سورة الفتح تفسير مجالس النور الآية 26

إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا ﴿٢٦﴾

تفسير مجالس النور سورة الفتح

المجلس الثالث والثلاثون بعد المائتين: إذ يُبايعونك تحت الشجرة


الآية (18- 29)


في الشَّطر الثاني من هذه السورة العزيزة جاء الحديث عن أولئك الصفوة الذين صنعوا الفتح بجهدهم وجهادهم المُتواصِل، والتِفافهم حول نبيِّهم وقائِدِهم ، إنهم النموذج الأمثَلُ الذي ينبغي على المؤمنين في كل جيلٍ أن يَحذُوا حَذوَهم، وأن يقتدوا بهم.
لقد عنِيَت هذه الآيات عناية خاصَّة بعرض هذا النموذج وتقديمه بصفاته وخصائصه ضمن الحركة العملية التي كان يخوضها بهذا الدين:
أولًا: أعلن القرآن أن هؤلاء الصفوة قد رضي الله عنهم، وهذا خبرٌ لا يحتمل إلا التحقُّق والصدق المطلق ﴿۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا﴾.
ثانيًا: قرَنَ القرآن بين الفتح وبين المغانم، في إشارةٍ إلى دور المال والتنمية الاقتصادية في تعزيز الفتح؛ ليُضِيف إلى هذا الفتح بُعده الثالث؛ فهو فتح سياسيٌّ عسكريٌّ اقتصاديٌّ ﴿فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا ﴿١٨﴾ وَمَغَانِمَ كَثِیرَةࣰ یَأۡخُذُونَهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیمࣰا ﴿١٩﴾ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِیرَةࣰ تَأۡخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمۡ هَـٰذِهِۦ وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ وَلِتَكُونَ ءَایَةࣰ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ وَیَهۡدِیَكُمۡ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾، وهذه المغانم كانت إحدى ثمار الحديبية؛ حيث تفرَّغ رسول الله لمقاتلة اليهود، فكانت خيبر كلها غنيمة للمسلمين، وهي غنيمة بمعنى أوسع من المعنى المتبادر للغنيمة؛ ففتح خيبر فيه توسيعٌ لرقعة الدولة المسلمة، وامتداد نفوذها في محيط الجزيرة الأوسع، والتخلُّص من آخر جيب يهوديٍّ، إضافةً إلى ما في خيبر من المزارع التي تُموِّل المسلمين بشكل مستمر، وما غَنِمَه المسلمون من مالٍ وسلاحٍ.
ثالثًا: امتَنَّ الله على المسلمين بكفِّ أيدي المشركين عنهم، ونَزع فَتِيل الاقتِتال معهم، وفي هذا دليلٌ على أن قتال المشركين ليس مطلوبًا لذاته؛ فإن تحقَّقَت الغاية بدفعهم - كما في الأحزاب -، أو بالتفاوض معهم - كما في الحديبية - فذاك أقرب لمقاصد الدعوة وأنفع للمسلمين ﴿وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾، ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ﴾.
رابعًا: أكَّد القرآن أن هذا الكفَّ لم يكن بسبب ضعف المسلمين، بل المسلمون متجهِّزون للقتال، ومتوكِّلون على الله في كل مواجهة، وهم واثِقُون بنصره؛ لأنهم أصحاب حقٍّ لا طلَّاب دنيا ﴿وَلَوۡ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَـٰرَ ثُمَّ لَا یَجِدُونَ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا ﴿٢٢﴾ سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾، ﴿مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾.
