﴿مَاذَا قَالَ ءَانِفًاۚ﴾ أي: ماذا قال الآن أو في الوقت القريب.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ بما اكتسبوا، ونسبته إلى الله تعالى؛ لأنّه جارٍ على سُننه سبحانه في أنَّ مَن طلب الهداية اهتدى، ومن طلب الضلالة ضلَّ.
﴿بَغۡتَةࣰۖ﴾ فجأة.
﴿فَقَدۡ جَاۤءَ أَشۡرَاطُهَاۚ﴾ أي: وقعت بعض علاماتها وأماراتها، ومن ذلك ختم النبوَّة وانقطاع الوحي به، ولا يبعُد أيضًا أن يكون جاء هنا بمعنى: يجيء، لكن على معنى التحقُّق كأنّه قد جاء بالفعل، كقوله تعالى:
﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ﴾ [الزمر: 73]، والله أعلم.
﴿فَأَنَّىٰ لَهُمۡ إِذَا جَاۤءَتۡهُمۡ ذِكۡرَىٰهُمۡ﴾ أي: فأنَّى لهم ذِكراهم إذا جاءتهم الساعة، كما قال تعالى:
﴿أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكۡرَىٰ﴾ [الدخان: 13] .
﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ الأمر بالعلم هنا يقصد به: تجديد العلم بتجديد ذِكره والمداومة عليه.
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ﴾ أي: يعلم أحوالكم المختلفة في الدنيا، ويعلم مستقركم في الآخرة.
﴿وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةࣱۖ﴾ اكتفى بذِكر الموصوف وحذف الصفة؛ لدلالة ما بعدها عليها، أي: سورة تُشرِّعُ للمؤمنين القتال إذ كانت قريش تعتدي عليهم وتسلُبُ أموالهم منهم وهم ممنوعون من الردِّ.
﴿فَإِذَاۤ أُنزِلَتۡ سُورَةࣱ مُّحۡكَمَةࣱ وَذُكِرَ فِیهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِیِّ عَلَیۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ﴾ هذا وصفٌ لحال المنافقين فور سماعهم لآيات القتال، أنّهم يبهتون وتبقى أعينهم شاخصة مُتحيِّرة في كيفيَّة مواجهة الأمر، وقلوبهم وجِلَة مُضطربة وكارِهة لهذا الأمر، كمَن نزَلَ به الموت وهو له كارِهٌ؛ لأنّهم ليس عندهم قضيَّة يُقاتِلون من أجلها، كما أنّ بينَهم وبين جبَهَات العدو صِلاتٍ ووشائج.
﴿فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ﴾ كلمةُ تهديدٍ، كما في قوله تعالى:
﴿أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ﴾ [القيامة: 34]، ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره صدر الآية التالية:
﴿فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ ﴿٢٠﴾ طَاعَةࣱ وَقَوۡلࣱ مَّعۡرُوفࣱۚ﴾ بمعنى أنّ الطاعة وقول المعروف خيرٌ لهم، وهذا المعنى مُتفقٌ عليه إمَّا بهذا الربط، أو على تقديره إذا أخذنا بالتأويل الأول.
﴿فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ﴾ أي: إذا لزم القتال ووقع.
﴿فَلَوۡ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡ﴾ أي: لو صدقوا بادّعائهم الإيمان، ووفّوا بمقتضيات هذا الإيمان من السمع والطاعة لكان خيرًا لهم.
﴿فَهَلۡ عَسَیۡتُمۡ إِن تَوَلَّیۡتُمۡ﴾ أي: فلعلَّكم - على سبيل التحذير مما يتوقَّع حدوثه - إن تركتم القتال.
﴿أَن تُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرۡحَامَكُمۡ﴾ فمُعاونة العدو الخارجي مظنَّة شيُوع الفساد والاضطراب، وتقطيع العلاقات، وإشاعة الفتنة، وقد كانت بين المنافقين وبين بعض الأنصار صِلات قَرابةٍ وجِوارٍ ورَحِمٍ، وهذه كلُّها ستتقطَّعُ في حال خِيانة هؤلاء المنافقين وافتِضاح أمرهم.
وهذا خطابٌ واقعيٌّ يصلُحُ لهذه الفِئة من الناس في كلِّ مُجتمعٍ، وفي كلِّ جيلٍ، إنّه يعمل على إقناعهم أنّ هذه الخيانة ستضرُّهم ولن يَجنُوا منها شيئًا؛ لأنّ الأمر سيستَأثِرُ به الطرفُ المُتغلِّبُ، أما المنافق البائع للمواقف فسيكون الطرفَ الأضعفَ على كلِّ الاحتمالات.
﴿فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰۤ أَبۡصَـٰرَهُمۡ﴾ بمعنى أنّهم أرادوا أن يُغلِقُوا آذانَهم وأعيُنَهم عن الحقِّ، فكان لهم ذلك، وهذه من سُنن الله الماضِية في هذه الحياة، ولو كان الله هو الذي أصَمَّهم وأعمَى أبصارَهم دون سببٍ منهم لكانوا معذُورين في ما هم عليه.
