سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 105

إِنَّـاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا ﴿١٠٥﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس الثاني والأربعون: توجيهات تربوية للمقاتلين


من الآية (101- 126)


يحتاج المقاتل أكثر من غيره إلى التوجيه المتواصل بحكم حساسية دوره وخطورة نشاطه، وقد تضمنت هذه الآيات عددًا من التوجيهات التربويَّة نلخصها في الآتي:

أولًا: إقامة الصلاة، وهي صلاةٌ خاصةٌ بالمقاتلين فيها قدر من التخفيف ومزيد من الضبط، فهو يصلي صلاة المسافر قصرًا وجمعًا، ولكنها صلاة منضبطة بإمامٍ واحد، ينقسم الجند فيها إلى مجموعتين؛ مجموعة يصلي بهم الإمام ركعة واحدة فقط، ثم يجلس فتكمل هذه المجموعة صلاتها، ثم تنصرف لتأخذ دور المجموعة الثانية في الحراسة، ثم يصلي الإمام بالمجموعة الثانية ركعته الثانية، فإذا سلَّم قامُوا وأكملوا صلاتهم، وهذه صورة من صور صلاة الحرب أو الخوف، والصور الأخرى معروفة في كتب الفقه.
والمعنى المضاف في هذه الصلاة هو الحرص على وحدة القيادة حتى في الظروف الاستثنائية، ولا يخفى أيضًا التأكيد على أهمية الصلاة بالنسبة للجُند؛ فهي صِلَتهم بهويَّتهم وعقيدتهم، وصِلَتهم فيما بينهم.

ثانيًا: الذكر ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ﴾ وهذا تنبيهٌ على أهميَّة الذكر في صياغة شخصيَّة الجندي إيمانًا وشجاعةً، وتنزُّهًا عن الحطام ودواعي الجُبن والقعود، وفي الذكر ترسيخٌ لقيم الألفة والتعاون ومحبَّة الخير، والتغاضِي عن أسباب النزاع والخلاف.
ثالثًا: الحذر، وهو ركن التربية العسكرية ﴿وَلۡیَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ﴾ ﴿وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ﴾ وأطلق الحذر هنا ليشمل كلَّ ما ينبغي الحذر منه بدايةً من نوازع النفس وشهواتها، حتى مخططات العدو وطرائقه في الاختراق واصطياد المعلومات، وفتح الثغرات.
رابعًا: العزم والتحمل ﴿وَلَا تَهِنُواْ فِی ٱبۡتِغَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَۗ﴾.
خامسًا: الشعور بالمسؤولية وتحمُّل التَّبِعَات ﴿وَمَن یَكۡسِبۡ إِثۡمࣰا فَإِنَّمَا یَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ﴾، ومع هذا فبابُ التصحيح مفتوح ﴿وَمَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا أَوۡ یَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ یَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ یَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾، وحذَّر هنا من التخلِّي عن المسؤوليَّة واتهام الآخرين بالباطل ﴿وَمَن یَكۡسِبۡ خَطِیۤـَٔةً أَوۡ إِثۡمࣰا ثُمَّ یَرۡمِ بِهِۦ بَرِیۤـࣰٔا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَـٰنࣰا وَإِثۡمࣰا مُّبِینࣰا﴾.
سادسًا: البراءة من الخائنين ﴿وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا﴾، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمࣰا﴾ ، ﴿هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ ، وقد بيَّن الله سببَ الخيانة ﴿یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ﴾ فالله معهم وهو يعلم سرَّهم ونجواهم، ولكنهم هم لم يكونوا مع الله، فهوَّنُوا الإثم، واستصغروا حقَّ الله في مقابل حقِّ الناس فتملَّكهم الرياء والرغبة بما في أيدي الناس.
ومن ثَمَّ وجب رفع الغطاء عنهم وكشف مخططاتهم وارتباطاتهم ومحاولاتهم التأثير على مصدر القرار ﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءࣲۚ﴾، وإذا كان هذا في حقِّ المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فإن غيره من الخلفاء والأمراء أَولَى بالحيطة.
سابعًا: الابتعاد عن النجوى، وهي المحادثات الجانبيَّة في الشأن العام بمعزلٍ عن القيادة، وهي نذيرٌ بالتفرُّق والاختلاف وشيوع الشك والريبة ﴿۞ لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ﴾، ثم استثنى التشاور من أجل الإصلاح ﴿إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ﴾.
وقد ورد التحذير الشديد من النجوى في سورة المجادلة: ﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ لِیَحۡزُنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ [المجادلة: 10].
ثامنًا: التحذير من مجانبةِ الحقِّ وشقِّ الصف ﴿وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾، وقد جاء هذا التحذير عقب الحديث عن النجوى إشارة إلى الصلة السببية بينهما.
تاسعًا: البراءة من المشركين وضلالاتهم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ﴾.﴿وَإِن یَدۡعُونَ إِلَّا شَیۡطَـٰنࣰا مَّرِیدࣰا ﴿١١٧﴾ لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِیبࣰا مَّفۡرُوضࣰا ﴿١١٨﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمۡ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا ﴿١١٩﴾ یَعِدُهُمۡ وَیُمَنِّیهِمۡۖ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾ فالمجتمع المسلم كلُّه متميِّزٌ بعقيدته وأخلاقه وطريقة تعامله مع الخلق، حتى الأنعام والبهائم.
عاشرًا: الأخذُ بالأسباب وعدم الاتِّكال على الإيمان المجرَّد ﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ﴾ فسُننُ الله غلَّابة، والسوء في مخالفة السنن الكونية لا يختلف عن السوء في مخالفة الأحكام الشرعية؛ إذ خالق الكون ومنزّل الوحي ربّ واحد وإله واحد ـ؛ ولذلك لم يشفع للمؤمنين إيمانهم حينما تركوا ثغرتهم مكشوفة على جبل الرماة يوم أُحُد، وهذا هو عدله سبحانه في الخلق والأمر.


