سورة محمد تفسير مجالس النور الآية 1

ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة محمد

المجلس التاسع والعشرون بعد المائتين: إن تنصُروا اللهَ ينصُركم


الآية (1- 15)


سورةُ مُحمّدٍ هي سورةُ القتال، نزلت لبيان فقه القتال، ووضع أُسُس التربية الجهاديَّة، والتمايز بين المُعسكرَين المُتقابلَين؛ معسكر الحقّ، ومعسكر الباطل، إننا هنا نقرأ ونتدبّر أحكامًا وتوجيهات عسكريَّة، فلا ينبغي الخلط بينها وبين الأحكام والتوجيهات الواردة في دائرة الدعوة والعلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة بيننا وبين الآخرين، فلكلِّ مقامٍ مقالٍ، ولكلِّ مجالٍ فقهه وقيمه وأحكامه:
أولًا: تستهلُّ السورة بتأكيد التمايُز بين معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر، أو معسكر الحقِّ، ومعسكر الباطل ﴿ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿١﴾ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدࣲ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡ كَفَّرَ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَأَصۡلَحَ بَالَهُمۡ ﴿٢﴾ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدࣲ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡ كَفَّرَ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَأَصۡلَحَ بَالَهُمۡ﴾.
ويلحظ هنا أنّه لم يذكر الكفر مُجرَّدًا، بل قرَنَه بجريمة الصدِّ عن سبيل الله، وهو واقع المشركين في مكَّة، الذين عذَّبوا المؤمنين أشدّ العذاب، وأكرَهوهم على ترك مكّة، وألَّبُوا عليهم قبائل العرب وقبائل اليهود.
ثانيًا: يأمر القرآن الجنديَّ المسلمَ إذا حضر الميدان - ميدان المعركة - بالحزم والعزم، وأن يُبادر إلى قتل عدوِّه، وألَّا يمنحه فرصة للنَّيل منه، أو الإفلات منه ﴿فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ﴾.
ثالثًا: يبيِّن القرآن طريقة التعامل مع أسرى العدوّ ﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَاۤءً﴾ والمنُّ: أن يُطلقَ الإمام سراحهم من دون مقابل، والفداء: أن يكون ذلك بمقابل كمُبادلة الأسرى، وإبرام صفقات الصلح، أو بالفداء المادّيِّ، والدولة تنظر هنا في الصالح العام، وليست مخيَّرة بإطلاق.
رابعًا: يؤكِّد القرآن هنا أنّ هذه المواجهة بين المعسكرين هي جزءٌ من سنّة الاختبار الحاكمة في هذه الحياة، كما قال في سورة الملك: ﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ﴾ [الملك: 2]، فالله يبتلي بالغنى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، ومِن هذا: ابتِلاء المؤمنين بالكافرين والظالمين ﴿وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ﴾ فالله تعالى قادرٌ على أن يُهلِك عدوَّنا من غير قتال، لكن هذا يُنافي الحكمة من الابتلاء الذي هو مقصد الخلق.
خامسًا: يخصُّ القرآن الشهداءَ بمكانةٍ خاصَّة، ويَعِدُهُم بالجنّة التي هيّأها وطيّبها لهم ﴿وَٱلَّذِینَ قُتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿٤﴾ سَیَهۡدِیهِمۡ وَیُصۡلِحُ بَالَهُمۡ ﴿٥﴾ وَیُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ﴾.
