على صِلَةٍ بالسور المُتقدِّمة، يتتابَعُ حديثُ القرآن عن القرآن في هذه السورة أيضًا؛ حيث تستهلُّ السورة بقوله تعالى:
﴿حمۤ ﴿١﴾ تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ ثم يدخل القرآن في حوار مُفصَّل مع المُكذِّبين بالقرآن، وكما يأتي:
أولًا: تأكيد أن هذا القرآن تنزيلٌ من الله العزيز الحكيم
﴿حمۤ ﴿١﴾ تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ وذكْر هاتَين الصفتَين الكريمَتَين مُشعِرٌ بتجلِّيهما في القرآن الكريم؛ ففي القرآن: العزة والحكمة، وهما صفتان متكاملتان، والإشارة أيضًا إلى أثر القرآن في الأمَّة التي تؤمن به وتربِّي أجيالها عليه أنّها ستكون أُمَّة عزيزة حكيمة.
ثانيًا: تأكيد الصلة بين آيات الله في الكتاب وآياته في الخلق، فالكتاب كتابه، والخلق خلقه، وكلاهما من مصدرٍ واحدٍ فلا يتعارضان ولا يتناقضان أبدًا
﴿مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ عَمَّاۤ أُنذِرُواْ مُعۡرِضُونَ﴾.
ثالثًا: دعوة المشركين للتفكُّر في آلهتهم المُزيَّفة التي يعبدونها عن غير دليلٍ لا من كتابٍ سابقٍ، ولا من أثارةٍ من عِلْمٍ، ولا من أثرٍ لها في هذه الحياة
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِی مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكࣱ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِۖ ٱئۡتُونِی بِكِتَـٰبࣲ مِّن قَبۡلِ هَـٰذَاۤ أَوۡ أَثَـٰرَةࣲ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ ثم تحذيرهم من أنّ هذه الأصنام لن تستجيب لهم في الدنيا، ولن تنفعهم في الآخرة
﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن یَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا یَسۡتَجِیبُ لَهُۥۤ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَاۤىِٕهِمۡ غَـٰفِلُونَ ﴿٥﴾ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَـٰفِرِینَ﴾.
رابعًا: بيان حال المُكذِّبين بالقرآن وتخبّطهم واتهامهم للنبيِّ الكريم
ﷺ بشتى النقائص، فيتهمونه بالسحر أولًا
﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُمۡ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینٌ﴾ ثم يتهمونه بالكذب والافتراء
﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ﴾،
﴿وَإِذۡ لَمۡ یَهۡتَدُواْ بِهِۦ فَسَیَقُولُونَ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ قَدِیمࣱ﴾ ثم يتهمون القرآن بالنقص والدونيَّة، ويجعلون المقياس في ذلك ما هم عليه من الاغتِرار بجاههم ومالهم
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَوۡ كَانَ خَیۡرࣰا مَّا سَبَقُونَاۤ إِلَیۡهِۚ﴾.
خامسًا: بعد ذلك يبدأ القرآن بالردِّ على تخرُّصاتهم واتهاماتهم
﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَیۡتُهُۥ فَلَا تَمۡلِكُونَ لِی مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔاۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَا تُفِیضُونَ فِیهِۚ كَفَىٰ بِهِۦ شَهِیدَۢا بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وفحوى هذا الردّ: أنّه يُخاطبهم في داخل أنفسهم، فهؤلاء يعرفون مُحمدًا
ﷺ وتاريخه فيهم، وهم الذين كانوا يُسمُّونه الصادق الأمين، ولا زالوا إلى آخر يومٍ من هجرته الشريفة يستأمِنُونَه على أموالهم، وهم كذلك يعلمون أنّ هذا القرآن ليس بسحرٍ، وأنّه لو كان كذلك فبإمكانهم أن يأتُوا بساحرٍ يُعارِضُه، بل هم أعلَمُ من غيرهم بحقيقة هذا القرآن؛ لأنّهم هم أهل الفصاحة والبيان.
سادسًا: ثم يستشهد عليهم بشهادةٍ من أهل الكتاب، مُؤكِّدًا بهذه الشهادة أن الذي يمنع قريشًا من الإيمان إنَّما هو الكِبْر والظلم
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فإنَّ ما بين القرآن الكريم والتوراة من التماثُل شاهدٌ على وحدة المصدر، وأنَّه
ﷺ ليس بِدعًا من الرسل، ولا رسالته بدعًا من الرسالات، كما سيأتي تأكيده وبيانه.
سابعًا: في معرِضِ هذا الرد أيضًا يُؤكِّد القرآن صِلةَ هذه الرسالة بالرسالات السابقة؛ فمحمد
ﷺ إنّما هو واحدٌ من هؤلاء النبيين، وليس بِدعًا منهم، بل هو شاهدٌ لهم ومُتمِّمٌ لرسالتهم
﴿قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعࣰا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَاۤ أَدۡرِی مَا یُفۡعَلُ بِی وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّ وَمَاۤ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ﴾ وفي هذا السياق يأتي التذكيرُ برسالة موسى
عليه السلام وما بينها وبين الرسالة المحمّديَّة من ترابُطٍ وتشابُهٍ
﴿وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةࣰۚ وَهَـٰذَا كِتَـٰبࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّسَانًا عَرَبِیࣰّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ﴾.