يأتي هذا المقطع مكمِّلًا للمقطع الذي قبله والذي بدأ بالحديث عن وحدة الأصل البشري، ثم عن حقوق اليتامى والزوجات، وفي أثناء ذلك نبّه إلى أهميّة المال ووظيفته، ثم شرع في هذا المقطع ببيان نظام يربط بتفصيل دقيق بين النظام المالي والنظام الاجتماعي، وهو نظام الإرث الذي جاء مفصّلا في هذه الآيات، وقد حظِيَ باهتمام المفسّرين والفقهاء وعُقدت له أبواب خاصَّة، والذي يَعنِينا هنا الوقوف على فلسفة التشريع الكلية من خلال المسائل الآتية:
الإرث وتفتيت الثروة:
يجمع الإسلام بين حقِّ الملكيَّة الفرديَّة ومبدأ تفتيت الثروة وتوزيعها؛ بحيث لا تبقى محتكرة بيدٍ واحدة، ونظام الإرث واحد من أدوات الإسلام في تحقيق هذا المبدأ؛ حيث إن المالك يتصرَّف في ملكه طيلة حياته، فإذا توفِّي أو حضَرَتْه الوفاة حصر الإسلام حقّه في التصرف بثلث ماله فقط والباقي يؤول للورثة بنظام يحدده الشرع، وليس لأحدٍ الحقّ في تغييره أو تعديله، وبهذا يضمن الإسلام توزيع الثورة بعد مالكها الأول، وهذا بخلاف النُظم الرأسماليّة التي تتيح للمالك حكر ماله من بعده في يدٍ واحدةٍ، كما أن الإسلام يخالف في أصل الملكيَّة النظريَّة الشيوعيَّة التي تستهين بحقِّ الفرد في التملك.
إن حقَّ الفرد في التملك هو جزءٌ من تعبيره عن ذاته وكيانه وفطرته، وهو في الوقت ذاته دافعٌ أساسٌ للعمل والإنتاج والمنافسة في تجويد هذا الإنتاج وتسويقه، أما عند حضور الأجل فقد انقطع هذا الدافع، ومن ثَمَّ تترجح وظيفة المال الاجتماعيَّة ودوره في التنمية العامة بأن يعطى لأكثر من يدٍ وهم الورثة، ويمنع المالك الأول من توريثه على هواه؛ لأن هذا يضرُّ بالوظيفة الماليَّة.
ومستند الحقّ في هذا المنع أن هذا الإنسان إنما استحقَّ هذا المال على جهة الاستخلاف والتوكيل وإلا فإن أصل المال لخالقه ـ ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِۖ﴾ [الحديد: 7]، وهذا الاستخلاف مرتبطٌ بحياته، فحينما أشرَفَ على الموت قُيّدَ هذا الاستخلاف لينتقل المال الذي بين يديه إلى مستَخلَفين آخرين، وهكذا ينتقل المال من يدِ مستخلَفٍ إلى مستَخلفين آخرين في كلِّ جيل، وكما جاء المرء إلى هذه الحياة مُجرَّدًا من كلِّ ملكٍ فسيخرج منها كذلك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
حقُّ الذكَر وحقُّ الأنثى:
نصَّ القرآن الكريم في هذه الآيات على أن حظَّ الذكر من الإرث هو مثل حظِّ الأنثَيَين ﴿لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۚ﴾ وهذه قاعدةٌ معروفةٌ في العَصَبَات، أما في ذوي الفروض فقد يُوافق، مثل: حال الزوج والزوجة، وقد يخالف، كما في قوله: ﴿وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ﴾ وفي كلِّ هذا حكمة ربَّانيَّة، وحساب دقيق ليس فيه مُحاباة ولا غَبن.
غير أن بعض المتأثرين بالفلسفات الغربيَّة قد أنكروا هذه القِسمة، وزعموا أنها ميل للذكر دون الأنثى، وأغلب الظنِّ أنَّ هؤلاء قد اقتطعوا هذا الحكم من بقيَّة الأحكام المالية التي تنظّم العلاقة بين الذكر والأنثى، فقبل هذه الآية نصَّ القرآن على أن الصداق حقٌّ خالصٌ للأنثى في مالِ الذكر، ولم نسمع منهم مُعترِضًا أو شاكيًا، وزيادة على الصداق أوجب الله للمرأة في مال الرجل السكن والنفقة، وهذه التكاليف أكثر بكثير من زيادة نصيبه في الإرث، وكأنَّ الزيادة هذه لم تكن سوى رأس مال يُنمِّيه الذكر لينفق منه على أُنثاه التي أمره الله برعايتها وسدِّ حاجتها.
