سورة الزمر تفسير مجالس النور الآية 1

تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الزمر

المجلس الرابع بعد المائتين: الدين الخالص


الآية (1- 29)


إخلاصُ الدين لله هو موضوع هذه السورة بشكلٍ عام، وقد تناولته هذه السورة من جوانب مختلفة، غير أنَّه في هذا المقطع جاء بطريقةٍ مباشرةٍ وصريحةٍ، وبألفاظٍ مُتقارِبةٍ: ﴿فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصࣰا لَّهُ ٱلدِّینَ﴾، و﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ﴾، و﴿قُلۡ إِنِّیۤ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصࣰا لَّهُ ٱلدِّینَ﴾، و﴿قُلِ ٱللَّهَ أَعۡبُدُ مُخۡلِصࣰا لَّهُۥ دِینِی﴾.
وهذا الأصلُ العظيمُ لا يتحقَّق إلا بمنظومةٍ إيمانيَّةٍ معرفيَّةٍ تربويَّةٍ يُمكن استِخلاصها من هذه الآيات، وكما يأتي:
أولًا: تأكيد مصدريَّة الدين الحقِّ ﴿تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ ﴿١﴾ إِنَّـاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصࣰا لَّهُ ٱلدِّینَ﴾ فالقرآن هو مصدر هذا الدين، وهو الذي يحمل دلائل صدقه في داخله، في بيانه وإعجازه، وقوة حجَّته، ودقَّة أحكامه وتشريعاته ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ﴾، ﴿وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلࣲ لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾ قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا غَیۡرَ ذِی عِوَجࣲ لَّعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ﴾.
وكلُّ دينٍ لا يستَنِدُ إلى مصدرٍ موثوقٍ فهو دينٌ مغشُوشٌ، تختلط فيه الأوهام بالحقائق، والعبادات بالمبتدعات، والأخلاق بالأمزجة والانفعالات، كما هو محسوسٌ اليوم ومُشاهَدٌ في أنواع التديُّن المغشُوش والمُحرَّف.
ثانيًا: التنبيهُ إلى مداخل الشرك والذي هو مناقضٌ للدين الخالص ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ فِی مَا هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ كَفَّارࣱ﴾.
ففتنة المشركين لم تكن في إنكار الخالق، وإنَّما باتخاذهم الوسطاء والشفعاء من غير علمٍ ولا إذنٍ من الله، ثم عبدوا هؤلاء الوسطاء والشفعاء، ومنَحوهم بعضًا من صفات الربوبيَّة والألوهيَّة، ومنهم من شطَّ بعيدًا فنسب وسطاءَه أبناء لله؛ كقول المشركين في الملائكة، وقول النصارى في عيسى عليه السلام؛ ولذلك ردَّ الله عليهم فِريَتَهم هذه: ﴿لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن یَتَّخِذَ وَلَدࣰا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ ۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾.
ثالثًا: التنبيهُ إلى دلائل التوحيد الخالص وآياته تعالى المبثُوثة في هذا الكَون ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ ۖ یُكَوِّرُ ٱلَّیۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَیُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّیۡلِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ ۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ ﴿٥﴾ خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰ⁠حِدَةࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۚ یَخۡلُقُكُمۡ فِی بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ خَلۡقࣰا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقࣲ فِی ظُلُمَـٰتࣲ ثَلَـٰثࣲۚ ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ﴾، ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَلَكَهُۥ یَنَـٰبِیعَ فِی ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ یُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعࣰا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَ ٰ⁠نُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَجۡعَلُهُۥ حُطَـٰمًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾.
رابعًا: التنبيهُ إلى فطرة الإنسان المكنونة في داخِلِه، والتي تشهَدُ بالتوحيد الخالص كلّما انقشَعَت غشاوة الظلمة، وانخلَعَت قشرة الغفلة ﴿۞ وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ ضُرࣱّ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِیبًا إِلَیۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةࣰ مِّنۡهُ نَسِیَ مَا كَانَ یَدۡعُوۤاْ إِلَیۡهِ مِن قَبۡلُ﴾.