سادسًا: يَعِدُ الله المؤمنين بالنصر وتثبيت الأقدام، كما يتوعَّد الكافرين بالضياع والتعاسة والهلاك ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ﴿٧﴾ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فَتَعۡسࣰا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿٨﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ كَرِهُواْ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿٩﴾ ۞ أَفَلَمۡ یَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡۖ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ أَمۡثَـٰلُهَا ﴿١٠﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ﴾ ﴿وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ هِیَ أَشَدُّ قُوَّةࣰ مِّن قَرۡیَتِكَ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡ فَلَا نَاصِرَ لَهُمۡ ﴿١٣﴾ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّهِۦ كَمَن زُیِّنَ لَهُۥ سُوۤءُ عَمَلِهِۦ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهۡوَاۤءَهُم﴾.
وهنا لا بُدّ من وقفة؛ فهذا الوعد الإلهي بنصر المؤمنين ينبغي أن يُفهم في سياق السورة، وفي سياق السُّنن الإلهيَّة التي تحكم هذا الكون؛ فالسورة تتحدَّث عن مُنازلةٍ قائمةٍ بين مُعسكَرَين مُستعِدَّين للقتال ﴿فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾.
أمّا حينما يكون الباطل قد أخذ استعداداته في التدريب والتجهيز، والتمويل وصناعة السلاح، ونحن في حالة سُباتٍ، ثم ننهض فجأة وندعو للجهاد دون مُقدِّماتٍ ولا استعدادات، ثم نحتَجّ بهذه الآية على وعدِ الله لنا بالنصر الأكيد، فهذا احتجاجٌ في غير محلّه، ولو كان الأمر كذلك لما ترَكَ المسلمون مكَّة وفيها بيت الله الحرام وتجنَّبُوا المواجهة، بل وحتى حينما صار للمسلمين جيشٌ في المدينة لكنّه كان غير مُتكافئٍ مع جيش المشركين في معركة الأحزاب، حفَرَ النبيُّ الخندق وتجنَّبَ المواجهة، والقرآن يذكُر لنا مثلًا في سورة البروج؛ حيث أُحرِقَت ثلَّة مؤمنة على يد الكافرين المعتدين ولم يتدخَّل القَدَر الإلهي لنُصرتهم.
والخلاصة: أنّ المسلمين إذا كان لهم جيشٌ مُجهَّزٌ ومُدرّبٌ، وكانوا على مستوى عالٍ من الإيمان والتوكُّل على الله، وقرّروا المواجهة عن عِلمٍ ووعيٍ وكفاءةٍ، فإنّ الله ناصرهم لا محالة؛ هذا هو وعدُ الله، وهذا هو الواقع في غالِبِ معارك المسلمين وفتوحاتهم الكبرى، والله أعلم.
سابعًا: يَعِدُ الله المؤمنين بالجنّة والنعيم الخالد، كما يتوعَّد الكافرين بالنار والعذاب الدائم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُدۡخِلُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یَتَمَتَّعُونَ وَیَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوࣰى لَّهُمۡ﴾، ﴿مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِیهَاۤ أَنۡهَـٰرࣱ مِّن مَّاۤءٍ غَیۡرِ ءَاسِنࣲ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّن لَّبَنࣲ لَّمۡ یَتَغَیَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ خَمۡرࣲ لَّذَّةࣲ لِّلشَّـٰرِبِینَ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ عَسَلࣲ مُّصَفࣰّىۖ وَلَهُمۡ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَـٰلِدࣱ فِی ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَاۤءً حَمِیمࣰا فَقَطَّعَ أَمۡعَاۤءَهُمۡ﴾.
ولا شكّ أنّ هذا التوسّع في تفصيل نعيم الجنة وتفصيل عذاب النار يأتي في سياق الإعداد الإيماني للمواجهة؛ ففيه الترغيب الذي يصنع الشوقَ للشهادة والرغبة في القتال، وفيه الترهيب الذي يُزلزل قلوب الأعداء، ويحمِي الصفَّ المؤمنَ من أسباب الضعف والتخاذل.


