سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 1

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰ⁠حِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس الرابع والثلاثون: وحدة الأصل البشري


من الآية (1- 10)


تستهل سورة النساء ببيان وحدة الأصل البشري ﴿ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰ⁠حِدَةࣲ﴾ وهذه النفس هي نفس آدم عليه السلام، ثم أجابت السورة عن سؤالٍ قد يرد بهذا الصدد بشأن حوّاء: ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ فهي مخلوقة من جَسَدِ آدم.
وقد ورد في الحديث أنها «خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ»، وبهذا يكون جميع البشر الذكور والإناث ومن طرفي الأب والأمِّ يرجعون إلى أصلٍ واحد، ونفسٍ واحدةٍ، وهذا مبدأ المساواة في الإسلام، بخلاف الفلسفات والنظريَّات الأخرى التي تُؤسِّس للتمييز العنصري ثقافةً وسياسةً.
ومن أسس المساواة في الإسلام: أن جعل دائرة الولاء مفتوحة لكل داخل، بخلاف الولاءات القوميَّة والقبليَّة والوطنيَّة ونحوها مما لا تتسع إلا لقومٍ مخصوصين، قد ورثوا هذا الولاء وراثةً من غير قرارٍ ولا خيار، فالمرء في هذه الولاءات مقيَّد بما ورثه من أبيه جنسًا ولونًا، لا يملك فيه تغييرًا ولا تعديلًا.
أما الولاء الإسلامي فهو ولاء (إيمان)، وبوسع الناس كلِّهم أن يدخلوا فيه مهما كان جنسهم ولونهم، ومن هنا جاء الخطاب القرآني الكريم مصدَّرًا بـ ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ﴾.
وقد حمل بعض المتأخرين خَلْقَ حواء من آدم على أنها خُلِقَت من نوعه، وليس من جسده، وهو تكلُّف لا تحتمله اللغة، ولا حاجةَ إليه؛ فقصة الخلق بالنسبة لنا غيب، ولا سبيل لإدراك الغيب إلا بالوحي، والنصُّ ظاهرٌ في أنَّ الله خلق حوَّاء من نفس آدم، وحمل النص على غير ظاهره بلا قرينةٍ صارفةٍ لا يصحُّ، والله أعلم.
هذا وقد تضمن هذا المقطع مسائل تفصيليَّة تندرج تحت هذا الأصل الكبير، ومنها:
حقوق اليتامَى:
المسألة الثانية التي يتناولها المقطع تتعلق بحقوق اليتامى الذين يفقدون آباءهم وهم في سن الصغر دون البلوغ، وهؤلاء بحاجة إلى رعايةٍ خاصة أمينة وحانية، وقد مهَّدت السورة لهذا الأمر بالتذكير بمكانة الأرحام ومنزلتهم في الدين ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا ﴿١﴾ وَءَاتُواْ ٱلۡیَتَـٰمَىٰۤ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡۖ﴾ فالذي يتولَّى شؤون الأيتام في العادة لا يخرج عن دائرة الأرحام.
ثم نصَّ على الحقوق المالية لليتيم؛ لأنها مظنَّة الطمع، ولأنها قد تتداخل مع مال الوصيِّ، فيكون هناك نوع من التجاوز وإن كان بغير قصد.
ثمَّ عرَّج على أمرٍ في غاية الحساسية متعلق بمصير اليتيمات؛ حيث يكُنَّ عُرضةً لهضم حقوقهن الماديَّة والمعنويَّة والاجتماعيَّة في مرحلةٍ انتقالية من أعمارهنَّ، وهي مرحلة التهيُّؤ للزواج، وهنا قد تتدخل الرغبات من قِبَل الأوصياء لدفعهن للزواج بغير رضا، أو من غير كفءٍ، أو بمهر أدنى من مثيلاتهنَّ، وقد لا يكون الأمر بإكراه، وإنما حياؤهنَّ ووفاؤهنَّ لمَن أحسن إليهنَّ وتكفَّلهنَّ قد يمنعهنَّ من إبداء رأيهنَّ.
ومن هنا جاء التوجيه الربَّاني بأخذ الحيطة ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِی ٱلۡیَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۖ﴾ كأنَّه يقول: إن النساء غيرهنَّ كثير، فدعوا ما فيه شبهة الإجحاف والجور، ثم نبَّه إلى حقٍّ آخر يشمل الأيتام واليتيمات ﴿وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدࣰا فَٱدۡفَعُوۤاْ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡۖ﴾.
