سورة الأحقاف تفسير مجالس النور الآية 31

یَـٰقَوۡمَنَاۤ أَجِیبُواْ دَاعِیَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ یَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ ﴿٣١﴾

تفسير مجالس النور سورة الأحقاف

المجلس الثامن والعشرون بعد المائتين: يا قومَنا أجيبُوا داعِيَ الله


الآية (29- 35)


بعد هذا التطواف في أجواء الدعوة المكيَّة وما تُواجِهُه من صدودٍ وإعراضٍ، والحديث عن الرسالات السابقة والأقوام الماضية، شرَعَ القرآن في خواتيم هذه السورة يفتح أفقًا آخر ومن عالم ٍآخر، عالم لا نعرف عنه إلَّا ما يرِدُنا عنه من خلال الوحي، وكما يأتي:
أولًا: يخبر الله نبيَّه أنّه أرسَلَ له وهو يقرأ القرآن في مكّة نَفَرًا من الجنِّ، فاستمعوا القرآن ووَعَوه فآمنوا به، ثم ذهبوا دُعاةً هُداةً إلى قومهم ﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ﴾.
ثانيًا: وصَف هؤلاء النفر لقومهم القرآنَ الذي سمِعُوه بأنّه كتاب هدايةٍ وعدلٍ واستقامةٍ، وأنّه الكتاب الذي أُنزِل من بعد موسى، وفي هذا إشارةٌ إلى أنّهم كانوا على علمٍ بكتاب موسى، وبالصِّلَة الوثيقة بينه وبين القرآن ﴿قَالُواْ یَـٰقَوۡمَنَاۤ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَـٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِیقࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾.
ثالثًا: تبنَّى هؤلاء النفَر الدعوة إلى هذا القرآن ترغيبًا وترهيبًا، ويظهر من حديثهم أنّهم أصحاب علمٍ وفقهٍ بطبيعة هذا الدين ﴿یَـٰقَوۡمَنَاۤ أَجِیبُواْ دَاعِیَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ یَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ ﴿٣١﴾ وَمَن لَّا یُجِبۡ دَاعِیَ ٱللَّهِ فَلَیۡسَ بِمُعۡجِزࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَیۡسَ لَهُۥ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءُۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ﴾.
رابعًا: عاد القرآن إلى مناقشة المشركين في إنكارهم للبعث بعد أن ختَمَ حديثَه عن الجنِّ بما يُثبِت أنّهم كانوا مؤمنين بالآخرة وما فيها من حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ ﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَلَمۡ یَعۡیَ بِخَلۡقِهِنَّ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰۚ بَلَىٰۤۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾ فالله الذي خلق هذا الكون العظيم ولم يُصِبه ما يصيب العاملين عادةً من تعبٍ ونصبٍ، لا شكّ أنّه قادرٌ على إعادة خلق الإنسان وبالقياس الأَولَى.
خامسًا: أكَّد القرآن أيضًا تهديده ووعيده للمشركين ﴿وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَلَیۡسَ هَـٰذَا بِٱلۡحَقِّۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾.
سادسًا: ختَمَ القرآن هذه السورة الشريفة بالوصيَّة الجامعة التي تؤكِّد صِلَةَ هذه الرسالة المُحمّديَّة بالرسالات السابقة، وحاجة الدعاة دائمًا إلى الصبر والحلم وهم يُواجِهون مثلَ هؤلاء الفاسقين عن أمر الله وعن مقتضى الفطرة ﴿فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ لَمۡ یَلۡبَثُوۤاْ إِلَّا سَاعَةࣰ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَـٰغࣱۚ فَهَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾.


﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾ أرسلناهم إليك وأنت تقرأ القرآن، والخطاب لرسول الله .
وهنا مسألةٌ؛ أنَّ الآية لا تُشيرُ إلى أنّه كان على علمٍ بهم، ولا أنّه كان يقرَأ ليُسمِعهم.
قال ابن كثير عن الحسن البصري: (إنَّه عليه السلام ما شعَرَ بأمرهم حتى أنزَلَ الله عليه بخَبَرهم).
والوقوف في هذه الأخبار الغيبيَّة على مورد النص أسلَم وأحكَم؛ إذ لا تعلُّق لها بأعمال المُكلَّفين سوى وجوب تصديقها، وأخذ العبرة العامة منها، أمَّا ما يتناقَلُه الناس عن أخبار الجنِّ وأحوالهم وقُدراتهم وتأثيراتهم، فغالِبُه من القصص التي يروِيها الدجَّالون والمُشعوِذُون وبعض الرُّقاة بلا نصٍّ ولا دليلٍ، وهذه كلُّها لا تُعَدُّ من الدين حتى لو صحَّت بنفسها، فليس كلّ خبرٍ صحيحٍ دينًا، مع أنَّ إثبات صحَّتها دونه خَرطُ القَتاد، أمّا امتِحانُ الناس بها فهذا من أبطَلِ الباطل، فكيف يُمتَحُن دين الناس بشيءٍ ليس من دينهم؟
﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْۖ﴾ وهذه إشارةٌ إلى أدب المُتعلِّم.
﴿فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ﴾ وهذا واجب المُتعلِّم بعد أن يقضي تعلُّمَه أن ينطلق لنَفْع مَن حوله؛ فكِتمان العلم لا يجوز، وفيه منعٌ للخير عمّن هو بحاجة إليه.
﴿إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَـٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ﴾ أي: من بعد كتاب موسى، وهو التوراة، وذَكَرَ موسى ولم يذكر داود وعيسى عليهم السلام؛ لأنَّ التوراة هي الكتاب الشامل الذي فيه تفصيلُ كلّ شيءٍ، بخلاف الزبور والإنجيل فإنّهما مُتمِّمَان للتوراة، هذا بحسب ما نعلَمُه نحن البشر، أمّا بالنسبة للجنِّ فلا ندري أكانوا على علمٍ بالزبور والإنجيل أم لا، فهذا من الغيب الذي لا يصِحُّ القولُ فيه بلا دليلٍ.
﴿مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ﴾ أي: القرآن جاء مُصدِّقًا لما في التوراة.
﴿یَـٰقَوۡمَنَاۤ أَجِیبُواْ دَاعِیَ ٱللَّهِ﴾ أي: أجِيبُوا دعوةَ محمَّدٍ وادخلوا في دينه.
﴿وَیُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ﴾ أي: يحمِيكم ويمنع العذاب عنكم.
﴿فَلَیۡسَ بِمُعۡجِزࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ أي: لا ينجو من عذاب الله، ولن يجد له مفرًّا في الأرض.
﴿وَلَمۡ یَعۡیَ بِخَلۡقِهِنَّ﴾ أي: لم يُصِبْه ـ ما يُصيب العامل في ما هو دون ذلك الأمر من تعبٍ ونصبٍ وكلفةٍ في التهيئة والإعداد.
﴿وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَلَیۡسَ هَـٰذَا بِٱلۡحَقِّۖ﴾ أي: يُقال لهم حينما يرَون النار: أليس هذا بالحقِّ؟ وهو سؤالٌ قُصِدَ به اللَّومُ والتوبيخُ.
﴿فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ﴾ أي: اصبِر على طريق الدعوة كما صبَرَ هؤلاء الصفوة من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم خُتِمُوا بمحمدٍ عليه وعليهم الصلاة والسلام.
﴿وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ﴾ العذاب وحلول العقوبة فيهم.
﴿كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ لَمۡ یَلۡبَثُوۤاْ إِلَّا سَاعَةࣰ مِّن نَّهَارِۭۚ﴾ بمعنى أنّ هذه الدنيا قصيرة مهما طالَت، وفي ذلك اليوم سينظر إليها هؤلاء الأشقياء كأنّها لم تكن بِطُولها سوى ساعة من نهار، ونسبية الزمن مسألة علميَّة معروفة، والدنيا بحسابها الدقيق أمام الآخرة لا تُساوي شيئًا؛ لأنّ نسبة المحدود إلى غير المحدود لا يمكن قياسها، وتبدو ضئيلة جدًّا ولا قيمة لها.
﴿فَهَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ أي: لا يستحِقُّ الهلاك في الآخرة إلَّا القوم الفاسِقُون.