سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 137

إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرࣰا لَّمۡ یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ سَبِیلَۢا ﴿١٣٧﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس الرابع والأربعون: المنافقون


من الآية (136- 149)


تقدم الحديث مفصَّلًا عن المنافقين في سورة البقرة، والقرآن يكمِّل بعضه بعضًا، فجاء بسيرة المنافقين هنا في سياق آخر، ففي البقرة كان الحديث منصبًّا للمقارنة العقدية بين الفئات الثلاث: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، أما هنا فقد جاء الحديث مركَّزًا في بيان موقف المنافقين من المعركة الدائرة بين الإسلام والكفر؛ لمناسبة الحديث المتقدم قبل قليل عن التربية العسكريَّة وشروط الجنديَّة في الجيش المسلم، ويمكن استخلاص الموقف القرآني من المنافقين في النقاط الآتية:
أولًا: إن الإيمان وحدة متكاملة لا تتجزَّأ، وقد جاء بيان أركان الإيمان الخمسة، وأن من كفر بواحد منها فقد كفر بجميعها ﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا﴾.
وأما الركن السادس وهو: القدر، فهو مضمَّن في الإيمان بالله؛ إذ حقيقته الإيمان بعلم الله وإرادته وقدرته وحكمته، وهذه صفات إلهية ينتج عنها القضاء والقدر، ومناسبة ذكر الأركان هنا بيان حال الكافر بها ومنهم المنافقون وهم محل الحديث أولًا، ثم يأتي الحديث بعدهم عن أهل الكتاب، وكلهم مشتركون في هذا الكفر وإن اختلفت صفاتهم الأخرى.
ثانيًا: إن المنافقين ليسوا في درجةٍ بين الإيمان والكفر، بل هم قد كفروا كفرًا لا شبهة فيه ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرࣰا لَّمۡ یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ سَبِیلَۢا ﴿١٣٧﴾ بَشِّرِ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا﴾.
وأما تكرار الإيمان والكفر فهو ليس على سبيل التردد، بل هو طبيعة النفاق، فهم كلما قابلوا المؤمنين قالوا: آمنَّا، وكلما قابلوا الكافرين قالوا: كفَرنا، وأما حقيقتهم الذاتيَّة فهي الكفر، كما قال عنهم في سورة البقرة: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡأَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ﴾ [البقرة: 8].
ثالثًا: إن المنافقين هم مع الكافرين في ولاءٍ واحدٍ من دون المؤمنين ﴿ٱلَّذِینَ یَتَّخِذُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ﴾ والمقصود بالكافرين هنا: المُجاهرون بكفرهم وعدائهم للمؤمنين، وإلا فإن المنافقين كافرون وليسوا مُوالِين للكافرين، فكفرهم ثابتٌ بنفي إيمانهم من الأصل، وليس بسبب ولائهم.
رابعًا: إنهم يشتركون مع الكافرين في الاستهزاء بآيات الله ﴿أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ یُكۡفَرُ بِهَا وَیُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُواْ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۤ إِنَّكُمۡ إِذࣰا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡكَـٰفِرِینَ فِی جَهَنَّمَ جَمِیعًا﴾.
خامسًا: إن تغيُّر مواقفهم إنما يكون بحسب المصلحة، وليس تغيُّرًا في الرأي أو المعتقد ﴿ٱلَّذِینَ یَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحࣱ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَـٰفِرِینَ نَصِیبࣱ قَالُوۤاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَیۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ﴾، وهذا هو سبَبُ التذبذُب ﴿مُّذَبۡذَبِینَ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ لَاۤ إِلَىٰ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ وَلَاۤ إِلَىٰ هَـٰۤـؤُلَاۤءِۚ﴾ لأنه ليست عندهم راية واضحة ينحازون إليها؛ فاليهودي مُنحازٌ ليهوديته، والمشرك مُنحازٌ لقومه، وهؤلاء ضائِعون انتهازيُّون يبحثون عن الفتات تحت أي سفرة، وليس التذبذُب التحيُّر أو التردد بين الإيمان والكفر.
سادسًا: إنهم مخادعون ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ﴾ أي: أنهم يظنون أنهم يخدعون الحق وأهله، ولكن الحقيقة أن خداعهم راجع عليهم، فهم يخدعون أنفسهم ببعض المصالح الزائلة ثم تكون وبالًا عليهم.
سابعًا: إنهم يتقاعسون عن الطاعة والعبادة؛ لأنهم يتصنَّعونها تصنُّعًا بلا إيمان ولا رغبة ﴿وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ یُرَاۤءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ وهذا لا يشمل المؤمن الذي قد يتعرَّض للكسل بطبعه البشري، فهذا ليس من النفاق.
ثامنًا: إن باب التوبة مفتوح لهم، لكن بشروط مضافة ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِینَهُمۡ لِلَّهِ﴾ فإصلاح ما أفسدوه في مرحلة النفاق شرط في التوبة، وكذا الإخلاص والاعتصام لمكان الاضطراب والتذبذب وغيرهما من الصفات التي كانوا عليها مما لا تبعث على الطمأنينة والارتياح.
تاسعًا: إن المجاهرة بأقوالهم والمساهمة بنشر أخبارهم وإشاعاتهم، وكذا إعلان الخصومة لهم ليس من الصفات المحبَّبة عند المؤمنين، إلا بقدر ما يندفع خطرهم وظلمهم المتجه نحو المجتمع كله، أو نحو فرد أو مجموعة معينة ﴿۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا﴾.