ومن هنا كان التحذيرُ من قساوَة القلب وكثافة الحُجُب التي يصنعها الإنسانُ لنفسه فيُغطِّي بها فِطرَتَه ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورࣲ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَیۡلࣱ لِّلۡقَـٰسِیَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ﴾.
خامسًا: التذكير بأهمية العلم وفتح منافذ المعرفة لسماع الكلمة الطيبة، والموعظة النافعة، فإنّما الجاهل من أخَذَه الغرورُ حتى أغلق عليه سمعَه وبصرَه ﴿أَمَّنۡ هُوَ قَـٰنِتٌ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ سَاجِدࣰا وَقَاۤىِٕمࣰا یَحۡذَرُ ٱلۡأَخِرَةَ وَیَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾، ﴿ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾.
سادسًا: تقريب الصورة لهم بضرب المثل المحسوس والمناسب لإدراكهم، ولمجرى حياتهم ومعيشتهم ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلࣰا فِیهِ شُرَكَاۤءُ مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلࣰا سَلَمࣰا لِّرَجُلٍ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.
سابعًا: تأكيد أنّ الله غنيٌّ عن العالمين، فهو لا ينفعُه دينٌ خالصٌ، ولا يضرُّه دينٌ مغشُوشٌ، وإنما القضيَّةُ قضيتُنا، والحاجةُ حاجَتُنا ﴿إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا یَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ یَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾.
ثامنًا: التذكيرُ بالعاقِبة التي تنتظر الجميع، وكلٌّ بحسب ما عمل وما قدَّم، فأمّا الذين أخلَصُوا دينَهم لله من غير شركٍ ولا غشٍّ ﴿قُلۡ یَـٰعِبَادِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰ⁠سِعَةٌۗ إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَابࣲ﴾، ﴿لَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفࣱ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفࣱ مَّبۡنِیَّةࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِیعَادَ﴾.
وأمّا الذين أشرَكُوا مع الله آلهةً أخرى، وغشُّوا أنفسَهم بالتديُّن الباطل، وبالتعبُّد المغشُوش ﴿فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَـٰسِرِینَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِیهِمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ أَلَا ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِینُ ﴿١٥﴾ لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلࣱ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلࣱۚ ذَ ٰ⁠لِكَ یُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ یَـٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ﴾، ﴿أَفَمَن یَتَّقِی بِوَجۡهِهِۦ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ وَقِیلَ لِلظَّـٰلِمِینَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ ﴿٢٤﴾ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَشۡعُرُونَ ﴿٢٥﴾ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلۡخِزۡیَ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأَخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ یَعۡلَمُونَ﴾.


﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ﴾ إعلانٌ لوحدانيَّة الله ـ في الأمر والنهي، والعبادة والطاعة بحكم وحدانيَّته تعالى في الخلق والملك.
﴿وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ﴾ هم المشركون الذين اتخذوا أوثانَهم آلهةً مع الله بغير علمٍ ولا إذنٍ.
﴿مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ﴾ مقولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديره: يقولون، والزُّلفَى: المنزِلة القريبة.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ﴾ أي: بين المُؤمنين والمُشركين.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، فالكاذب الذي لا يَصدُق مع نفسه ولا مع ربِّه لن يهتدي إلى الحقِّ، ولو كان صادقًا لاهتدى.
﴿لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن یَتَّخِذَ وَلَدࣰا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ﴾ هذه الآية جاءت في مقام المُحاجَجة، بمعنى أنّ الله لو أرادَ أن يتَّخِذ ولدًا، لاختارَ هو مِن خلقِه ما يشاء لا ما تنسِبُونه أنتم له، وإنّما أراد بهذه المُحاججة مطالبتهم بالدليل على صحة ما نسَبوه إليه سبحانه، فإذ لم يأتوا بالدليل فإنّهم هم الكاذبون.