﴿إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن یَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْۚ﴾ شرطٌ ظاهرٌ في قصر الصلاة بالنسبة للجيش، فهو يقصر الصلاة في حالة الحرب وبإمامٍ واحدٍ، أما قصر الصلاة في السفر فلا يشترط فيها خوف العدوّ سواء أكان المسافر عسكريًّا أم مدنيًّا، فسياق الآية يتناول الحرب وليس السفر، وإنما أخذت صلاة المسافر من السنّة النبويّة.
﴿وَلَا جُنَاح﴾ لا حرج ولا إثم.
﴿فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِیمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ﴾ وهي الصلاة التامة من غير قصر، في حالة حصول الاستقرار وانتهاء حالة المواجهة والإنذار العسكري.
﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ كِتَـٰبࣰا مَّوۡقُوتࣰا﴾ أي: فرضًا مؤقَّتًا بمواقيتٍ محددةٍ، وهذا هو الأصل في الصلاة، وإنما جرى تغيير الوقت في حالة الحرب استثناءً من الأصل، فاقتضى العَود إلى الأصل بذهاب حالة الاستثناء، وفي هذا دليلٌ على وجوب الالتزام بأوقات الصلاة كما فُرضت وكما أدَّاها رسول الله ، بخلاف بعض المبتدعة الذين يرون الجمع بلا عذرٍ ولا حربٍ ولا سفرٍ.
﴿فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَۗ﴾ وهذا من شأنه أن يُخفِّفَ من وطأة الألم، ويُعين على الصبر والتحمُّل، فالمُشرِك يُجرَحُ ويُقتلُ وهو لا يعتقد بحياة الجزاء الأخروي، بخلافِ المؤمن الذي يرجُو تلك الحياة وثوابَ الله فيها.
﴿وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا﴾ أي: مُدافعًا ومجادلًا عنهم.
﴿یَسۡتَخۡفُونَ﴾ يستترون حياءً.
﴿یُبَیِّتُونَ﴾ أصله تدبير الأمر في الليل، ثم استعمل في كلِّ أمرٍ يتمُّ في الخفاء.
﴿بُهۡتَـٰنࣰا﴾ رمي الآخر بالتهمة الباطلة كذبًا وافتراءً.
﴿أَن یُضِلُّوكَ﴾ أن يخدعوك.
﴿یُشَاقِقِ﴾ يخالف ويعاند.
﴿وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ أي: يتخذ طريقًا غير طريق الإسلام، وقد استنبط الأصوليون من هذه الآية حجيّة الإجماع، فما أجمع عليه المسلمون لا ينبغي مخالفته.
﴿وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ﴾ من الذنوب كبيرها وصغيرها، وهذا من سعة رحمته وعفوه ومغفرته، وهذا ظنُّنا به سبحانه، فهو الغنيُّ عن خلقه، وهم الفقراء إليه، وفي الآية دليلٌ على جواز العفو عن قاتل النفس؛ إذ هو مما دون الشرك، وهذه قرينة أن وعيد الله لمن يقتل مؤمنًا متعمدًا بالخلود في جهنَّم إنما في القاتل الكافر الذي يقتل المؤمن لإيمانه، والله أعلم.
وقال تعالى: ﴿لِمَن یَشَاۤءُۚ﴾ حتى لا يتَّكِل الناس فيتجرؤوا على الذنوب وانتهاك الحقوق، كما هو مذهب غلاة المرجئة.
﴿إِلَّاۤ إِنَـٰثࣰا﴾ هي الأصنام كمَنَاة والعزَّى، وفيه قبحٌ مضافٌ؛ حيث إنهم يقتلون إناث البشر، ويعبدون إناث الحجر، وهذا القَصرُ ليس على حقيقته؛ بل هو قَصرٌ قُصِد به التنبيهُ إلى شَناعَة فِعلِهم، كما يُقالُ في المَدح: لا فارِسَ إلا زَيد، ولا فتًى إلا عمرو، وكما يُقالُ في النُّصح: لا تخافنَّ إلا ذنبَك، والله أعلم.
﴿شَیۡطَـٰنࣰا مَّرِیدࣰا﴾ هو إبليس الخارج عن طاعة الله، ويصح إطلاق الشيطان على كلِّ خبيثٍ في جنسه من الجنّ والإنس والحيوان.
﴿فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ﴾ وهو نموذج للتديُّن الفاسد، فقطع الآذان ليس من الدين وليس من الخُلق في شيء.
﴿فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ﴾ وهذه غاية الشيطان الكبرى، وطريقته في إفساد الكون، فالموضوع أكبر من قطع الآذان، والانحراف إنما يبدأ بخطوة، فتغيير الخلق يعني تغيير نواميس الكون بدءًا من خصوصية الذكر والأنثى والعلاقة الفطرية فيما بينهما، وصولًا إلى تدمير الحياة والبيئة المحيطة بأنواع التلوُّث، وأسلحة الدمار الشامل.
﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ﴾ ليس بما تشتهون وترغبون.
﴿مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ﴾ تأكيد المساواة الجزائيَّة وتحمُّل المسؤوليَّة.
﴿نَقِیرࣰا﴾ الأثر الذي في ظهر نواة التمر، والمقصود أيَّ شيءٍ ولو كان صغيرًا أو قليلًا.
﴿وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ﴾ تأكيدٌ لوحدة الدين وربط الرسالات السماوية كلِّها بمصدرٍ واحدٍ وتاريخٍ واحدٍ.