سورة الدخان تفسير مجالس النور الآية 39

مَا خَلَقۡنَـٰهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ﴿٣٩﴾

تفسير مجالس النور سورة الدخان

المجلس الثاني والعشرون بعد المائتين: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين


الآية (38- 59)


بعد ذكر اختلاف الناس قديمًا وحديثًا في هذا الوحي ورسالات الله المُتتابعة إلى أنبيائه، وما جرى ويجري لكلِّ فئةٍ وفرقةٍ، جاءت الآيات هذه لتختتم المشاهد كلّها بمشهدٍ واحدٍ؛ حيث يقوم الناس لربِّ العالمين فيقضي بينهم بحُكمه العادل الذي لا يظلم أحدًا، ولا ينحاز إلى أحدٍ:
أولًا: تأكيد أنّ الله ـ لم يخلق هذا الكون عبثًا، كما يتوهَّم العابثون اللاعبون ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا لَـٰعِبِینَ ﴿٣٨﴾ مَا خَلَقۡنَـٰهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.
ثانيًا: تأكيد أنّ يوم الفصل بين الناس والحُكم عليهم بما يستحقُّه كلُّ فريقٍ منهم آتٍ لا محالة ﴿إِنَّ یَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ مِیقَـٰتُهُمۡ أَجۡمَعِینَ ﴿٤٠﴾ یَوۡمَ لَا یُغۡنِی مَوۡلًى عَن مَّوۡلࣰى شَیۡـࣰٔا وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ ﴿٤١﴾ إِلَّا مَن رَّحِمَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾.
ثالثًا: بيان عاقبة هؤلاء الظالمين الآثمين ﴿إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ﴿٤٣﴾ طَعَامُ ٱلۡأَثِیمِ ﴿٤٤﴾ كَٱلۡمُهۡلِ یَغۡلِی فِی ٱلۡبُطُونِ ﴿٤٥﴾ كَغَلۡیِ ٱلۡحَمِیمِ ﴿٤٦﴾ خُذُوهُ فَٱعۡتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٤٧﴾ ثُمَّ صُبُّواْ فَوۡقَ رَأۡسِهِۦ مِنۡ عَذَابِ ٱلۡحَمِیمِ ﴿٤٨﴾ ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡكَرِیمُ ﴿٤٩﴾ إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمۡتَرُونَ﴾.
رابعًا: بيان عاقبة المؤمنين المتقين ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی مَقَامٍ أَمِینࣲ ﴿٥١﴾ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ ﴿٥٢﴾ یَلۡبَسُونَ مِن سُندُسࣲ وَإِسۡتَبۡرَقࣲ مُّتَقَـٰبِلِینَ ﴿٥٣﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَ وَزَوَّجۡنَـٰهُم بِحُورٍ عِینࣲ ﴿٥٤﴾ یَدۡعُونَ فِیهَا بِكُلِّ فَـٰكِهَةٍ ءَامِنِینَ ﴿٥٥﴾ لَا یَذُوقُونَ فِیهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٥٦﴾ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكَۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾.
خامسًا: اختتمت هذه السورة المباركة بما استهلَّت به، فعاد الحديث عن القرآن ورسالته في هذه الحياة: ﴿فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ ﴿٥٨﴾ فَٱرۡتَقِبۡ إِنَّهُم مُّرۡتَقِبُونَ﴾.


﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا لَـٰعِبِینَ﴾ فيه ردٌّ على مُنكِرِي البعث؛ إذ لو انتَهَت الدنيا عند هذا الحدِّ، يموت الظالم ويموت المظلوم دون أن يُنصف لهذا من ذاك، ويموت العالِم والعامل، والكريم وصاحب المروءة كما يموت السفهاء والمجرمون والعابثون، بلا تمييزٍ ولا ثوابٍ ولا عقابٍ، لو كانت الحياة كذلك فإنّها ستكون مسرحًا هزيلًا، ولعبًا لا قيمة له، ولا جَدوَى منه، وفيه تعريضٌ أيضًا بنهج المشركين ونمط حياتهم ﴿بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ یَلۡعَبُونَ﴾.
﴿إِنَّ یَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ مِیقَـٰتُهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ أي: إنّ يوم القضاء العادل بين هذه الخلائق كلّها هو موعِدُهم المُحدَّد الذي سيجمعهم جميعًا ولا يستثنِي منهم أحدًا.
﴿یَوۡمَ لَا یُغۡنِی مَوۡلًى عَن مَّوۡلࣰى شَیۡـࣰٔا﴾ والمَولَى هو المُناصِر مِن قريبٍ أو صديقٍ أو حليفٍ، فلا تغني كلُّ هذه الأواصر؛ لأنّ الميزان هناك إنّما هو ميزان العمل.
﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ ٱللَّهُۚ﴾ هذا استثناءٌ للمؤمنين الذين اجتمعوا وتناصَروا على حُبِّ الله وطاعته، فلا شكَّ أنّ هذه الصِّلَة تنفع يوم القيامة؛ لأنّها جزءٌ من العمل الصالح، فمحبَّةُ النبيِّ هي عملٌ صالحٌ ينال به المُحِبُّ الثوابَ من الله، والشفاعةَ من النبيِّ، وهكذا محبَّةُ الصحابة الأبرار، وأهل البيت الأطهار، وكلّ الصالحين الأخيار.
﴿إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ﴿٤٣﴾ طَعَامُ ٱلۡأَثِیمِ﴾ وهي شجرةٌ خبيثةٌ أُعِدَّت طعامًا لأهل النار، والأثيم: كثير الإثم المستوجِب للنار.
﴿كَٱلۡمُهۡلِ یَغۡلِی فِی ٱلۡبُطُونِ ﴿٤٥﴾ كَغَلۡیِ ٱلۡحَمِیمِ﴾ والمُهل يُطلَقُ على المعدن المُذاب كالقطران ونحوه، ويُطلقُ أيضًا على عكر الزيت المتبقي منه بعد تصفية الزيت منه، ومعناهما متقارب، والله أعلم.
والحميم: الماء المغلي، والمعنى أنّ ثمرة هذه الشجرة الخبيثة تتحول في بطونهم إلى ما يُشبِه القطران المغلي، والعياذ بالله.
﴿خُذُوهُ فَٱعۡتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: خذوا هذا المجرم وادفعوه إلى وسط الجحيم، والخطاب لملائكة العذاب.
﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡكَرِیمُ﴾ تقول له الملائكة ذلك على سبيل التهكُّم والازدراء، كما كان يتهكَّم بعباد الله ويزدريهم يوم أن كان مغرورًا بجاهه وماله.
﴿إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمۡتَرُونَ﴾ أي: هذا العذاب الذي تَصلَونَه اليوم هو الذي كنتم تشكُّون به وتُجادِلُون فيه.
﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی مَقَامٍ أَمِینࣲ﴾ جاءت الإشارةُ هنا إلى الأمن؛ لأنّ الصور المُتقدِّمة كانت تخلَع القلوب، فاحتاج المُتَّقون إلى ما يُطمئِنهم ويؤمِّنهم.
﴿فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ﴾ تفسيرٌ للمقام الأمين.
﴿یَلۡبَسُونَ مِن سُندُسࣲ﴾ والسندُسُ: رقيقُ الحرير.
﴿وَإِسۡتَبۡرَقࣲ﴾ غليظُ الحرير.
﴿فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكَۚ﴾ لأنّ الله يجزي بالحسنات أضعافًا، ولأنّ أصل جزائه إنّما هو تفضُّلٌ منه، فهو سبحانه لا ينتفع بأعمالنا الصالحة، كما لا تضُرُّه أعمالُنا الطالحة، لكن هكذا قضَت مشيئتُه أن يُميِّز بين المُحسِن والمُسِيء، وبين الصالح والطالح.
﴿فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: يسَّرنا تلاوةَ القرآن وفهمَه على أكمل وجهٍ، وأوضح صورةٍ، وبلُغتِك يا محمد ولُغة قومِك لعلَّهم يتفكرون فيه، ويتدبَّرون آياته، فتَستَكِين له قلوبهم، وتخضع له جوارحهم.
﴿فَٱرۡتَقِبۡ إِنَّهُم مُّرۡتَقِبُونَ﴾ إشعارٌ بجدِّيَّة الأمر، وفيه الوعدُ والبُشرى لكلِّ مؤمنٍ يرتَقِبُ لقاءَ الله، والوعيدُ الشديدُ لكلِّ غافلٍ لا يخشَى الله، ولا يرتَقِبُ إلَّا الموتَ الذي يراهُ نهايةَ الحياة.