﴿وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَاۤ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ءَالِهَةࣰ یُعۡبَدُونَ﴾ أي: انظر في الرسالات السابقة، واستقرِئ أخبارها وما ورد فيها، فهل تجِد فيها ما يُثبِتُ دعوةَ هؤلاء المشركين.
﴿وَمَا نُرِیهِم مِّنۡ ءَایَةٍ إِلَّا هِیَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ﴾ أي: التي قبلها، والآية هنا: المعجزة القاهرة، وفيه أنّ هذا النوع من الطغاة لا تنفع معهم المواعظ، ولا الأدلة، ولا المعجزات، فما في نفوسهم من كبرٍ وحسدٍ كفيلٌ بأن يُعمي قلوبهم وعيونهم.
﴿وَقَالُواْ یَـٰۤأَیُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ يقولون عنه ساحر، وهم يطلبون منه أن يدعو ربّه لعله يكشِف العذاب عنهم، صحيح أنهم كانوا يُعظِّمون السحر، لكن مخاطبة النبيِّ الذي جاءهم بكلِّ تلك الآيات والمعجزات التي أبطَلَت سحرهم دليلٌ على صَلَفهم وسَفَههم.
﴿فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِذَا هُمۡ یَنكُثُونَ﴾ وهذه من أغرب الأحوال، فقد رأَوا بأمِّ أعينهم أنّ الله قد استجابَ لنبيِّه موسى ما طلَبُوه منه، فرفع عنهم العذاب الذي لم يستطع فرعون أن يُحرِّك ساكنًا فيه، ثم بعد كلّ هذا يرجِعون إلى فرعون، ويكفرون بموسى وبربِّ موسى، وكأنّهم هنا يتعامَلون مع الله كما يتفاوَضون مع ملوك الأرض بالخداع والمراوغة، وهو مظهرٌ من مظاهر السياسة في الدول التي تقوم على أساس الظلم والخُلق الفاسد.
﴿فَلَوۡلَاۤ أُلۡقِیَ عَلَیۡهِ أَسۡوِرَةࣱ مِّن ذَهَبٍ﴾ هذا مقياس الفضل عند الفراعنة، فموسى لا يستحقُّ النبوّة في نظر فرعون؛ لأنّه لا يملك الذهب، ومثل هذا قولُ المشركين عن محمد
ﷺ واقتراحهم على الله أن يختارَ رجُلًا من القريتَين عظيم.
﴿أَوۡ جَاۤءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ مُقۡتَرِنِینَ﴾ وكأنّ ما جاء به موسى من الآيات والمعجزات لا يكفي لإقناع فرعون، إنّه يريد المعجزة التي يختارها هو، أمّا المعجزة التي يختارها الله لنبيِّه فهي مرفوضةٌ في منطق فرعون ولو كانت أكبر في الإعجاز، وأظهر في الدلالة.
﴿فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ﴾ لم يُقِم لهم وزنًا؛ بل عاملهم معاملة العبيد والخَوَل والخدم.
﴿فَأَطَاعُوهُۚ﴾ مع استخفافه بهم، وهذه خصلة خطيرة في الشعوب التي تستمرِئُ القهر والإذلال.
﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ﴾ وأصلُ الفسوق: الخروج، ولعلَّ المراد هنا خروجهم عن الفطرة الإنسانيَّة، فالإنسان مفطور على حبِّ العزةِ والكرامة، ولو كان فيهما تلَفُ نفسه وماله، لكنّ هؤلاء اللاهثين خلف فُتات فرعون قد انتكست فطرتهم، وانقلبت إنسانيّتهم.
﴿فَلَمَّاۤ ءَاسَفُونَا﴾ فلما أغضبونا.
﴿فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ سَلَفࣰا﴾ أي: عبرة سابقة لكلِّ من يأتي بعدهم.
﴿وَمَثَلࣰا لِّلۡـَٔاخِرِینَ﴾ مثالًا في مصير الظالمين لكلِّ ناظرٍ ومتأملٍ.
﴿۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡیَمَ مَثَلًا﴾ على قدرة الله؛ حيث خلقه الله من غير أبٍ، كما خلق آدم من قبل بلا أبٍ ولا أمٍّ.