خامسًا: بيَّن القرآن سببَ كفِّ القتال في مكة، أي: قبل إبرام الصلح؛ حيث وصل الفريقان إلى حدِّ الاقتتال لولا أن الله أراد شيئًا آخر ﴿هُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡیَ مَعۡكُوفًا أَن یَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالࣱ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءࣱ مُّؤۡمِنَـٰتࣱ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِیبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲۖ لِّیُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ لَوۡ تَزَیَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا﴾.
فرِعايةُ هؤلاء المستضعفين المقيمين في مكة بين ظهرانَي قريش أن يُصابوا بأذى من المسلمين لاختلاطهم مع المشركين، وكذلك إصابتهم من قبل المشركين إن علِمُوا بإسلامهم، فهذا مقصد نصَّ عليه القرآن في هذه الآية، وفي هذا دلالةٌ على خلاف ما تقوم به بعض الجماعات المقاتلة اليوم والمتشبِّثة بشعار الدين؛ حيث لا يتورَّعون عن قتل الأبرياء أو التسبُّب في قتلهم، بحُجَّة عدم القدرة على تمييزهم عن العدو، بينما جعَلَ القرآن عدم التمييز سببًا لمنع قتال المشركين ﴿لَوۡ تَزَیَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾.
سادسًا: قارَنَ القرآن بين موقف المؤمنين في الحديبية المتَّسِم بالحكمة والهدوء، وبين موقف المشركين المتوتِّر والمشحون بالحميَّة الجاهلية، والقرآن يُشيرُ مِن خلال السياق أن هذا التمايُز له صِلَة بتحقيق النصر للمؤمنين ﴿إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا﴾ فكانت السكينة في مقابل الحميَّة، وكانت التقوَى في مقابل الجاهليَّة.
سابعًا: أجاب القرآن عن تساؤل بعض المؤمنين حول بِشارةِ النبيِّ بدخول مكة معتمرين؛ لأنّه لما كان الصلح متضمنًا لرجوع المسلمين عن عمرتهم هذه إلى العام القادم، استشكل بعض الصحابة ذلك، وأصابهم غمٌّ شديدٌ؛ إذ كانوا يظنُّون أن البِشارة النبويَّة محددة في هذا العام، بدلالة الإحرام بها من الميقات، لكن الله ـ أرادَ لهم ما هو خير ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡیَا بِٱلۡحَقِّ ۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ ءَامِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِینَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَ ٰ⁠لِكَ فَتۡحࣰا قَرِیبًا﴾.
ثامنًا: أكَّدَ القرآن وعدَ الله سبحانه بإظهار هذا الدين على الدين كله؛ فالفتح فاتحة لطريق طويل من التمكين وانتشار الدعوة المباركة في العالمين ﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدࣰا﴾.
تاسعًا: ختم القرآن هذه السورة ببيان صفات أولئك الصفوة الأخيار من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، المُتأسِّين برسولِ الله والمُتَّبِعِين له: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا﴾.
وهذه الصفات جمَعَت بين القوَّة والرحمة؛ القوة بالحق، والرحمة بالخلق، القوة على الكافرين المعتدين، والرحمة بالمؤمنين، وجمَعَت إلى ذلك كلِّه إخلاصَ العبادة لله، حتى بَدَا ذلك يُقرأ في وجوههم نورًا وحياءً، وسَمتًا حسنًا، ثم أخبر القرآن أن صفاتهم هذه قد ورَدَت في الكتب السابقة، مع إضافةِ صورةٍ جميلةٍ تدل على نموِّ هذه الفئة المباركة وثباتها ورسوخها في الأرض كما يستغلظ الزرع النامي، وأن ذلك مما يغيظ الكافرين المجرمين، ثم فتح القرآن بابَ الأمل الواسع لكل المؤمنين المتَّبِعين لنهج الأخيار هؤلاء: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا﴾.