وهنا ينبغي التنويه أن الفلسفة التي ينطلق منها الفكر الغربي قد جنحت نحو المساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء، وهي بذلك تتغافل عن التنوّع والتكامل اللذَين هما أصل العلاقة بين مفردات هذا الكون، وهذا التنوع يتطلب العدل وهو إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقّه، وجعل كل شيء في مكانه الأنسب ودوره الأَلْيَق، أما المُساواة التامة بين المختلفين فهي الظلم بعينه، وقد يلحق الضرر بالاثنين معًا، وإنكار الفوارق الجسديّة والنفسيّة بين الرجل والمرأة تعسُّف وتكلُّف ظاهر.
﴿یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ﴾ تمهيدٌ لأحكام الإرث، وفيه شعور بالحنو والعاطفة، وقال:﴿یُوصِیكُمُ﴾ مع أنها أحكامٌ جازمةٌ ومحددةٌ، كأنه يقول لهم: إن هذه الأحكام هي لكم، ولصالح أولادكم، وهذا أدعَى للالتِزام بها والحرص عليها. ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ﴾ المقصود اثنتان فما فوق؛ إذ الحكم اللاحق يتعلق بالواحدة ﴿وَإِن كَانَتۡ وَ ٰحِدَةࣰ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ﴾ وليس بينهما حكم ثالث، وإهمال حكم البنتين ليس بوارد، والآية الأخيرة في هذه السورة تنص على أن الثلثين نصيب الأختين ﴿فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ﴾ والبنتان أَولَى في هذا من الأختَين.
وقد وَهِمَ من قال: إن ﴿فَوۡقَ﴾ زائدة؛ لأن زيادتها تعني إهمال حكم الثلاثة فما فوق، فكأنَّه وقع فيما فرَّ منه.
ومن اللطائف العلميَّة هنا: أن حكم البنتَين هنا قد استُفِيد من آية الأختَين، وهي الآية الأخيرة من هذه السورة، وحكم ما فوق الأختَين قد استُفِيد من هذه الآية التي نحن بصددها، وهكذا يفسِّرُ القرآن بعضه بعضًا، والله أعلم. ﴿لَا تَدۡرُونَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعࣰاۚ﴾ إشارة أن الوارث يستحقُّ نصيبَه من الإرث ﴿فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱلـلَّـهِ﴾ بغض النظر عن رأي المورِّث وطبيعة العلاقة بينهما. ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصِینَ بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنࣲۚ﴾ إذ المتوفَّى له الحقّ أن يوصي قبل موته بالثلث من تركته فما دون، وللدائنين أن يستردُّوا دَينَهم أيضًا بالتنصيص من المتوفَّى أو بما يقدمونه من بيِّنةٍ، وهكذا كلُّ حقٍّ مالي في ذمَّة المتوفَّى، والله أعلم. ﴿غَیۡرَ مُضَاۤرࣲّۚ﴾ توجيه للموصي أن يتجنَّب الإضرار بالورثة أو بعضهم من خلال الوصيّة التي يوصي بها، أو بادِّعائه الدين عليه بقصد حرمان الورثة من حقِّهم. ﴿یُورَثُ كَلَـٰلَةً﴾ الكلالة في اللغة التعب والضعف، وقد استعمله القرآن هنا في الشخص الذي يتوفى وليس له والد ولا ولد على قيد الحياة، وهنا ستكون التركة بين الحواشي من الأقرباء. ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ﴾ دلالةٌ أن أحكام الميراث هذه حدود مُقرَّرة ليس لأحدٍ أن يتجاوزها أو يستهين بها، وفي هذا دفع لشبهة التوجيه المجرد من الإلزام، والذي قد يُفهَم من الوصيَّة في قوله:﴿یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ﴾.