﴿ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرࣰا﴾ إشارة إلى أن الكفر يتفاوت كما يتفاوت الإيمان، فكفر الجاهل مثلًا ليس ككفر العارف المعاند، وهؤلاء المنافقون لأنَّهم عاشوا مع المسلمين وسمعوا من رسول الله مباشرة، ورأوا خُلُقه وشمائله، وتأييد الله له، ثم أصرُّوا على كفرهم فهم قد هَوَوا إلى أسفل دركات الكفر، ومن هنا استحقوا أشدَّ العذاب ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ﴾.
﴿وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ سَبِیلَۢا﴾ منع الهداية لم يكن ابتداءً، بل بسبب ظلمهم وعنادهم ونفاقهم، وهذا هو الذي يتَّفِق مع عدل الله وحكمته، فالله لا يهدي قومًا ويضل آخرين انحيازًا لأولئك وظلمًا لهؤلاء - حاشا لله -، بل من طلب الهداية هُدِيَ، ومن طلب الضلالة ضلَّ، تمامًا كعالم الأسباب المادِّيَّة، فمن طلَبَ الماءَ ارتَوَى، ومن تركه ظمِئَ.
﴿فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا﴾ ومعنى الجواب: أن من يبتغي العزَّة فليلتجِئ إلى الله، فالانتساب إليه يمنح العبد مكانته وكرامته؛ إذ سيتساوى مع كل البشر مهما كان ضعيفًا أو فقيرًا، أما الابتعاد عن الله فإن الناس بهذا الابتعاد سيتمايَزُون بقدراتهم وإمكانياتهم، وهذه مظنَّة الإذلال وعبوديَّة البشر للبشر.
﴿فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُواْ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِ﴾ إشارة أن مقاطعة المجتمعات الكافرة أو الفاسقة ليس مَطلبًا شرعيًّا ما دام الاحترام قائمًا، أما إن سخروا واستهزؤوا فتتعيَّن العزلة، نزعًا لفتيل الصدام، وتجنبًا للنزول إلى المستوى الذي يضيع فيه الجد، ويهزل فيه الفكر.
﴿یَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ﴾ أي: ينتظرون نتائج المعركة مع تمني السوء لكم.
﴿وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلً﴾ هو جَعل تشريعي، بمعنى: أن الله قد شرَّع لكم من التوجيهات والأحكام ما يضمن لكم النصر والتفوُّق، وهذا كقوله: ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ﴾ [محمد: 7]، فالتزامكم بأمر الله واعتصامكم بحبله يقطع سبيل الكافرين في غلبتكم.
﴿مَّا یَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ﴾ فالله ليس محتاجًا لعذابكم، لا لدفع ضرٍّ عنه، ولا لجلب خير، ولا تشفِّيًا بكم، وهذا فيه ترغيب شديد بالتوبة والإنابة، وبيان لسعة رحمة الله وعفوه وقبوله لمن تاب إليه مهما كان.
﴿إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ﴾ قدَّم الشكرَ على الإيمان، إشارة أن خُلُق الشكر الفطري ومحبَّة الإنسان لمن يحسن إليه سيقود صاحبه إلى الإيمان حتمًا، فمن ذاك الذي أحسن إلينا أكثر من الذي خلقنا من العدم، وأمَدَّنا بكل أسباب الحياة عنايةً ورعاية وكرامة؟
﴿۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ﴾ حتى لا يظنَّ ظانٌّ أن ما تقدَّم من فضح المنافقين وأساليبهم الملتوية مبررٌ لأَن يكون هذا سمْتًا في المسلمين في تعاملهم مع الآخرين، فالقرآن يذكر صفات وأحوالا يحذّر منها ولا يذكر أسماء وأشخاصًا، أما تناول الأشخاص والجماعات المعينة بالطعن فهذا ليس واردًا إلا في حالة الظلم الواقع من معيَّن على معيَّن، وحتى هؤلاء ندبهم إلى العفو ورغَّبهم فيه ﴿أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوۤءࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوࣰّا قَدِیرًا﴾.