﴿ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ﴾ فالحديث عن فئةٍ من الكافرين، وليس عامًّا في كلِّ الكافرين، هؤلاء هم الذين حاربوا الإسلام وصدُّوا عن سبيل الله.
﴿أَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ﴾ أبطَلَها ولم يُقِم لها وزنًا.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمۡثَـٰلَهُمۡ﴾ أي: يُبيِّن للناس أحوالَهم.
﴿فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ أي: قابَلتُمُوهم في ساحات القتال، فهذه لها أحكامُها الخاصَّة، بخلاف اللُّقيَا في أي مكانٍ آخر.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ﴾ أي: أكثَرتم فيهم القتل.
﴿فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ﴾ شُدُّوا وَثاقَهم وخذوهم أسرى.
﴿حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ﴾ أي: حتى تتوقَّف الحرب، ويضع الناس أسلحتهم وأُهبتهم.
﴿فَإِمَّا مَنَّۢا﴾ أي: تمُنُّوا عليهم بإطلاقهم من غير فداءٍ.
﴿وَإِمَّا فِدَاۤءً﴾ أي: تُطلِقُوهم مُقابل فداء، والفداء له صور كثيرة: كإطلاق أسرانا، أو دفع فديةٍ ماديةٍ، أو عقد صلحٍ لصالح المسلمين، وكلّ هذا إنّما يُؤخذ بالشورى، وتقدير الأصلح والأوفق.
﴿لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ﴾ لأهَلَكَهُم بلا قتال.
﴿سَیَهۡدِیهِمۡ وَیُصۡلِحُ بَالَهُمۡ﴾ أي: يهدِيهم إلى الجنَّة، ويُصلِحُ حالَهم بعد حياة الكَدِّ والكَدحِ والجهاد.
﴿وَیُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ﴾ أي: وصَفَها لهم في الدنيا فشوَّقَهم إليها، وطيَّبَها لهم في الآخرة، وأعدَّها لاستقبالهم.
﴿فَتَعۡسࣰا لَّهُمۡ﴾ والتعسُ يأتي بمعانٍ متقاربةٍ؛ كالخيبة، والسقوط، والشقاء.
﴿دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡۖ﴾ أي: دمَّرَهم الله، وعدَّاه بالحرف (على) بمعنى أنّ التدمير قد غشِيَهم وتمكَّن منهم.
﴿وَلِلۡكَـٰفِرِینَ أَمۡثَـٰلُهَا﴾ أي: أمثال هذه العاقبة المُدمّرة، وهذا تهديدٌ ظاهرٌ لكُفَّار مكّة ولكلِّ من يُشابههم في عداوته للمؤمنين، وصدّه عن سبيل الله.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ مُؤيدهم وناصرهم.
﴿وَأَنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ﴾ لأنّهم إنّما يعبدون الأصنام، والأصنام عاجزةٌ وغيرُ قادرةٍ على نصرهم.
﴿وَٱلنَّارُ مَثۡوࣰى لَّهُمۡ﴾ مقرٌّ لهم.
﴿كَمَن زُیِّنَ لَهُۥ سُوۤءُ عَمَلِهِۦ﴾ هذا من أخطر أنواع الضلال أن يرى المنكر معروفًا، والرذيلة فضيلة، فهؤلاء لا يتوبون ولا يشعرون بالحاجة إلى التوبة.
﴿مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ﴾ أي: صِفتها.
﴿مَّاۤءٍ غَیۡرِ ءَاسِنࣲ﴾ أي: غير مُتغيِّر الطعم أو اللون أو الرائحة بطول مُكثٍ ونحوه.
﴿وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّن لَّبَنࣲ لَّمۡ یَتَغَیَّرۡ طَعۡمُهُۥ﴾ لأنّ المعهُود في لبن الدنيا أنّه سريع التغيُّر.
﴿وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ خَمۡرࣲ لَّذَّةࣲ لِّلشَّـٰرِبِینَ﴾ بطعمها ورائحتها، بخلاف المعروف من خمر الدنيا أنّه كريه الطعم، كريه الرائحة.
﴿وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ عَسَلࣲ مُّصَفࣰّىۖ﴾ فلا شمع ولا شوائب فيه.
﴿مَاۤءً حَمِیمࣰا﴾ حارًّا شديد الحرارة.
﴿فَقَطَّعَ أَمۡعَاۤءَهُمۡ﴾ من شدَّة حرِّه.