومُمتَحَنون بالعبادة مثل البشر ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
﴿سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ﴾ أي: تنزَّه الله وتقدَّس عن هذه الصفات التي يدَّعُونها لله إفكًا وبُهتانًا.
﴿إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ استثناءٌ منقطعٌ، وفائدته هنا: المُقارنة؛ بمعنى أنَّ أولئك الكاذبين المكذِّبين يصِفُون الله بما لا ينبغي، أمّا عباد الله المُخلَصُون فيصِفُونه بصفاته اللائقة به والثابتة له عن طريق الوحي.
﴿فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ ﴿١٦١﴾ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ بِفَـٰتِنِینَ﴾ أي: أنتم وأصنامكم لا تقدرون أن تردُّوا أحدًا عن دينه، ثم استثنى من هو على شاكلتهم فقال: ﴿إِلَّا مَنۡ هُوَ صَالِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ بمعنى أنّهم لا يقدِرون على غواية أحدٍ إلّا مَن كان مُستعِدًّا للغواية، لاهثًا وراءها.
﴿وَمَا مِنَّاۤ إِلَّا لَهُۥ مَقَامࣱ مَّعۡلُومࣱ﴾ الْتِفاتة في الخطاب تحكي موقف الملائكة مما نسبه المشركون إليهم، فهم عبادُ لله وقَّافون عند أمره ونهيه، وكلٌّ منهم له مقامٌ لا يتعدَّاه، وكلُّ مقاماتهم داخِلة في مقام العبوديَّة، فليس المُتقدِّم أو المتأخِّر منهم إلا عبدًا لله.
﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّاۤفُّونَ﴾ تأكيدٌ لما ورَدَ في صدر السورة: ﴿وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفࣰّا﴾ بمعنى أنّهم يقِفُون صفوفًا بانتظام كما يأمرهم خالقهم، وفي هذا تعبيرٌ عن الأُهْبة والاستعداد الكامل مع الانتظام المُتقَن الدقيق.
﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ﴾ الذين يسبِّحُون الله كثيرًا، ويُنزِّهونه عن كلِّ ما لا يليق به.
﴿وَإِن كَانُواْ لَیَقُولُونَ ﴿١٦٧﴾ لَوۡ أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرࣰا مِّنَ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٦٨﴾ لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ هذه الْتِفاتة أخرى، وتحوُّلٌ في الخِطاب إلى المشركين الذين كانوا يتمنَّون أن ينزِلَ عليهم كتابٌ كما أُنزل على جيرانهم من اليهود والنصارى، وكانوا يُمنُّون أنفسهم أن لو كانوا أهل كتابٍ، لكانوا مُخلِصين لإيمانهم، عامِلين بشريعتهم، فلمّا جاءهم الكتاب كفروا به ﴿فَكَفَرُواْ بِهِۦۖ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾ وما ذاك إلا لكبرهم وحسدهم.
﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٧١﴾ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ ﴿١٧٢﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ هذا جانِبٌ من تفسير الوعيد السابق: ﴿فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾ بمعنى أنّ المشركين سيعلَمُون ما يحلُّ بهم على يد الرسول وصحابته الأبرار الذين هم جُندُ الله، وقد جاء الوعيد مسوقًا مساقَ السنَّة الثابتة، فرُسُلُ الله لا تُخذَل، وجُندُ الله لا تُغلَب، وقد تحقَّقَ هذا الوعيد بفتح مكة وما حولها ودخول الناس في دين الله أفواجًا.
﴿فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ﴾ أي: أَعْرِض عنهم، ولا تُبالِ بما يقولون.
﴿وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ﴾ تأكيدٌ لوعيده تعالى المُتحقق بالمشركين، وأبصِرهم أي: انظر وارتقب مصيرهم، فسوف يبصرون أي: فسوف يرَون بأعينهم ما توعَّدناهم به.
﴿أَفَبِعَذَابِنَا یَسۡتَعۡجِلُونَ ﴿١٧٦﴾ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَاۤءَ صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِینَ ﴿١٧٧﴾ وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ ﴿١٧٨﴾ وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ﴾ تأكيدٌ مُتكرِّرٌ لوعيد الله لهم وما سوف يَحِيقُ بهم.
﴿سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ﴾ أي: تنزَّهَ الله عن كلِّ صفة نَقصٍ، وهو سبحانه العزيزُ ذو القوَّة والقُدرة والمَنَعَة، فليس بحاجةٍ إلى شريكٍ، ولا إلى ولدٍ.