﴿سُبۡحَـٰنَهُۥ ۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾ تأكيدُ لوحدانيَّته تعالى، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولد وإلى غير الولد.
﴿یُكَوِّرُ ٱلَّیۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَیُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّیۡلِ ۖ﴾ التكوير من الكُرة، وهي الشكل الدائري، ومعناه: لفّ الشيء، كما تقول: كوّرت العمامة على رأسي، ومنه كور الغزل، وهو تشبيهٌ دقيقٌ لالتفاف الليل والنهار على الأرض، وهذا الالتفاف لا يكون إلَّا إذا كانت الأرض على شكل الكرة.
ولا شكّ أنّ هذا مما لم يكن معروفًا عند الناس، فهو من دلائل الصدق الجليَّة؛ حيث لا يختلف اثنان اليوم من أهل الاختصاص على كُرويَّة الأرض، وأنّ الليل والنهار يلفَّانها دائمًا بحركةٍ دائريَّةٍ التفافيَّةٍ لا تتوقَّف.
﴿وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ ۖ﴾ ذلَّلَهما في هذا النظام الكوني البديع لغايةٍ تتناسب مع حياة الناس على هذه الأرض.
﴿كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمًّى ۗ﴾ أي: كلّ هذه الأفلاك تسيرُ في حركةٍ دائمةٍ، وكلٌّ في مداره الذي لا يختلط بمدار الآخر، حتى يأذَنَ الله بانتِهاء الحياة، وذلك هو الأجلُ المُسمَّى.
﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰ⁠حِدَةࣲ﴾ هي نفسُ أبِينا آدم عليه السلام، فكلُّنا لآدم، وآدم من تراب.
﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ أي: خَلَقَ أُمَّنا حوَّاء من جسد آدم، وقد وردَ في الحديث أنّها خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ، وبهذا يكون جميع البشر الذكور والإناث ومن طرفَي الأب والأم يرجِعون إلى أصلٍ واحدٍ، ونفسٍ واحدةٍ، وهذا أساسٌ لمبدأ المساواة في الإسلام، بخلاف الفلسفات والنظريات الأخرى التي تُؤسّس للتمييز العنصري ثقافةً وسياسةً.
﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۚ﴾ هي المذكورة في سورة الأنعام: ﴿ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَیۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۖ نَبِّـُٔونِی بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿١٤٣﴾ وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَیۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۖ﴾ [الأنعام: 143، 144] والقرآن يُفسِّرُ بعضُه بعضًا.
﴿خَلۡقࣰا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقࣲ﴾ مفسّرة بآية الحج: ﴿مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةࣲ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةࣲ مُّخَلَّقَةࣲ وَغَیۡرِ مُخَلَّقَةࣲ لِّنُبَیِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِی ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَاۤءُ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلࣰا﴾ [الحج: 5].
﴿فِی ظُلُمَـٰتࣲ ثَلَـٰثࣲۚ﴾ ظُلمة المشِيمَة، وتُحيطُ بها ظُلمةُ الرَّحِم، وتُحيطُ بالرَّحِم ظُلمةُ البَطن، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأصدق القائِلِين.
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ﴾ أي: لا تَحمِلُ حامِلةٌ حِمْلَ غيرها، والمقصود لا تَحمِلُ نفسٌ إثمَ غيرها.
﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةࣰ مِّنۡهُ﴾ تأكيدٌ لمعنى الاستخلاف، فالنعمة التي بيد الإنسان ليست ملكه على الحقيقة، وإنّما هي على سبيل الاستخلاف والتخويل والاختبار.
﴿نَسِیَ مَا كَانَ یَدۡعُوۤاْ إِلَیۡهِ مِن قَبۡلُ﴾ أي: نسِيَ الضُّرَّ الذي أصابَه وكان يدعو الله تعالى لكَشفِه.
﴿قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِیلًا﴾ أي: تمتَّع بما بقِيَ من عُمرك وأنت مُلازِمٌ للكفر، والسياقُ للتهديد كما هو واضِحٌ.
