ولمَّا بيَّن إنزال كتابه المتضمِّن للأمر والنهي؛ ذكر خلقه السماواتِ والأرض، فجمع بين الخَلْق والأمر، {ألا له الخلقُ والأمر}؛ كما قال تعالى: {الله الذي خَلَقَ سبع سماواتٍ ومن الأرض مِثْلَهُنَّ يتنزَّلُ الأمرُ بينَهُنَّ}، وكما قال تعالى: {ينزِّلُ الملائكة بالرُّوح من أمرِهِ على مَن يشاءُ من عبادِهِ أنْ أنذِروا أنَّه لا إله إلا أنا فاتَّقونِ. خلقَ السمواتِ والأرض بالحقِّ}؛ فالله تعالى هو الذي خَلَقَ المكلَّفين، وخلق مساكِنَهم، وسخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأمرهم ونهاهم، وأخبرهم أنَّ هذه الدارَ دارُ أعمال وممرٌّ للعمال، لا دار إقامة لا يرحلُ عنها أهلُها، وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرارة وموطن الخلود والدوام، وإنَّما أعمالُهم التي عملوها في هذه الدار سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملاً موفَّراً، وأقام تعالى الأدلَّة الدالَّة على تلك الدار، وأذاق العباد نموذجاً من الثواب والعقاب العاجل؛ ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب، ولهذا قال هنا: {ما خَلَقْنا السمواتِ والأرضَ وما بينهما إلاَّ بالحقِّ}؛ أي: لا عبثاً ولا سدىً، بل ليعرف العبادُ عظمة خالقهما، ويستدلُّوا على كماله، ويعلموا أنَّ الذي خلقهما على عظمهما قادرٌ على أن يعيدَ العباد بعد موتِهِم للجزاء، وأنَّ خلقهما وبقاءهما مقدرٌ إلى أجل مسمًّى. فلما أخبر بذلك، وهو أصدق القائلين، وأقام الدليل، وأنار السبيل؛ أخبر مع ذلك أنَّ طائفةً من الخلق قد أبوا إلا إعراضاً عن الحقِّ وصدوفاً عن دعوة الرسل، فقال: {والذين كفروا عمَّا أُنذروا معرضون}. وأمَّا الذين آمنوا؛ فلمَّا علموا حقيقة الحال؛ قبلوا وصايا ربِّهم، وتلقَّوْها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالانقياد والتعظيم، ففازوا بكلِّ خير، واندفع عنهم كلُّ شرٍّ.