﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُواْ﴾ ربط بين الإيمان والعمل مع تقديم الإيمان؛ لأنّه الأصل، وما العمل إلا ثمرة منه، وفيه التوجيه بأهميّة الاستقامة، فهذه قيمة ومعيار من معايير الصلاح.
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُو﴾ ليس في الآية تحديدٌ لوقت هذا التنزُّل وهذا التبشير، لكنّه من الواضح أنّه قبل دخولهم الجنَّة، فيحتمل أن يكون ذلك عند الموت، ويحتمل أن يكون عند البعث، ولا مانع من الجمع بينهما.
وفي نزول الملائكة معنًى مضاف من التكريم لهؤلاء المؤمنين المستقيمين؛ حيث تتنزل ملائكة الرحمن من أجلهم لتُبشِّرهم وتُهدِّئ من روعهم.
﴿نَحۡنُ أَوۡلِیَاۤؤُكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡأَخِرَةِۖ﴾ فالملائكة لا نؤمن بهم إيمانًا غيبيًّا مُجرَّدًا، بل هم أحبابنا الذين نودّهم ويودّوننا، ولا شكَّ أنَّ استشعار المسلم لهذا المعنى الجميل يغرس فيه روح الثقة والأمل الواسع، والشعور بالأُنس والطمأنينة.
﴿نُزُلࣰا مِّنۡ غَفُورࣲ رَّحِیمࣲ﴾ أصل النُّزُل: ما يُقدَّمُ للضيف إكرامًا له.
﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلࣰا مِّمَّن دَعَاۤ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا وَقَالَ إِنَّنِی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾ ثلاث صفاتٍ لهؤلاء الصفوة: دعوةٌ إلى الهُدى والخيرِ، وعملٌ نافعٌ صالحٌ، وانتماءٌ لهذه الأُمَّة؛ أُمَّة التوحيد والقرآن.
﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ أي: ادفع السيئة بما هو أحسن منها، وهو بمعنى الإحسان إلى المسيء، وهذا أصلٌ أخلاقيٌّ عظيمٌ لا يقوى عليه إلا الصفوة من عباد الله.
﴿فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥ عَدَ ٰوَةࣱ كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیمࣱ﴾ تأكيدٌ لتأثير الأخلاق حتى في مواقف الأعداء؛ فالخصم الذي يرى منك الحلم والعفو والإحسان سيُغيِّرُ موقفه منك، هذا منطق الفطرة، فمن ردَّ الإحسان بالإساءة فقد انتكست فطرته، وخرج عن طبيعة الآدميين.
﴿وَمَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُواْ وَمَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ﴾ أي: تلك الخصلة العظيمة لا يتحلَّى بها، ولا يسعى إليها إلا المُصابِر المُثابِر صاحب المنزلة الرفيعة، والشأن العظيم.
﴿وَإِمَّا یَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ نَزۡغࣱ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱلـلَّــهِۖ﴾ أي: إن أصابك وسواسٌ من الشيطان؛ من تشكيكٍ بالحقِّ، أو تزيينٍ للباطل فاحْتَمِ بالله، واطلُب المَدَدَ والعَونَ منه.
﴿وَهُمۡ لَا یَسۡـَٔمُونَ ۩﴾ أي: لا يمَلُّون.
﴿تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَـٰشِعَةࣰ﴾ ساكنة يابسة لا نبات فيها ولا حركة.
﴿فَإِذَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهَا ٱلۡمَاۤءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ﴾ أي: اهتزَّتْ بحركة الماء فيها، ونمَتْ بالنبات الخارج منها.