﴿أَمَّنۡ هُوَ قَـٰنِتٌ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ﴾ السياق للمُقارنة، بمعنى: أذاك الكافر المُعاند خيرٌ أمَّن هو قانتٌ لله يدعوه في ساعات الليل؟ وذِكْرُ الليل يُوحي بإخلاص العبادة والبُعد عن شائِبة الرياء.
﴿قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ﴾ تأكيدٌ لمعنى المقارنة، وفيه تفضيلُ العلماء على غيرهم، وأنَّ العلمَ طريقٌ للهداية، وأنَّ العلماء أَولَى بالقنوت لله والخشوع بين يديه، ثم أكّد كلّ هذه المعاني بقوله: ﴿إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ أي: أصحاب العقول.
﴿لِلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۗ﴾ أي: جزاء الحسنة الحسنة، والجزاء بالحسنة مُطلقٌ يشمل الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا: السكينة وطمأنينة القلب، وأخُوَّة الدين، والتمكين في الأرض بشروطه المعلومة، وفي الآخرة: الجنَّة، والسعادة الأبديَّة.
﴿وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰ⁠سِعَةٌۗ﴾ تلميحٌ للمؤمنين في مكّة بالهِجرة، وذكر الصبر بعدها إشارة لِما يُلاقونه من أذًى على يد المشركين، ولِما سيتحمَّلونه في الهجرة من غُربةٍ وبُعدٍ عن الأوطان.
﴿إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَابࣲ﴾ بيانٌ لمنزلة الصبر وعظيم جزائه عند الله، والسياق جاء في الصبر على الدعوة وتحمُّل أعبائِها، وفضلُ الله أوسع وأعظم.
﴿وَأُمِرۡتُ لِأَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾ فرسولُ الله هو الأولُ على طريق هذه الدعوة، من حيث السَّبق، ومن حيث الفضل، ومن حيث كونه الأسوة الحسنة، والمَثَل الأعلى لكلِّ مسلم.
﴿قُلۡ إِنِّیۤ أَخَافُ إِنۡ عَصَیۡتُ رَبِّی عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ﴾ وحاشا لرسول الله أن يعصِي ربَّه، وإنّما المقصود: تيئيس المشركين من أي مطمعٍ باستمالته ، وفيه تحذيرٌ للمؤمنين عن الفتنة ونكث العهد ولو في أمرٍ من أمور الدنيا.
﴿فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ﴾ تهديدٌ للمشركين، وتأكيدٌ لتحمّل الإنسان مسؤوليَّة خياره.
﴿لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلࣱ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلࣱۚ﴾ بمعنى أنّ النار تُحيطُ بهم من كلِّ جانبٍ، وأصلُ الظُّلَل: السُّحُب.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ یُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ﴾ أي: ذكر هذا العذاب إنّما هو لغاية حمل الناس على الطريق الصحيح الذي فيه خيرُهم دنيا وأخرى؛ ولذلك قال بعدها: ﴿یَـٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ﴾ أي: إنّ هذا التخويف يُورِثُ التقوى ويدفعُ باتِّجاهها.
﴿وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ﴾ الطاغوت من الطغيان، وأصلُه: مجاوزة الحدِّ، والمقصود به هنا: كلّ معبودٍ من دون الله.
﴿ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ﴾ منهجيَّةٌ قرآنيَّةٌ نفيسَةٌ في التعامُل مع المعلومات والأخبار وكلّ ما يتصل به الإنسان من معارف، وهذه المنهجيَّة تُنمِّي حِسَّ النقد والتحقيق والتمييز، وتُحرِّرُ العقولَ من أغلال التقليد، وطرائق التضليل؛ ولذلك وصَفَ الله هؤلاء بالعقل والهداية: ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾.