﴿أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾ أمر بتدبُّر القرآن؛ إذ القرآن كلامٌ يحمل معانيَ ودلالات، ولا جدوى معرفيّة أو عمليّة تُرتجَى مِن سماع القرآن أو حتى تلاوته من غير فهم معانيه ودلالاته، وفيه أنّ تدبُّر القرآن من أقوى أسباب الهداية.
﴿أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ﴾ أَمْ هنا بمعنى: بل، بمعنى أنَّ هؤلاء المنافقين لا يتدبّرون القرآن؛ لأنّ قلوبهم مُقفلة، وقفل القلوب إنّما يكون بأمراضها؛ كالتكبُّر، والحقد والحسد، واتباع الهوى، والشهوة، ونحو ذلك، وإضافة أقفال إلى الضمير العائد على القلوب يُوحِي بأنّ لكلِّ قلبٍ من تلك القلوب قفلُه الخاصّ به، ورُبّما أخذ أهل السلوك والتربية الإيمانيَّة من هذا المعنى قولهم أنّ لكلِّ محجوبٍ عن الله حجابه، والله أعلم.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰۤ أَدۡبَـٰرِهِم﴾ هم
المنافقون بدلالة السياق، ومعنى ارتدادهم أنّهم يُعطون العهود والمواثيق لرسول الله
ﷺ ثم ينكثون عنها، وهذا شأن المنافقين بشكلٍ عام، ولا يمنع أيضًا أن يكون بعضهم قد آمَنَ بالفعل، ثم ارتَدَّ وأخفَى رِدَّتَه، كما في سورة
المنافقون :
﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ [المنافقون : 3]، والله أعلم.
﴿ٱلشَّیۡطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ﴾ تعليلٌ لرِدَّتهم ونَكثِهم لعهودهم بأنَّ الشيطان سوَّلَ لهم، أي: زيَّنَ لهم طريق النُّكُوث والرِّدَّة، وأَملَى لهم، أي: أمَدَّهم بالأمل العريض، فأنساهم حالَهم ومآلَهم.
﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لِلَّذِینَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِیعُكُمۡ فِی بَعۡضِ ٱلۡأَمۡرِ ۖ﴾ والذين كَرِهُوا ما أنزل الله هم الكافرون الذين يصدُّون عن سبيل الله، والذين كانوا في حال صدامٍ وقتالٍ مع المؤمنين، فكان هؤلاء
المنافقون يمدّون معهم بحبلٍ، ويمدّون مع المؤمنين بحبلٍ آخر، وهذا ليس تذبذُبًا في المُعتقد، بل هو مراوغة سياسية لضمان المكاسِب مع الطرفين، والوقوف مع المُتغلِّب في النهاية، وهذا دَيدَن السياسة اليوم، إلا ما رحم ربك.
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِسۡرَارَهُمۡ﴾ أي: ما يُسرُّونه ويُخفُونه عن المسلمين.
﴿فَكَیۡفَ إِذَا تَوَفَّتۡهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ﴾ أي: فكيفَ بهم، وماذا هم صانِعون إذا توفَّتْهم الملائكة وقبَضَت أرواحَهم.
﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن یُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَـٰنَهُمۡ﴾ أي: أحَسِبَ هؤلاء
المنافقون أن لن يُظهِر الله نفاقَهم وعداوَتَهم للمؤمنين، بمعنى أنّ هذا الذي تقدَّم هو فضحٌ لهم، وقد كانوا يظُنُّون أنّ هذا لا يطَّلِع عليه غيرُهم.
﴿وَلَوۡ نَشَاۤءُ لَأَرَیۡنَـٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِیمَـٰهُمۡۚ﴾ بمعنى أنّ الله عالمٌ بهم ولا يخفى عليه شيءٌ منهم، ولو اقتَضَت حكمته أن يكشِف لنبيِّه ذواتهم لعَرَفَهم النبيُّ
ﷺ بأسمائهم وبأوصافهم، وقد كان له ذلك، بل ومن المعلوم أنّه أطلَعَ عليهم حذيفةَ بنَ اليمان ، فكان صاحِبَ سِرِّ رسول الله
ﷺ في المُنافِقِين.
﴿وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِی لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ﴾ هذا تنبيهٌ للمسلمين، ولمن يهمّه أمر معرفة هذه المجاميع أن ينتَبِه إلى طريقة هؤلاء في الحديث والمعاني التي تحمِلُها ألفاظهم، وهذا مستوًى آخر غير مستوى تحقيق العدالة القانونيَّة، فإنّ التعامل القانوني شيءٌ، وفهم كلام المقابل وأبعاده ومراميه شيءٌ آخر، وهذا له أهلُه ورجالُه، كما للقضاء أهله ورجاله، والاكتفاء بالإجراءات القضائيَّة في مثل هذه الحالات يُوقع الدولة بالطامَّات والمُفاجَآت.