﴿۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ وهم كل الصحابة الذين خرجوا معه في الحديبية وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكانت البَيعة على القتال بعدما أُشِيع عن قتل المشركين لرسولِ رسولِ الله ، وهو سيدنا عثمان بن عفان  والذي بعثه إلى قريش للتفاوُض معهم، وقوله تعالى عن هؤلاء الصفوة: ﴿۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ خبر لا يحتمل النسخ، وفيه ردٌّ قاطِعٌ على الذين يكرهون الصحابة ويُكفِّرونهم.
﴿فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ﴾ من الصدق واليقين.
﴿وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾ بالصلح الذي سمَّاه القرآن فتحًا مبينًا.
﴿وَأُخۡرَىٰ لَمۡ تَقۡدِرُواْ عَلَیۡهَا قَدۡ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَاۚ﴾ أي: ووَعَدَكم مغانِمَ أخرى، لا تقدِرُون عليها بما معكم من عددٍ وعُدَّةٍ، والإشارةُ هنا - والله أعلم - إلى فارس والروم، لكن الله ناصِرُكم عليهم بقدرته التي تُحيطُ بهم.
﴿وَلَوۡ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَـٰرَ﴾ مُتعلِّقٌ بقوله تعالى: ﴿وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾ بمعنى أن هؤلاء المشركين الذين كفَّ الله أيديَهم عنكم لو قاتَلُوكم لنَصَرَكم الله عليهم، وهذا تأكيدٌ أن كفَّهم إنما كان لحكمةٍ أعلى وأسمَى، وليس لضعفِ المؤمنين عن مُقاتَلَتهم.
﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ﴾ في نصر النبيِّين على أعدائهم.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم﴾ تأكيدٌ آخر لاستعداد المسلمين للقتال دفاعًا عن نبيِّهم وعن دينهم وأنفسهم، وإنما كفَّ الله الفريقَين عن الاصطِدام لحكمةٍ ظهرت آثارُها فيما بعد بفتح خيبر، ثم مكة نفسها، ثم بدخول الناس في دين الله أفواجًا.
﴿بِبَطۡنِ مَكَّةَ﴾ بأسفل مكة حيث كانت الحديبية.
﴿مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ حيث تمكَّن المسلمون في الحديبية من أَسر بعض المتهوِّرين من شباب قريش الذين اتَّفَقُوا فيما بينهم على مُباغَتة المسلمين فأمكَنَ الله منهم، ثم أمر النبيّ بإطلاق سراحهم.
﴿وَٱلۡهَدۡیَ مَعۡكُوفًا أَن یَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ﴾ أي: أنهم مَنعوا الهَديَ من وصوله إلى محلِّه في مكة وبقِيَ معكوفًا، أي: محبوسًا، والمقصود بهذا التشنيع على قريش بمنعهم المسلمين من دخول مكة وقد جاءوها مُعتمرين لا مُقاتلين.
﴿وَلَوۡلَا رِجَالࣱ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءࣱ مُّؤۡمِنَـٰتࣱ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ﴾ لأنهم مُستضعَفُون لا يجهَرُون بإسلامهم؛ ولأن في المسلمين أيضًا من أهل المدينة، وهؤلاء لا يعرفون هؤلاء المستضعفين بأسمائهم ولو كانوا قد أعلَنوا إسلامهم.
﴿أَن تَطَـُٔوهُمۡ﴾ أن تُصيبُوهم بسوء.
﴿مَّعَرَّةُۢ﴾ التَّبِعَة الثقيلةُ من إثمٍ، ولَومٍ، ودِيَةٍ.
﴿لَوۡ تَزَیَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ أي: لو خرج المؤمنون المستضعفون لسَلَّطناكم على المشركين، وفي هذا بيانٌ لحكمةٍ وفائدةٍ أخرى لصُلح الحديبية، وهي: حماية المؤمنين المُستضعَفين، وبيان حُرمة المسلم البريء ولو كان يعيشُ مع العدو.
﴿حَمِیَّةَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ﴾ الأنَفَة والكبر والتناصُر على الباطل.
﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡیَا﴾ إذ رؤيا الأنبياء وحي، وقد كان قد بشَّرَ المسلمين برؤيا رآها أنهم سيدخلون مكة آمنين معتمرين، ففرِحَ الصحابة بذلك وظنُّوه في عامهم هذا الذي وقَعَ فيه الصلح، فلما صدَّتْهم قريشٌ أصابَهم الحزن، وتساءَلُوا عن تلك الرؤيا ومعناها ووقت تحقُّقها، فجاءَت هذه الآية تُطمئِنُهم أن هذه الرؤيا حق، وأنها واقِعة لا محالة.
﴿فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَ ٰ⁠لِكَ فَتۡحࣰا قَرِیبًا﴾ أي: علِمَ الله ما فيه الخيرُ لكم، فجعَلَ قبل تحقُّق الرؤيا فتحًا قريبًا، وقد كان ذلك في الحديبية ثم في خيبر؛ حيث فتَحَها المسلمون قبل عُمرة القضاء، فعلى أيِّ الفتحَين حُمِلَت الآية كان حملًا صحيحًا، ولا يمنع أيضًا الجمع بينهما؛ لأن الثاني كان ثمرةً للأول، والله أعلم.
﴿لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦۚ﴾ ليكون له العلوّ والشرف على كل دين آخر.
﴿سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ﴾ علاماتهم الظاهرة في وجوههم؛ من السكينة، والحياء، ونور الوجه، وحُسن السَّمْت، فالسجود له أثره في نفوس الساجدين وسلوكهم، وهذا الأثر ينعكس - دون ريبٍ - في ظاهرهم.
﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ﴾ أي: ذلك الذي تقدَّم من صِفات محمدٍ وأصحابه قد جاء مُوافقًا لصِفاتهم في التوراة.
﴿وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ﴾ أي: ووصفهم في الإنجيل.
﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ﴾ أي: نَمَا وتكاثَرَ وأخرَجَ له فروعًا.
﴿فَـَٔازَرَهُۥ﴾ أي: فقَوَّاه.
﴿فَٱسْتَغْلَظَ﴾ أي: غلُظَ، والحديث عن الزرع.
﴿فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ﴾ أي: قام الزرع وكمُل واعتدل، والسُّوْق: جمع سَاق، والمقصود به هنا: أصول الزرع وأعواده التي يقوم عليها.
﴿يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ﴾ الذين زرَعُوه وتعِبُوا فيه.
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ﴾ أي: إنما قوَّاهم وكثَّرَهم ليقهَرَ بهم الكفَّار.
وقد ورَدَ عن السلف - ومنهم الإمام مالك -: أنَّ مَن أصبح وفي قلبه غَيظٌ على واحدٍ من أصحاب رسولِ الله أصابَتْه هذه الآية.