﴿لَهُمۡ غُرَفࣱ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفࣱ مَّبۡنِیَّةࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ﴾ وَصْفٌ لغُرُفات الجنَّة التي أعدَّها الله للمتقين، والوصف يُوحي بالأُنْس والجمال والحركة اللطيفة، وهذا الإيحاء يكفِي؛ إذ لا مجال في العقل لإدراك كُنْه تلك الغُرفات، أو تشكيل صورة مناسبة لها.
﴿فَوَیۡلࣱ لِّلۡقَـٰسِیَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ أي: الذين تقسُو قلوبهم عند سماعهم القرآن؛ وذلك لفَرط تكبُّرهم وحسدهم وكراهيتهم للحقِّ الذي جاء به.
﴿كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ﴾ هو القرآن الكريم، يُشبِهُ بعضُه بعضًا في تناسُقه وتكامُله وإعجازه وبيانه، ولتشابُه آياته وتناسُقها تجِد المعاني فيها تُثنَّى وتُكرَّر.
﴿تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ﴾ وهي حالٌ من أحوال المؤمن الذي يقرأ القرآن أو يُصغِي له؛ حيث يشعر بجلال الله وبهَيبة القرآن، ووَقعه القويِّ في نفسه ووجدانه حتى يقشعرَّ جلده خوفًا من الله، وتعظيمًا لكلامه.
﴿ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ هذه حالٌ أخرى؛ حيث يتحوَّل القلب المستمر على تدبُّر القرآن من حال الرهبة إلى حال الأُنس، ومن حال الخوف إلى حال الرجاء.
﴿أَفَمَن یَتَّقِی بِوَجۡهِهِۦ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ﴾ أي: يُواجِهُه مواجهة فلا يستطيع أن يدفعه عن نفسه إلا بوجهه، وهذا غاية العجز؛ إذ العادة أنّ الإنسان يحمي وجهه بيديه أو بما تيسَّر عنده، لكن ذلك الشقي غُلَّت يداه، فلم يبق عنده ما يدفع به عن وجهه.
﴿ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، فإنمّا يحصد الحاصد ما زرع، ويأكل الجاني مما كسب.
﴿قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا غَیۡرَ ذِی عِوَجࣲ﴾ القرآن كلام الله نزل بلغة العرب، وهم حملته إلى العالمين، ولأنّه كلام الله، فهو الحقُّ المُطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الطريق السويُّ الذي لا عِوج فيه، ولا غموض، ولا اضطراب.
﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلࣰا فِیهِ شُرَكَاۤءُ مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلࣰا سَلَمࣰا لِّرَجُلٍ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ﴾ هذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لتوضيح الفارق بين المُوحِّد والمُشرك؛ فالمشرك يعبد آلهةً مُتعددة لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط، فهناك إلهٌ للخير، وهنالك إلهٌ للشرِّ، وهنالك إلهٌ للحرب، وهنالك إلهٌ للجمال، وهناك أربابٌ بعضها فوق بعض، وبعضها أكبر من بعض، وهناك أوهامٌ متضاربة، وتصوراتٌ متناقضة عن الملائكة والجنِّ والنجوم والكواكب، والمُشرِكُ غارقٌ في هذه الفوضى لا يدري من أين يأتيه الخير، ولا من أين يأتيه الشر.
بينما المؤمن المُوحِّد لا يعبدُ إلا إلهًا واحدًا، مُعتقدًا على سبيل اليقين الجازم أنّ الله سبحانه هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وهو الذي خلق هذا الكون كلّه بلا مُعاوِنٍ أو مُعاضِدٍ، وهنالك طريقةٌ واحدةٌ للتقرُّب من الله وعبادته.
فكان مَثَلُ المشركِ مثل الذي يخدم أسيادًا عدة يُرضِي هذا فيغضب هذا، بل لا يدري أصلًا ماذا يُريد هذا، وماذا يُريد ذاك! أمّا المؤمن فمَثلُه مثل الذي لا يخدم إلا سيِّدًا واحدًا، وهو عارفٌ به وبأمره ونَهيِه، وسبيل مرضاتِه.