﴿وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُواْ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ بمعنى: أنهم يدَّعُون الإيمان بالله ثم يكفرون برسله.
﴿یَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَیۡهِمۡ كِتَـٰبࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ﴾ أي: مكتوبًا جاهزًا من السماء، وليس وحيًا يُملَى عليك ثم تُملِيه على الناس، وهذا من عِنادهم وصَلَفهم، وإلا فدلائلُ الحق في الوحي ظاهرة، وهي كافيةٌ للهداية وإقامة الحُجَّة.
﴿وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِیثَـٰقِهِمۡ﴾ أي: رَفَعنا فوقهم
الطور أثناء أخذ الميثاق منهم إلزامًا لهم، وتأكيدًا لأهمية الميثاق، وقد مرَّ الميثاق في سورة
البقرة بالتفصيل المناسب.
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ﴾ دليل على حفظ الله لنبيِّه عيسى من كيد اليهود وغيرهم، ونجاته من الموت على أيديهم، ورفعه إلى السماء
﴿بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَیۡهِۚ﴾.
﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ﴾ مُقتضى السياق أن الله نجَّى عيسى ورفعه إليه، ثم يقيم به الحجة على أهل الكتاب الذين غالوا فيه يمنةً ويسرةً، وهو ما سيتحقَّق قبل موته
عليه السلام.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
ﷺ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيْرَ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وَيَفِيْضُ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا».
ثم يقول أبو هريرة: (واقرؤوا إن شئتم:
﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا﴾).
وقد أشكل على بعض المفسِّرين تخصيص العموم بهذا التفسير، أي: العموم الوارد بقوله:
﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ إذ لا دليل على تخصيصه بالجيل الذي سيكون موجودًا عند النزول، فاضطروا لأقوال لا دليل عليها؛ كقولهم: إن كل كتابيٍّ في كل زمان ومكان لا يموت إلا وهو يؤمن بعيسى الإيمان الحق، كأن يرى شيئًا قبل موته - أيْ: موت الكتابي -، وهذا تكلُّفٌ ظاهر، فالتخصيص وارد بالحس والواقع، فالذين سيؤمنون به هم الذين سيُعاصِرُون نزوله ويرونه عيانًا، وهذا شائعٌ في اللغة، وله نظائر في القرآن كثيرة، والله أعلم.
﴿لَّـٰكِنِ ٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ﴾ إشارة أن الرسوخ في العلم يقود إلى الهداية؛ لأن هذا الرسوخ هو علامة الصدق والجد، بخلاف العلوم والمواعظ السطحية التي يجمعها علماء النفاق والسلطان الذين يتسوَّلُون الجاهَ والمالَ بعلمهم ومواعظهم.
﴿وَرُسُلࣰا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَیۡكَۚ﴾ فيه جواب ضمني لمن يسأل عن سرِّ وجود الأنبياء كلهم في هذه المنطقة ما بين الفرات إلى النيل، وفيه تأديبٌ أن لا نتناول أحدًا من المصلحين والمؤثرين في العالم؛ لأنه قد يكون من هؤلاء، وإن حُرِّفَت رسالاتهم، فالتوقف عن تناول الأشخاص المعينين منهم أَولَى، والله أعلم.
﴿وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ فالدعوة إلى الإيمان إنما هي لمصلحة الإنسان وتحقيق سعادته، وإلا فإن الله غنيٌّ عن العالمين مؤمنهم وكافرهم.
﴿لَا تَغۡلُواْ فِی دِینِكُمۡ﴾ أصل الغلو المبالغة والزيادة، ثم استعمل في التطرُّف والتشدد الديني زيادة على الحق بالكره أو الحب ونحوهما.
﴿وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ﴾ الروح التي خلقها الله بأمره، كما تقول: أرض الله وسماؤه وخلقه، بَيْدَ أن إضافة الروح مباشرة إلى الله فيه تشريف وتعظيم لمقام السيد المسيح
عليه السلام.
﴿وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰطࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾ تأكيد للقيمة المحورية لهذا الدين أنه الصراط المستقيم العدل الذي لا عِوَج فيه ولا محاباة ولا ظلم
﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ [الفاتحة: 6].
﴿قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِی ٱلۡكَلَـٰلَةِۚ﴾ تقدَّم تفسير الكلالة ومتعلقاتها في مقدمة السورة، وأن قوله تعالى هناك:
﴿فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ﴾ يتكامل هنا بقوله:
﴿كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ﴾ فمجموعهما يدلُّ في هذه المسألة على أن نصيب البنتَين أو الأُختَين وما زاد هو الثلُثَان.