بعد صيانة المجتمع من لوثة الفساد والانحراف الأخلاقي تأتي هذه الآيات للرُّقيّ بالمجتمع وتهذيبه وتنظيم شؤونه وتوجيهه نحو التواصل والتكافل وبناء الروابط الداخلية المتينة بحيث يصبح كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، ويحمي بعضه بعضًا، وأوَّل ما بدأ به القرآن هنا المال:
العلاقات الماليَّة:
حذّر القرآن من الظلم الماليِّ وأكل أموال الناس بالباطل
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ﴾، ثم أشار إشارةً لطيفةً إلى أحد أهم أسباب هذا التعدّي؛ وهو الحسد وتمنّي ما عند الغير
﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ﴾، ثمّ ذكّر بالحقوق الخاصّة
﴿وَلِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مَوَ ٰلِیَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِینَ عَقَدَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِیبَهُمۡۚ﴾.
وأخيرًا حثَّ على الإنفاق العام محذِّرًا من البخل، ومُبشِّرًا المُنفِقِين بمضاعفة الثواب وعظيم الأجر
﴿ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا ﴿٣٧﴾ وَٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۗ وَمَن یَكُنِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَهُۥ قَرِینࣰا فَسَاۤءَ قَرِینࣰا ﴿٣٨﴾ وَمَاذَا عَلَیۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِیمًا ﴿٣٩﴾ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةࣰ یُضَـٰعِفۡهَا وَیُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِیمࣰا ﴿٤٠﴾﴾.
حق الحياة والمحافظة على النفس:
بعد المال أوصَى بالأنفس
﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا ﴿٢٩﴾ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ عُدۡوَ ٰنࣰا وَظُلۡمࣰا فَسَوۡفَ نُصۡلِیهِ نَارࣰاۚ﴾ والعدوان والظلم قرينَتَا إرادة قتل الغير وليس قتل الرجل نفسه، وإنما أنزل نفس المقتول منزلة نفس القاتل لإثارة دواعي الرحمة والتذكير بحالة الجسد الواحد إيمانًا وأخوَّة، كما أن الاستهانة بالقتل تُشِيعه وتكثره، فيكون المجتمع الذي لا يتورَّع عن القتل ولا يردع القتلة كأنه يقتل نفسه، وقدَّم المال على النفس؛ لأن الخلاف المالي قد يكون مقدِّمة للقتل، والله أعلم.
العلاقات الزوجية:
وبعد المال والنفس شرع ببيان العلاقات البينيَّة داخل المجتمع، وبدأ بالعلاقة الزوجيَّة مُثبِّتًا لحقِّ الزوج في القوامة، ومُنطلِقًا منها في تفصيل المسائل الأخرى، والقوامة الحقّ إنما هي للدّين، فكلاهما يخضعان له ولأحكامه وآدابه، والزوج لا يدير بيته على هواه، بل وفق هذه الأحكام والآداب، وهنا يكون دور الزوج إداريًّا وتنفيذيًّا في حدود الشرع وحكمته ورحمته، وليس حاكمًا فذًّا أو متسلّطًا.
وقد ذكرَ القرآن سببَين لهذه القوامة:
﴿بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ وَبِمَاۤ أَنفَقُواْ﴾ والإنفاق معروف في الصداق ونفقة المعيشة ونحوها، وأما التفضيل فمن المقطوع به أنَّه ليس التفضيل الديني عند الله؛ إذ هذا مرهونٌ بما يقدِّمه المرء من عملٍ وحسن تعبُّدٍ وتديُّنٍ
﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 13]، فلم يَبْقَ إلا التفضيل بقدرات خَلقيّة وجسديّة امتاز بها الرجل وأهَّلتهُ أكثر من المرأة لكسب الرزق وإدارة البيت وحمايته وضبط سلوك الأولاد بعد أن يكبروا، ونحو هذا، وبهذه القوامة أعطى القرآن صلاحيَّات للزوج في إدارة بيته
﴿وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ﴾.
وهذه وسائل لضبط البيت في حالات النشوز، والذي يظهر أن كل وسيلة منها جاءت لتتناسب مع مستوى النشوز، وعلى الرجل أن يكون حكيمًا ولا يفرط أو يتعسَّف، وقد جاء الضرب آخِرًا للتنبيه أنه لعلاج حالة شاذَّة من النشوز؛ لمنع الاعتداء المباشرأو التصرُّف المُضِر بالبيت والأولاد مثلًا، كما في حالة الغضب الشديد، والذي يتطلب تدخُّلًا سريعًا ولا يحتمل الانتظار، وليس كما يُظنُّ أنه حقٌّ للزوج في كلِّ حالة خلاف، فالخلاف لا يُحلُّ بالضرب إطلاقًا، وإنما بالحلم والعقل والموعظة الحسنة، ثُمَّ الهجران المؤقَّت لاستثارة العاطفة المحرّكة لإعادة الصلة.
ويجدر التنبُّه هنا أن هذه الوسائل إنما تكون مشروعة في حالة النشوز، وهو خروج المرأة عن الطريق السوي الخروجَ البيِّن، أما الخلاف في وجهات النظر، أو الخلاف في تقدير الحقوق والواجبات، فليس للرجل أن يكون هو الخصم والحكم؛ ولذلك جاء قوله سبحانه:
﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ﴾.
صلة الرحم والإحسان إلى الآخرين:
بعد العلاقات الزوجيّة جاء الحديث عن العلاقات الاجتماعيَّة الأخرى
﴿وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰا وَبِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡجَارِ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۗ﴾ والإحسان هو الاسم الجامع لأنواع البر وأعمال الخير مع الإتقان والاستقامة حتى يؤتي ثماره الطيِّبة في بناء الثقة والمحبَّة بين كلِّ أفراد المجتمع.
بناء الفرد الصالح:
وفي ثنايا هذه التوجيهات الاجتماعيَّة تأتي التوجيهات الربَّانيَّة لبناء الفرد الصالح القادر على المحافظة على تلك العلاقات، ومن هذه التوجيهات:
أولًا: توثيق الصلة بالله
﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ﴾،
﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا﴾،
﴿وَمَاذَا عَلَیۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ﴾ وهذا تأكيدٌ أن الصلة الوثيقة بالله تنتج صلةً طيّبةً بالخلق.
ثانيًا: ترسيخ القيم الأخلاقيَّة
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالࣰا فَخُورًا﴾، والمُلاحَظ هنا أن هذا التوجيه جاء مباشرةً عقب الحديث عن حقوق الوالدين والقربى واليتامى والجار ونحوها من الحقوق الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، وكأنه يقول: إن الخيلاء والفخر والتكبر هي التي تؤدِّي إلى التقاطع والتدابر.
ثالثًا: سلامة العقل
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ فالحكمة من تحريم الخمر إنما كانت لتحصيل المعرفة والعلم بما يقرأ ويسمع من الآيات.
وقد كان هذا
التحريم مقدِّمةً للتحريم العام للخمر وكلِّ ما من شأنه أن يَذهب بالعقل؛ لأن ذهاب العقل ولو مؤقَّتًا من شأنه أن يورث العداوة
﴿إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ﴾ [المائدة: 91].
رابعًا: نظافة الجسد
﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ﴾ وهذا التشديد في النظافة حتى مع عدم وجود الماء هو لبيان أهميّة هذه القيمة، وقد جاء ذكرها بعد آيات التواصل الاجتماعي إشارة إلى أهميّة النظافة في بناء هذا التواصل، والله أعلم.