﴿حمۤ﴾ تقدَّم الحديث عن الحروف المقطعة والرأي الراجح فيها أول سورة
البقرة.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ تأكيدٌ للصلة بين الوحي والعقل؛ إذ إنّ مُنزِّلَ الوحي وخالقَ العقلِ واحد، وهو الله ـ، فلو تنزَّه العقل عن أدرَان التعصُّب والهوى والتقليد لاهتدى لنور الوحي بالضرورة.
﴿وَإِنَّهُۥ فِیۤ أُمِّ ٱلۡكِتَـٰبِ لَدَیۡنَا لَعَلِیٌّ حَكِیمٌ﴾ أي: إنّ هذا القرآن موصوفٌ بالعلوِّ والحكمة في أصل الكتاب ومصدر الوحي، وهو اللوح المحفوظ، واللوح من الأمور الغيبيَّة فلا نعلم كُنهَه ولا صورتَه، لكن المعنى العام له مرتبطٌ بعِلم الله تعالى الأزلي، فيكون المعنى الإجمالي أنّ هذا القرآن عندنا وفي عِلمنا الأزلي عليٌّ حكيمٌ، والله أعلم.
﴿أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمࣰا مُّسۡرِفِینَ﴾ أفنقطع عنكم الوحيَ ونمنع نزول القرآن إعراضًا عنكم بسبب إسرافكم في التكذيب والعناد والمُكابرة، وهو سؤال قُصِدَ منه أنّ الوحي ماضٍ ولن ينقطع بسبب جهلهم وسفههم، وأنّ القرآن باقٍ في الأرض ما بقِيَ الليل والنهار.
﴿وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِیࣲّ فِی ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿٦﴾ وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن نَّبِیٍّ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ بمعنى أنَّ فعلهم هذا ليس جديدًا؛ لأنّ دوافعه موجودة من القِدَم، فالتكبُّر والغرور والحسد موجودة في طبع الإنسان، وهي كفيلةٌ بأن تجعله يُعرِض عن الحقِّ إلَّا مَن زكَّى نفسه وحمَلَها على الطريق الصحيح، وفي هذا تسليةٌ أيضًا لرسولِ الله
ﷺ.
﴿وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾ أي: مضى في القرآن ذِكرُ الأمثلة من أولئك الأقوام المُكذِّبة وما جرى لهم.
﴿ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدࣰا﴾ مُمهَّدة لمعاشكم وسكنكم واستقراركم، فلا يوجد كوكبٌ آخر - بحسب المعلوم إلى الآن - يصلُح لحياة البشر كهذا الكوكب الذي أودَعَ الله فيه كلّ مُقوِّمات الحياة.
﴿فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰاۚ﴾ أي: فأحيَينا بماء المطر الأرضَ التي كانت ميتة وخالية من النبات، وجاء بوصفِ المُذكَّر لموصوفٍ مُؤنَّث؛ للدلالة على معنى المصدرِ الذي هو أبلغُ في الوصفِ، مع أنّ تأنيثَ البلدة مجازيٌّ، يصحُّ فيه ما لا يصحُّ في التأنيث الحقيقيّ.
﴿كَذَ ٰلِكَ تُخۡرَجُونَ﴾ تشبيهٌ لبعث الناس من جديدٍ بإعادة الحياة للأرض الميتة بعد نزول المطر.
﴿وَٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَ ٰجَ كُلَّهَا﴾ أي: خلق أصنافَ الموجودات وأنواعَها، وذَكَرَها وأُنْثَاها.
﴿لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ﴾ أي: لتركبوا على وسائط النقل هذه في البَرِّ والبحر.
﴿ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ﴾ لأنّه سبحانه هو الذي خلقها ويسَّرها.
﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا﴾ أي: ذلَّلَـه وطوَّعَه لنا، ومعلومٌ أنّ قُدرة الإنسان البدنيَّة لا تَقوَى على ترويض الخيول والجمال مثلًا، لولا أنّ الله تعالى أودَعَ فيها القابليَّة على الترويض، وهذا التسخيرُ في الحقيقة إنّما هو جزءٌ يسيرٌ من ظاهرة التسخير على مستوى الكون؛ فالشمس و
القمر، والبَرُّ والبحر، والشجر والثمر، و
الأنعام، كلّها تسير بنظامٍ دقيقٍ يؤدِّي إلى خدمة هذا الإنسان، وسدِّ حاجاته الكليَّة والجزئيَّة، حتى التحسيني والتكميلي منها؛ كأدوات التزيُّن، والتطيُّب، والتفكُّه.
﴿وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِینَ﴾ أي: وما كنا قادِرين عليه لولا أنّ الله سخَّرَه وذلَّلَـه لنا.
﴿وَإِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ أي:وإنَّا إلى ربنا لراجعون.
﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ﴾ أي: وجعلوا بعض خلقه جزءًا منه - تعالى ربُّنا عن ذلك -؛ كقولهم في الملائكة أنّهم بنات الله، والولد جزءٌ من أبيه، فكأنّهم بقولهم هذا جعلوا الملائكة جُزءًا منه سبحانه.
