يحتاج المقاتل أكثر من غيره إلى التوجيه المتواصل بحكم حساسية دوره وخطورة نشاطه، وقد تضمنت هذه الآيات عددًا من التوجيهات التربويَّة نلخصها في الآتي:
أولًا: إقامة الصلاة، وهي صلاةٌ خاصةٌ بالمقاتلين فيها قدر من التخفيف ومزيد من الضبط، فهو يصلي صلاة المسافر قصرًا وجمعًا، ولكنها صلاة منضبطة بإمامٍ واحد، ينقسم الجند فيها إلى مجموعتين؛ مجموعة يصلي بهم الإمام ركعة واحدة فقط، ثم يجلس فتكمل هذه المجموعة صلاتها، ثم تنصرف لتأخذ دور المجموعة الثانية في الحراسة، ثم يصلي الإمام بالمجموعة الثانية ركعته الثانية، فإذا سلَّم قامُوا وأكملوا صلاتهم، وهذه صورة من صور صلاة الحرب أو الخوف، والصور الأخرى معروفة في كتب الفقه.
والمعنى المضاف في هذه الصلاة هو الحرص على وحدة القيادة حتى في الظروف الاستثنائية، ولا يخفى أيضًا التأكيد على أهمية الصلاة بالنسبة للجُند؛ فهي صِلَتهم بهويَّتهم وعقيدتهم، وصِلَتهم فيما بينهم.
ثانيًا: الذكر
﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ﴾ وهذا تنبيهٌ على أهميَّة الذكر في صياغة شخصيَّة الجندي إيمانًا وشجاعةً، وتنزُّهًا عن الحطام ودواعي الجُبن والقعود، وفي الذكر ترسيخٌ لقيم الألفة والتعاون ومحبَّة الخير، والتغاضِي عن أسباب النزاع والخلاف.
ثالثًا: الحذر، وهو ركن التربية العسكرية
﴿وَلۡیَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ﴾ ﴿وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ﴾ وأطلق الحذر هنا ليشمل كلَّ ما ينبغي الحذر منه بدايةً من نوازع النفس وشهواتها، حتى مخططات العدو وطرائقه في الاختراق واصطياد المعلومات، وفتح الثغرات.
رابعًا: العزم والتحمل
﴿وَلَا تَهِنُواْ فِی ٱبۡتِغَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَۗ﴾.
خامسًا: الشعور بالمسؤولية وتحمُّل التَّبِعَات
﴿وَمَن یَكۡسِبۡ إِثۡمࣰا فَإِنَّمَا یَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ﴾، ومع هذا فبابُ التصحيح مفتوح
﴿وَمَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا أَوۡ یَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ یَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ یَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾، وحذَّر هنا من التخلِّي عن المسؤوليَّة واتهام الآخرين بالباطل
﴿وَمَن یَكۡسِبۡ خَطِیۤـَٔةً أَوۡ إِثۡمࣰا ثُمَّ یَرۡمِ بِهِۦ بَرِیۤـࣰٔا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَـٰنࣰا وَإِثۡمࣰا مُّبِینࣰا﴾.
سادسًا: البراءة من الخائنين
﴿وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا﴾،
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمࣰا﴾ ،
﴿هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ ، وقد بيَّن الله سببَ الخيانة
﴿یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ﴾ فالله معهم وهو يعلم سرَّهم ونجواهم، ولكنهم هم لم يكونوا مع الله، فهوَّنُوا الإثم، واستصغروا حقَّ الله في مقابل حقِّ الناس فتملَّكهم الرياء والرغبة بما في أيدي الناس.
ومن ثَمَّ وجب رفع الغطاء عنهم وكشف مخططاتهم وارتباطاتهم ومحاولاتهم التأثير على مصدر القرار
﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءࣲۚ﴾، وإذا كان هذا في حقِّ المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فإن غيره من الخلفاء والأمراء أَولَى بالحيطة.
سابعًا: الابتعاد عن النجوى، وهي المحادثات الجانبيَّة في الشأن العام بمعزلٍ عن القيادة، وهي نذيرٌ بالتفرُّق والاختلاف وشيوع الشك والريبة
﴿۞ لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ﴾، ثم استثنى التشاور من أجل الإصلاح
﴿إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ﴾.
وقد ورد التحذير الشديد من النجوى في سورة المجادلة:
﴿إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ لِیَحۡزُنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ [المجادلة: 10].
ثامنًا: التحذير من مجانبةِ الحقِّ وشقِّ
الصف ﴿وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾، وقد جاء هذا التحذير عقب الحديث عن النجوى إشارة إلى الصلة السببية بينهما.
تاسعًا: البراءة من المشركين وضلالاتهم
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ﴾.
﴿وَإِن یَدۡعُونَ إِلَّا شَیۡطَـٰنࣰا مَّرِیدࣰا ﴿١١٧﴾ لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِیبࣰا مَّفۡرُوضࣰا ﴿١١٨﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمۡ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا ﴿١١٩﴾ یَعِدُهُمۡ وَیُمَنِّیهِمۡۖ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾ فالمجتمع المسلم كلُّه متميِّزٌ بعقيدته وأخلاقه وطريقة تعامله مع الخلق، حتى
الأنعام والبهائم.
عاشرًا: الأخذُ بالأسباب وعدم الاتِّكال على الإيمان المجرَّد
﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ﴾ فسُننُ الله غلَّابة، والسوء في مخالفة السنن الكونية لا يختلف عن السوء في مخالفة الأحكام الشرعية؛ إذ خالق الكون ومنزّل الوحي ربّ واحد وإله واحد ـ؛ ولذلك لم يشفع للمؤمنين إيمانهم حينما تركوا ثغرتهم مكشوفة على جبل الرماة يوم أُحُد، وهذا هو عدله سبحانه في الخلق والأمر.