﴿إِنَّ ٱلَّذِیۤ أَحۡیَاهَا لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۤۚ﴾ تشبيهٌ حسِّيٌّ؛ فإحياءُ البذرة الكامنة في التربة بعد سُكونٍ طويلٍ يُقرِّبُ إلى العقل صورةَ إحياء الناس بعد أن يسكُنُوا طويلًا في تربة الأرض.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا لَا یَخۡفَوۡنَ عَلَیۡنَاۤۗ﴾ الإلحاد هنا معناه: الإعراض عن آيات الله الكونيَّة، وعن آياته القرآنيَّة، فلا يتدبَّرون هذه، ولا يُفكِّرُون في تلك، حتى قادَهم هذا الإعراضُ إلى الكفر، فهؤلاء يتوعَّدهم الله هذا الوعيد:
﴿لَا یَخۡفَوۡنَ عَلَیۡنَاۤۗ﴾ ثم أكَّد مضمون هذا الوعيد بقوله:
﴿أَفَمَن یُلۡقَىٰ فِی ٱلنَّارِ خَیۡرٌ أَم مَّن یَأۡتِیۤ ءَامِنࣰا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ﴾ وبلغ الوعيد مداه بقوله:
﴿ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ﴾ وهذه التأكيدات تدفعُ العاقل ليُعيد النظر في موقفه، وتُنبِّهُ الغافل ليستيقظ من غفلته.
﴿لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ ۖ﴾ أي: ليس فيه ثغرة في أيِّ جانبٍ من جوانبه، أو حُكمٍ من أحكامه تحتمل الشكّ، أو تلتَبِس بالباطل.
﴿مَّا یُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدۡ قِیلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبۡلِكَۚ﴾ هذا الإخبار فيه تسليةٌ لرسول الله
ﷺ وهو يواجه كلَّ هذا الصدود والإعراض، وفيه تأكيد العمق التاريخي لهذا الصراع بين جبهة الحقِّ وجبهة الباطل.
﴿وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِیࣰّا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥۤ ۖ﴾ أي: لقال المشركون مُعترضين: هلَّا بُيِّنَت آياته بالعربيّة لنفهَمَها.
﴿ءَا۬عۡجَمِیࣱّ وَعَرَبِیࣱّۗ﴾ هذا القول من تتِمَّةِ اعتراضهم، يقولون: كيف يكون الكتابُ أعجمِيًّا، والمُخاطَبُ به عربيًّا؟
﴿وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣱ وَهُوَ عَلَیۡهِمۡ عَمًىۚ﴾ بمعنى أنّ هؤلاء المشركين لا ينتفعون بهذا القرآن الذي نزل بلُغتهم، ليس لغموضه وإبهامه فقد جاء مفصَّلًا مبينًا، ولكنَّه الوَقْر الذي سدَّ آذانَهم، والعَمَى الذي غَشَى عيونَهم.
﴿وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۚ﴾ أي: لولا الأجل المُسمَّى الذي حدَّدَه الله لهم لقَضَى عليهم بالهلاك، ولكنَّه يُمهِلُهم حتى انتهاء أجَلِهم.
﴿۞ إِلَیۡهِ یُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِۚ﴾ فلا يعلم الساعةَ إلَّا الله.
﴿وَمَا تَخۡرُجُ مِن ثَمَرَ ٰتࣲ مِّنۡ أَكۡمَامِهَا﴾ أي: كلُّ ثمرةٍ تخرج من غشائها المحيط بها فالله أعلم بها.
﴿وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ﴾ وهنا تشبيهٌ لطيفٌ بين الطفل الذي يكون في بطن أُمِّه ثم يخرج إلى هذه الحياة، وبين الثمرة التي تستتر في غشائها وهي في شجرتها حتى تنضج فتخرج، وفي التشبيه إشارةٌ إلى وحدة هذا النظام الكوني البديع الذي يشهدُ بوحدانيَّة الخالق سبحانه.
﴿وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِی قَالُوۤاْ ءَاذَنَّـٰكَ مَا مِنَّا مِن شَهِیدࣲ﴾ هذا سؤالٌ من الله يوبِّخ به هؤلاء المشركين، فيُجيبونه بالندم والحسرة أنّهم يعتَرِفون له بأنّه ليس فيهم شاهدٌ يشهَد اليوم بأن لله شريكًا.
﴿مَا لَهُم مِّن مَّحِیصࣲ﴾ ما لهم من مَهرَب.
