المجلس السادس بعد المائتين: أصحاب الجنة وأصحاب النار
الآية (67- 75)
بعد تمييز الحقِّ عن الباطل وبيان العلامات الفارقة بينهما، شَرَعَ القرآن في بيان عاقبة الفريقين:
أولًا: يُنبِّهُ القرآن الكريم هذه العقول إلى عظمة الخالق، وأنّه الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، فلا يُعجِزه سبحانه شيءٌ، ولا يَغِيبُ عن علمه شيءٌ، ولا يشغَلُه شيءٌ عن شيءٍ، وكما كان بيده أصلُ النشأة والبداية، فبيده أيضًا الخاتمة والنهاية ﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾.
ثانيًا: يؤكِّدُ القرآن أنّ هذه الحياة بكلِّ من فيها وما فيها ستنتهي في ساعة واحدة، ثُم إذا أذِنَ الله تعالى تعود كرَّة ثانية ﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَاۤءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِیَامࣱ یَنظُرُونَ﴾.
ثالثًا: آنذاك يوضع الميزان الحقّ؛ ليأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه، ويحصد كلّ زارعٍ ما زرع، وكلّ عاملٍ ما عمل، في محكمة العدل الإلهيَّة؛ حيث يقضي الله سبحانه، ويشهد النبيُّون ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ وَجِاْیۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ ﴿٦٩﴾ وَوُفِّیَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا یَفۡعَلُونَ﴾.
رابعًا: يرسم القرآن صورةً قاتمةً مُظلمةً لأولئك المجرمين المُفسدين وهم يواجهون مصيرهم المحتوم ﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَ ٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَاۤ أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ یَتۡلُونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِ رَبِّكُمۡ وَیُنذِرُونَكُمۡ لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَاۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴿٧١﴾ قِیلَ ٱدۡخُلُوۤاْ أَبْوَٰبَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾.
خامسًا: ثم يرسم القرآن في مقابل تلك الصورة صورة أخرى، صورة المؤمنين وهم يدخلون الجنّة زُمرًا زُمرًا ﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَـٰلِدِینَ ﴿٧٣﴾ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَیۡثُ نَشَاۤءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ﴾.
سادسًا: ثم يختم القرآن بالصورة الثالثة، وهي صورة الملائكة الحافِّين بعرش الرحمن والمُسبِّحين بحمده؛ ليزداد أهلُ الإيمان أنُسًا وحبورًا، ويزداد أهلُ الباطل حسرةً وثبورًا ﴿وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾.
﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ﴾ أي: ما عرفوه حقّ معرفته، ولا عظَّموه حقّ تعظيمه؛ وذلك لفرط جهلهم وغفلتهم واستِكبارهم. ﴿وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ﴾ فلا مُلك إلا مُلكه، ولا سُلطان إلا سُلطانه، أما حقيقةُ ما سيَجرِي في ذلك وما أضافَه الله تعالى لنفسه، فعلَينا الإيمان به جملةً كما أخبر سبحانه، مع اعترافنا بعجزنا عن الإحاطة بحقيقته وكُنهه، فليس لعقولنا تصوُّر الغيب على صورته، ولا سبيل لها إلى ذلك، وليس مطلوبًا منها ذلك؛ إذ الأخبار الغيبيَّة لها غاياتها العمليَّة في حياة الإنسان وسلوكه وما هو مُكلَّف به، فإذا تحقَّق ذلك فهذا كافٍ له حتى يلقَى الله عليه. ﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ وهذه هي النفخةُ الأولى التي تُعلِن انتهاء الحياة الدنيا بكلِّ مَن فيها وما فيها. ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِیَامࣱ یَنظُرُونَ﴾ هذه هي النفخةُ الثانيةُ؛ حيث تعود الأرواح لأجسادها لتبدأ الحياة الثانية، وهي الحياةُ المُستقِرَّةُ الخالدةُ. ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ هي أرض المحشر بدلالة السياق، ونور ربِّها يحتمل المعنى المادّي، أي: تشرق الأرض هناك بنورٍ يجعله الله فيها فلا تخفى خافية حتى تنكشف الخلائق لبعضها دون حاجزٍ أو ظلمةٍ، ويحتمل أنَّه نور الحقِّ والعدل؛ حيث زالَت شُبهات المشركين وسطوة الطغاة المفسدين، ولا مانع من إرادة المعنَيَين، والله أعلم. ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ﴾ وهو اسمُ جِنسٍ للكتاب الذي يلقاه كلّ مُكلّفٍ هناك، فلكلِّ مُكلَّفٍ كتابه. ﴿وَجِاْیۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ﴾ تصويرٌ للمشهد العظيم، ولجدِّيَّة الأمر في الحساب والجزاء، وعَطْفُ الشهداء على النبيِّين عطفٌ للعام على الخاص، فالأنبياء يشهدون، ثم يشهدُ كلُّ صالحٍ للشهادة، وهذه الأُمَّة تشهدُ على من سَبَقَها، وتشهدُ للأنبياء السابقين بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة. ﴿وَوُفِّیَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ﴾ تأكيدٌ متكررٌ لعقيدة العدل الإلهي، فلكلِّ عاملٍ ما عمل. ﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ﴾ جماعات مكتظة ومحشورة في طريقها إلى جهنم. ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَ ٰبُهَا﴾ وفي هذا التعبير من الهول والصدمة المريعة ما فيه. ﴿وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَاۤ﴾ وهم زبانية جهنَّم وحُرَّاسها. ﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ﴾ أي: جماعات مُتعدِّدة، يأنَسُ المؤمن بهم، وهؤلاء هم وُفودُ الرحمن، وأهلُ الخير والجِنَان. ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبْوَٰبُهَا﴾ أضاف الواو هنا للتنبيه أنّها كانت مُفتحة لهم قبل وصولهم إكرامًا لهم، كما يفعل صاحب الدار الكريم مع ضيوفه، وهؤلاء هم ضيوف الله وأحبابه ، جعلنا الله منهم. ﴿وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ﴾ أي: أرض الجنَّة. ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَیۡثُ نَشَاۤءُۖ﴾ أي: ننزِل فيها حيث نشاء ونختار. ﴿فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ﴾ تأكيدٌ آخر لعقيدة العدل الإلهي، فهؤلاء المُكرَمُون إنما استحقُّوا هذه المنازِل بأعمالهم، لا بأنسابِهم ولا بأموالِهم. ﴿وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ﴾ أي: مُحِيطين به من كلِّ جانبٍ. ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ الباء للمُصاحَبة، بمعنى أنَّهم يُسبِّحُون الله مُستصحِبِين حمدَه. والحمد لله رب العالمين دائمًا وأبدًا، وفي كلِّ حين.