﴿إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ یَصِدُّونَ﴾ أي: يضِجُّون بالنكير.
﴿وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَیۡرٌ أَمۡ هُوَۚ﴾ مُقارنةٌ خاطئةٌ ومقايسةٌ ظالمةٌ؛ فاشتراك آلهتهم مع عيسى
عليه السلام في أنّ الناس اتخذوهم آلهةً لا يُسوِّغ هذا القياس، فعيسى نبيٌّ وله رسالة، وله سيرةٌ ومنهجٌ إصلاحي في هذه الأرض، وهو متبرئٌ تمامًا من هذه العقائد الفاسدة، بخلاف هذه الأصنام التي لا ترى ولا تسمع، وليس لها ما تُعبِّرُ به عن نفسها.
﴿بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ﴾ أي: شديدُو الخُصُومة.
﴿وَجَعَلۡنَـٰهُ مَثَلࣰا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ أي: جعلناه آيةً دالَّةً على قُدرة الله.
﴿وَلَوۡ نَشَاۤءُ لَجَعَلۡنَا مِنكُم مَّلَـٰۤىِٕكَةࣰ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَخۡلُفُونَ﴾ أي: لو نشاء لأهلَكناكم وجعَلنا الملائكةَ في الأرض بَدَلًا عنكم، والمقصود أنَّ الله إنّما خلَقَ الناسَ لغايةٍ أُخرى، وهي الاختبار وتمييز المُصلِح عن المُفسِد، ولو أراد سبحانه منْعَ الباطل أصلًا لما خلق آدم وذريَّتَه، ولاكتَفَى بالملائكة الذين لا يَعصُون اللهَ ما أمَرَهم ويفعَلُون ما يُؤمَرُون.
﴿وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمࣱ لِّلسَّاعَةِ﴾ اختلف المفسرون في عَود الضمير على قولَين مشهورُين:
الأول: أنّه عائِدٌ إلى عيسى
عليه السلام؛ لتقدُّم الحديث عنه، بمعنى أنّ نزولَه في آخر الزمان - وهو الثابتُ في الصِّحاح - سيكون علامةً على قُرب وقوع الساعة.
والثاني: أنّه يعودُ إلى القرآن؛ إذ هو موضوع السورة الأساس، ومعناه أنّ في القرآن أخبار الساعة وأحوالها، والترهيب منها، والترغيب بالاستعداد لها.
ويُعضِّدُ هذا تعقيب القرآن مُباشرةً:
﴿فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ﴾ ولو كان قصد به نزول ابن مريم لقال: ولا تمتَرُنَّ به؛ لأنّه إخبارٌ بمسألةٍ غيبيَّةٍ خارِجةٍ عن معهُود الناس، تستَدعِي بطبيعتها الريب والشكّ، خاصَّةً أنّها لم تُذكَر إلَّا في هذا الموضع، بخلافِ الحديث عن الساعة، فقد تكرَّر في أغلب سُور القرآن.
ثم إنّ الأَولَى في المعطوف أن يُناسِب لفظ المعطوف عليه، فقوله:
﴿وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمࣱ لِّلسَّاعَةِ﴾ أنسَب أن تُعطَف على:
﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرࣱ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ﴾ حتى لو طالَ الفصل، بخلاف عطفِها على:
﴿وَجَعَلۡنَـٰهُ مَثَلࣰا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾، والله أعلم.
﴿وَلَا یَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُۖ﴾ عن التمسُّك بهذا القرآن، وعن الاستعداد للساعة.
﴿وَلِأُبَیِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی تَخۡتَلِفُونَ فِیهِۖ﴾ الخطاب لبني إسرائيل؛ حيث اختلفوا كثيرًا في التوراة، فبعث الله تعالى إليهم عيسى بن مريم
عليه السلام ليُبيّن لهم ما اختلفوا فيه.
﴿فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَیۡنِهِمۡۖ﴾ أي: زادَ خلافُ بني إسرائيل فيما بينهم، فبعد أن كانوا مُختَلِفين في شريعة موسى وتفاصيل أخبارها وأحكامها، صاروا يختلفون في نُبُوَّة عيسى، وفي براءة أمِّه مريم.