﴿أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا یَخۡلُقُ بَنَاتࣲ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِینَ﴾ أي: كيف خصَّكم الله بالبنين واختارَ لنفسه البنات؟ وهذا تنزُّلٌ لمُستوى عقولهم، وإلا فنسبةُ البنين إليه سبحانه كنسبةِ البنات، فهو سبحانه الغني عن البنين وعن البنات، لكنّهم - وهذا من عظيم جهلهم وسفاهتهم - يكرَهُون البنات ويحتقرونهنَّ، بدلالة قوله تعالى الآتي:
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحۡمَـٰنِ مَثَلࣰا ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدࣰّا وَهُوَ كَظِیمٌ ﴿١٧﴾ أَوَمَن یُنَشَّؤُاْ فِی ٱلۡحِلۡیَةِ وَهُوَ فِی ٱلۡخِصَامِ غَیۡرُ مُبِینࣲ﴾.
فهم لا يَرَون المرأة إلا متاعًا مُبتذَلًا يُحسِن التزيُّن لهم، ولا يُحسِن البيان ولا التخاصُم والتقاتُل، ثم بعد كلِّ هذا يخُصُّون أنفسَهم بالبنين، ويخُصُّون اللهَ بالبنات، فجمَعُوا بين القُبحَين: قبح نظرتهم إلى المرأة واحتقارها، وقبح نسبة هذا المُحتَقَر عندهم إلى الله خالقهم.
﴿وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ ٱلَّذِینَ هُمۡ عِبَـٰدُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ إِنَـٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ﴾ هذا استفهامٌ إنكاريٌّ قُصِدَ منه بيانُ جَهلِهم وجُرأَتِهم على الله بغير علمٍ.
﴿سَتُكۡتَبُ شَهَـٰدَتُهُمۡ وَیُسۡـَٔلُونَ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ شديدٌ، وفيه تعظيمٌ لمسؤوليَّة الكلِمة التي رُبَّما لا يُلقِي لها صاحِبُها بالًا، ولا يُعيرُ لها شأنًا؛ فكثيرٌ من التصوُّرات الجاهلة الظالمة تتسلَّل إلى عقول البشر حتى تكون جزءًا من ثقافتهم، ثم يتحزَّبون لها ويُوالون فيها وكأنّها عقائد ثابتةٌ بالوحي، وما هي كذلك.
﴿وَقَالُواْ لَوۡ شَاۤءَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَا عَبَدۡنَـٰهُمۗ﴾ هذا نوعٌ من الاحتِجاج بالقدر، وإلقاء اللَّوم على المشيئة الإلهيَّة، وهذا هو الجهلُ بعَينه، والظلم بعَينه، فحاشَا لله أن يُجْبِرَ أحدًا على شيءٍ ثم يُعاقبه عليه، وإنّما هي مساحة الاختبار التي خصَّ الله بها هذا الإنسان ليتحرك فيها بإرادته الحرّة، ثم هو يتحمَّل مسؤوليَّة خياره وقراره؛ ولذلك نسَبَ الله هؤلاء المحتجِّين بالقدر إلى الجهل والتخرُّص
﴿مَّا لَهُم بِذَ ٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ﴾ أي: يقولون قولًا بغير علمٍ ولا بيِّنةٍ.
﴿أَمۡ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ كِتَـٰبࣰا مِّن قَبۡلِهِۦ فَهُم بِهِۦ مُسۡتَمۡسِكُونَ﴾ سؤالٌ قُصِدَ به توبيخُهم على عنادهم وإعراضهم عن القرآن الكريم، وتأكيد أنّ قولَهم في الملائكة لا يستَنِدُ إلى علمٍ، ولا إلى خبرٍ صحيحٍ.
﴿إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةࣲ﴾ على ملَّةٍ.
﴿۞ قَـٰلَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكُم بِأَهۡدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمۡ عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَكُمۡۖ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ﴾ سارَعوا في الإنكار على النذير الذي بعثه الله إليهم دون تفكيرٍ، ولا سؤالٍ، ولا حوارٍ، وهذه علامةٌ أنّ كفرهم لم يكن عن نظرٍ واستدلالٍ، بل عن كِبْرٍ وسفهٍ وعنادٍ.
﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦۤ إِنَّنِی بَرَاۤءࣱ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ﴾ أي: بريءٌ من أوثانكم وأصنامكم، وبدأ الخطاب بأبيه؛ تأكيدًا أنّ المفاصلة بين التوحيد والوثنيَّة لا تحتمل المجاملة ولو كان المقابل أبًا، فضلًا عمن دونه.
﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِیَةࣰ فِی عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ أي: جعل إبراهيم
عليه السلام كلمة التوحيد باقية في ذريَّته، بمعنى أنّه ربَّاهم عليها، ووصَّاهم بها لتبقى محفوظة فيهم جيلًا بعد جيل.
﴿بَلۡ مَتَّعۡتُ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ جَاۤءَهُمُ ٱلۡحَقُّ وَرَسُولࣱ مُّبِینࣱ﴾ يُخبر الله سبحانه أنّه أبقى هؤلاء المشركين ولم يستأصلهم رغم انحرافهم عن كلمة التوحيد، حتى يشهدوا الحقّ والرسول الخاتم الذي يُجدِّد في الناس دعوةَ جدِّه إبراهيم
عليهما السلام.