﴿لَّا یَسۡـَٔمُ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِن دُعَاۤءِ ٱلۡخَیۡرِ﴾ أي: لا يمَلُّ من طلَبِ الرزق.
﴿وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَیَـُٔوسࣱ قَنُوطࣱ﴾ أي: وإن مسَّه الفقرُ ونحوه فهو شديدُ اليأس، شديدُ القُنُوط، وهذه طبيعةٌ بشريَّةٌ إلَّا للمؤمن الواثق بربه، المُطمئن إلى رحمته، العارف بسرِّ هذه الحياة وأنَّها تقوم أساسًا على الاختبار وليس الاستقرار، واليأس والقنوط بمعنًى متقارب.
﴿وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنَّا مِنۢ بَعۡدِ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُ لَیَقُولَنَّ هَـٰذَا لِی﴾ وهذه طبيعةٌ بشريَّةٌ أخرى، وهي بالمشركين ألصق وأليَق؛ حيث إنَّهم إذا أصابَت أحدَهم النعمة بعد الكرب والشدّة نسَبَها لنفسه، كأنّه يفخَر بقدراته ومهاراته أن حوَّل النقمة إلى نعمة، والشدّة إلى يُسر.
ثم يصِل به هذا الغرور إلى حدِّ نسيان الآخرة أو الكفر بها:
﴿وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ﴾ ثم يتمادَى أكثَر ليقول:
﴿وَلَىِٕن رُّجِعۡتُ إِلَىٰ رَبِّیۤ إِنَّ لِی عِندَهُۥ لَلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ لأنّه يرى نفسَه أهلًا لكلِّ خيرٍ، ولا يَبعُد أيضًا أن يقول هذا على سبيلِ الاستِهزاء والسُّخرية من المؤمنين.
﴿وَإِذَاۤ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاۤءٍ عَرِیضࣲ﴾ وهذه طبيعةٌ ثالثةٌ؛ فالإنسان في حال النعمة يطغى وينسى، ويعرض عن الحقِّ تكبُّرًا وغُرورًا، فإن انتَكَسَ وافتَقَرَ وأصابه الضُّرُّ أكثَرَ من الدُّعاء والسُّؤال.
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ﴾ الخطاب فيه استدراج بالحوار للمشركين، فهم لم ينظروا تمام النظر في هذا القرآن، وإنّما أعرضوا عنه استعلاءً واستكبارًا، فهو يقول لهم: ماذا لو كان هذا القرآن من عند الله؟ وهذا مُحتمل بالنسبة لهم وإن كان مُتيقَّنًا في حقيقة الأمر، والقصد من هذا الاستدراج: تشجيعهم على النظر والتفكير الجاد.
﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾ هذا وعدٌ إلهيٌّ بأنّه سبحانه سيؤيِّد هذا القرآن بالدلائل القاطعة في آفاق الكون، وفي حياة الإنسان وأسرار تكوينه، فكلَّما تقدَّم العلم وتوسَّعَت الكشوفات الكونيَّة والعلميَّة، ظهَرَت دلائل القرآن وأدلَّة صدقه.
وفي الآية أيضًا إشارة لقريش يتوعَّدهم بظهور آياته فيهم، كما حصل لهم في بدرٍ، ثُمَّ في فتح مكَّة، وآنذاك ظهر لكلِّ متشكِّكٍ فيهم أنّ هذا القرآن إنّما هو الحقُّ، فدخلوا في دين الله أفواجًا.
﴿أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ أي: عالِمٌ بما في القرآن؛ لأنّه كلامُهُ، وبما في الكون؛ لأنّه خَلقُه.
﴿أَلَاۤ إِنَّهُمۡ فِی مِرۡیَةࣲ﴾ في شكٍّ.
﴿أَلَاۤ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطُۢ﴾ إي: إنَّه سبحانه مُهيمِنٌ على هذا الكون بعلمه وقدرته، فلا يغِيبُ عنه شيءٌ، ولا يُعجِزُه شيءٌ.