وفي هذا التنبيه أحكام وتوجيهات كثيرة، تبدأ باختبار اليتيم واليتيمة للتأكُّد من قدرتهما على التصرف بأموالهما التصرُّفَ السليم، خاصة وأنهما سينتقلان إلى حياة جديدة بمسؤوليات وواجبات جديدة، ومن ذلك مثلًا: أن اليتيمة التي ستتزوَّج من رجلٍ أجنبيٍّ قد تكون عُرضةً للابتزاز، واستحواذ زوجها على مالها بعدم إدراكها، وضعف خبرتها، وغلبة عاطفتها، وهذه حالةٌ من حالاتٍ كثيرةٍ استوجَبَت ذلك التنبيه الربَّاني ﴿وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ﴾.
حقوق الزوجات:
جاء الحديث عن حقوق النساء في هذا الموضع تفريعًا عن حقوق اليتامى، وملاحظة هذا النسق تُعينُنا على فهم بعض المسائل التي قد ترِد هنا؛ ومنها: استهلال الحديث عن حقوق النساء بالتعدد، وهو إنما جاء لترغيب الأوصياء، وبيان سعة الخيارات المتاحة أمامهم بعيدًا عن شبهة الحيف بالزواج من اليتيمات اللواتي تحت أيديهم، وقد ذهب بعيدًا من ظنَّ أن التعدد في الزواج أصل، فإن السياق لا يقتضيه، والله أعلم.
وقد وهِمَ أيضًا مَن عدَّ التعدُّد حقًّا للأزواج، فحاجة المرأة في الزواج ولو كانت ثانية أو ثالثة أو رابعة أولى من حاجة الرجل؛ ولذلك ترغب فيه، ولو امتنع النساء عن ذلك لما حصل التعدد أصلًا، والخلاف فيه ليس بين الرجال والنساء، وإنما هو خلاف بين الضرائر من النساء، فالأولى تشعر بالضرر من التعدد، وهذا شعور مفهوم ومبرّر لمكان الغيرة ولكثرة ظلم الأزواج، والأخرى تشعر بالحاجة للزواج فهو بكلِّ الأحوال أولى لها من الحياة عازبة أو أرملة أو مطلقة، وأن تعيش شريكة في الزوج أنفع لها من أن تعيش مع زوجة أخيها مثلًا بلا زواج ولا أمومة، أو تعيش منفردة بلا حقٍّ ولا أُنسٍ، وفي كلِّ هذا ألزم الله الزوج بالعدل، بل والتأكُّد من القدرة عليه قبل التعدد ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَ ٰ⁠حِدَةً﴾.
وإذا دار الأمرُ بين الوقوع في الحرام بمجافاة العدل وبين ترك المباح وهو التعدد فالعاقل من يتجنّب الحرام، وهذا هو منطوق الآية.
وقد وقع كثير من المعدِّدين في هذا الحرام من حيث إنهم أرادوا الخير، فقدّموا صورة لا تنسجم مع مبادئ الدين ولا مع سنَّة سيِّد المرسلين، ثم نبَّه القرآن إلى حقِّ (الصداق)، وهو مهر الزواج الذي تستحقه المرأة في مال زوجها؛ إكرامًا لها وسدًّا لحاجتها الخاصّة، وفيه تكلفة للزوج بما يبعده عن التفكير بالانفصال لأدنى مشكلة تقع بينه وبينها.
الحفاظ على المال:
في ثنايا الحديث عن مسائل من النظام الاجتماعي المنبثق أساسًا من وحدة الأصل البشري، وقبل ذلك من وحدة الخالق ، يأتي الحديث عن أهمية المال، ومسؤولية المجتمع في الحفاظ عليه بغض النظر عن المالك المعيَّن؛ حيث إن المال له وظيفة اجتماعيَّة عامة وشاملة وليس مجرَّد متاع بيد مالكه ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَاۤءَ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُمُ ٱلَّتِی جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِیَـٰمࣰا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِیهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا﴾.
ومن ثَمَّ فعلى المجتمع أن يضع حدًّا على تصرُّفات السفيه المبذِّر لماله، ووضع الحد على المبذِّر للمال العام أهم وأَولَى.


﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ يدور الآن في الأوساط العلميَّة البحث في إمكانيَّة (الاستنساخ البشري) بأخذ خليَّة حيَّة من الجسم وتنميتها في محاضن خاصَّة لتكوين إنسان آخر، وإن كان هذا لم يتحقق لحدِّ الآن، وقد يعجز عنه البشر تمامًا، إلا أن أصل البحث يقرِّب إلى الذهن قصَّة الخلق الأولى؛ حيث ينصُّ القرآن على أن حواء قد خلقها الله من آدم، والله أعلم.
﴿وَلَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ إِلَىٰۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِكُمۡۚ﴾ بضمِّ أموال اليتامى إلى أموالكم، والصيغة مُوحية بالتنفير من الطمع، فالطامع لا يقنع بما عنده، بل يسعى لضم مال الآخرين إلى ماله، ولمّا كان الآخرون هم اليتامى كان التحذير أشد والاحتياط أوجب ﴿إِنَّهُۥ كَانَ حُوبࣰا كَبِیرࣰا﴾ أي: إثمًا كبيرًا، ثم أكّد وكرّر في نهاية المقطع: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ نَارࣰاۖ وَسَیَصۡلَوۡنَ سَعِیرࣰا﴾.
﴿مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۖ﴾ ذِكْر حالات التعدد، والجمع بين هذه الحالات غير وارد لا لغةً ولا شرعًا؛ لأنه سينتج حالات جديدة خارجة عن النص خماس أو سباع أو تساع، وقد وهم من عدّ هذه الصور أو الحالات أرقامًا قابلة للجمع، فجاء بالرأي الشاذّ المخالف للنص والإجماع.
﴿وَءَاتُواْ ٱلنِّسَاۤءَ صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحۡلَةࣰۚ﴾ أي: حقًّا ثابتًا لهنَّ ليس على سبيل التفضُّل، ومن ثَمّ لا يجوز التقصير أو التسويف فيه أو الأخذ منه إلا بطيب نفس منهنَّ.
﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَاۤءَ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُمُ﴾ قاعدة عظيمة في التعامل مع المال؛ فكلّ مالٍ له وظيفة اجتماعيّة بغض النظر عن مالكه، وهو في يد المالك ما دام أنه لا يسيء استعماله، فإن كان سفيها مبذّرًا ولا يحسن التصرّف فينبغي الحَجْر عليه، ووضع اليد على ماله إلا بالقدر الذي يسدّ حاجته ﴿وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِیهَا وَٱكۡسُوهُمۡ﴾ وقد جاءت هذه القاعدة تفريعًا عن حقوق اليتامى والنساء في المال الذي ورثوه أو استحقّوه بأي سبب، فتسليم المال لهم مرهون بالرشد وانتفاء السفه، وفي هذا حفظ لأصل المال وهو - لا شك - في مصلحة النساء واليتامى، وفيه أيضًا حفظ لحقِّ المجتمع بحفظ الوظيفة الاجتماعيّة والاقتصاديّة العامة للمال.
﴿وَلَا تَأۡكُلُوهَاۤ إِسۡرَافࣰا وَبِدَارًا أَن یَكۡبَرُواْۚ﴾ تنبيه للوصيّ أن لا يسرف في مال اليتيم بأن يأخذ منه أكثر مما يستحق مقابل سهره وتعبه، وأن لا يبادر بصرف المال كما يشتهي متعجِّلًا قبل أن يبلغ اليتيم حيث تنقطع الوصاية ويرجع المال لصاحبه.
﴿وَمَن كَانَ غَنِیࣰّا فَلۡیَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِیرࣰا فَلۡیَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾ توجيه للوصيِّ بأن يأكل من مال اليتيم بقدر أتعابه ومستلزمات وصايته فقط، هذا إذا كان فقيرًا ولا يستطيع أن يقوم بالوصيَّة من دون ذلك، أما إذا كان مُقتدرًا فليحتسب وصايَتَه لله، وليستعفف عن مال اليتيم، والله أعلم.
﴿فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ تجنُّبًا للشكِّ والنزاع المحتمل، فالوصيُّ إذا رأى أن يدفع لليتيم أمواله بعد البلوغ والرشد فعليه أن يُوثِّق ويُشهِد على ذلك.
﴿لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰ⁠لِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰ⁠لِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِیبࣰا مَّفۡرُوضࣰا﴾ هذه الآية ممهدة لأحكام الميراث الآتية بعد ثلاث آيات، وتقديمها جاء إتمامًا لحقوق اليتامى ورعايتهم والتلطّف بهم، فأثناء توزيع التركة قد يحضر بعض الأيتام ممن ليس لهم حقّ في التركة ونحوهم من الأرحام وكذا الفقراء والمساكين ﴿فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا﴾.
﴿وَلۡیَخۡشَ ٱلَّذِینَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّیَّةࣰ ضِعَـٰفًا خَافُواْ عَلَیۡهِمۡ فَلۡیَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡیَقُولُواْ قَوۡلࣰا سَدِیدًا﴾ توجيه لمن يحضر الميت عند وصيّته قبل أن يقضي، بأن يتحرَّوا سداد الرأي، فإن كان عنده ورثة قاصرون ومحتاجون فليوصوه بالتقليل من الوصيّة في الجهات الأخرى؛ لأن هؤلاء الورثة أَولَى، وإن كان من الحضور أيتام ومساكين من غير الورثة فليوصوه بهم، فهذا هو القول السديد؛ أن يعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه، وأن هؤلاء الحضور عليهم أن يتصرَّفوا بالنصح كما لو كان أولئك الورثة القاصرون أو هؤلاء اليتامى الحاضرون هم من ذريَّتهم، هكذا ينبغي أن تكون الرحمة والحكمة، والله أعلم.