سورة الفتح تفسير مجالس النور الآية 5

لِّیُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَیُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَ ٰ⁠لِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِیمࣰا ﴿٥﴾

تفسير مجالس النور سورة الفتح

المجلس الثاني والثلاثون بعد المائتين: إنا فتَحنا لك فتحًا مُبينًا


الآية (1- 17)


سورةُ الفتح كأنّها جاءت مُتمِّمة للسورة السابقة: سورة محمد ، فهناك كان الحديث عن القتال، وهنا جاء الحديثُ عن الفتح، وهل القتال إلَّا مُقدِّمةٌ أو سببٌ من أسباب الفتح؟
صحيحٌ أنَّ الفتح الذي تتحدَّث عنه السورة هو فتحٌ سياسيٌّ جاء نتيجةً لمفاوضات الحديبيَّة، إلَّا أنَّ قبول قريش بالمفاوضات ما كان له أن يكون لولا سلسلة من المعارك والمواجهات العسكريَّة الحامية، بدءًا بمعركة بدر، وانتهاءً بالأحزاب، وحتى في الحديبية نفسها كانت المبايعة على الموت تحت الشجرة عاملًا مُساعدًا للإسراع بالحلِّ السياسي، وهكذا يكون الربط بين السورتين إنّما هو في الحقيقة ربطٌ بين وجهَين من أوجه الصراع الحتمي بين دولة الحقِّ، ودولة الباطل: وجه القوَّة العسكريَّة والاستِعداد الدائم للقتال، ووجه القوَّة السياسيَّة القادرة على قطف ثمار الجهد العسكري، فإذا انفَصَلَا كانت القوَّة عُنفًا أعمى، وخرابًا ودمارًا، وكانت السياسة استسلامًا وخنوعًا لا يلِيقَان بالناس الكرماء.
في هذه الآيات تقويم دقيق لهذا الفتح وأبعاده وآثاره، وتقويم أيضًا لواقع المجتمع المسلم بحسناته وسيئاته في تلك المرحلة المفصليَّة من تاريخ الإسلام، وكما يأتي:
أولًا: سمَّى القرآن صُلحَ الحديبية فتحًا مُبينًا ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحࣰا مُّبِینࣰا﴾، وسمَّاه نصرًا عزيزًا ﴿وَیَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِیزًا﴾ والصلحُ كان جهدًا سياسيًّا تفاوضيًّا لا قِتالَ فيه، وهذا تنبيهٌ على أهميَّة العمل السياسي، وأنّه قد يُحقِّقُ ما لا يُحقِّقُه العمل العسكري بمُفرده.
ثانيًا: نبَّه القرآن إلى أهميَّة السكينة والثقة في مثل هذه المواجهة التي تتَّسِم في العادة بقدرٍ كبيرٍ من المرونة، مما قد تخفى أهدافه وآثاره المتوقَّعة على كثيرٍ من الناس ﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾.
ثالثًا: أشادَ القرآن بموقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم في الْتِفَافهم حول رسولِ الله ومبايعتهم له ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُبَایِعُونَكَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ ٱللَّهَ یَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَیۡدِیهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا یَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَیۡهُ ٱللَّهَ فَسَیُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا ﴿١٠﴾ مُنبّهًا إلى أنّ هذا الموقف جاء نتيجةً لإيمانهم الراسخ بالله وبرسوله ﴿إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدࣰا وَمُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا ﴿٨﴾ لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا ﴿٩﴾.
رابعًا: حذَّرَ القرآن من المنافقين الذين يُروِّجون الفتن والإشاعات المخذِّلة، وربَطَ بينهم وبين المشركين لاشتِراكهم في الكفر وفي عداوة المؤمنين ﴿وَیُعَذِّبَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ وَٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ ٱلظَّاۤنِّینَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرࣰا ﴿٦﴾.
خامسًا: عرَضَ القرآنُ بشيءٍ من التفصيل حالةً لمجاميع مُختلفة من الأعراب الذين لم يترسَّخ الإيمانُ في قلوبهم، وغالِبُهم ممَّن أسلَمُوا حديثًا ولم تُتَح لهم فرصةٌ للتربية الكافية، وهؤلاء يكونون أرضًا خصبةً لتشويش المنافقين وإشاعاتهم ودعاياتهم ﴿سَیَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَاۚ یَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَیۡسَ فِی قُلُوبِهِمۡۚ قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢاۚ بَلۡ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرَۢا ﴿١١﴾ بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰۤ أَهۡلِیهِمۡ أَبَدࣰا وَزُیِّنَ ذَ ٰ⁠لِكَ فِی قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورࣰ﴾.
فهؤلاء قد تخلَّفوا عن الخروج مع رسول الله يوم الحديبية، وقد كان قد انتَدَبَهم ليرى المشركون كثرة المسلمين فيهابوهم ولا يصدُّوهم عن المسجد الحرام، وكلّ هؤلاء في أعناقهم بيعة الإسلام التي تنصُّ على السمع والطاعة، لكنهم نكَثوا.
سادسًا: ينتقد القرآن موقف هؤلاء الأعراب، ويُقارن بين تخلُّفِهم هذا عن رسول الله ، وبين حرصِهم على الخروج معه حينما يظنُّون أنّ ثمَّة غنائم ومكاسب ﴿سَیَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ یُرِیدُونَ أَن یُبَدِّلُواْ كَلَـٰمَ ٱللَّهِۚ قُل لَّن تَـتَّـبِعُونَا كَذَ ٰ⁠لِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُۖ فَسَیَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا یَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾.
سابعًا: يفتح القرآن لهؤلاء الأعراب بابًا لتجديد إيمانهم، ولإدماجهم مع الصفِّ المؤمن المجاهد، في دلالةٍ واضحةٍ أنّ هؤلاء الأعراب لم يكونوا من المنافقين وإن شابَهُوهم في بعض المواقف ﴿سَیَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ یُرِیدُونَ أَن یُبَدِّلُواْ كَلَـٰمَ ٱللَّهِۚ قُل لَّن تَـتَّـبِعُونَا كَذَ ٰ⁠لِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُۖ فَسَیَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا یَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ مُبيِّنًا من يحِقُّ لهم التخلُّفُ من أصحاب الأعذار المقبُولة ﴿لَّیۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِیضِ حَرَجࣱۗ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَمَن یَتَوَلَّ یُعَذِّبۡهُ عَذَابًا أَلِیمࣰا﴾.
ثامنًا: في ثنايا هذا الوصف والتقويم، جاء التذكيرُ المُتكرِّرُ بعقيدة الحساب والجزاء، وهي العقيدةُ الدافِعةُ لمُراجعة النفس، وحَملها على طريق التوبة والاستقامة ﴿لِّیُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَیُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَ ٰ⁠لِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِیمࣰا ﴿٥﴾ وَیُعَذِّبَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ وَٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ ٱلظَّاۤنِّینَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرࣰا﴾، ﴿وَمَن لَّمۡ یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّـاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ سَعِیرࣰا ﴿١٣﴾ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾، ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَمَن یَتَوَلَّ یُعَذِّبۡهُ عَذَابًا أَلِیمࣰا﴾.


﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحࣰا مُّبِینࣰا﴾ هو فتح الحديبية وإن لم يُصرّح به؛ إذ هو الموضوع الأساس الذي تناوَلَتْه السورة، والفتحُ أخصُّ وأعظمُ من النصر؛ إذ النصر يصدق في أدنى غلبة، والفتح لا يصدق إلا في النصر العظيم؛ كفتح مكَّة، وفتح العراق والشام ومصر.
﴿لِّیَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ فالفتح نتَجَ عن عملٍ وجهادٍ طويلٍ، والحسنة تمحو السيئة في حقِّ سائر الناس، فكيف بالنبيِّ الذي هو الأسوة لكلِّ عاملٍ، والقدوة لكلِّ مُجاهد، وهذه المغفرة بحقِّه لا تستلزم وجود الذنب منه، بل هي المقام الرفيع الذي يعني: النقاء والصفاء، وكمال العبوديَّة دون أي شائبةٍ، وفيه أيضًا أنَّ الفتح الذي يريده الله إنّما هو فتح العابدين الخاشعين المتواضعين لا فتح المتكبِّرين والمتسلِّطين.
﴿وَیَهۡدِیَكَ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾ يُثبِّتك على الصراط المستقيم، ويزيدُك من فَيض عِلمِه وهدايته.
﴿وَیَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِیزًا﴾ وصفُ هذا الفتح بالنصر العزيز، الذي هو العزَّة والسيادة على الأرض التي تَحقّقَ الاعتراف بها من قبل القوَّة الرئيسة المُهيمنة على قبائل الجزيرة، وهذا الذي يُسمَّى اليوم بالاعتراف الدولي الذي هو شرطٌ في قيام الدولة، بمعنى أنَّ الله فتح لك هذا الفتحَ لتتحقَّق هذه السيادة، ولا يمنع أنّه أراد بالنصر العزيز ما تحقَّق من انتصاراتٍ بعد الحُديبية في خيبر وغيرها، والمعاني هذه تتداخل ولا تتعارض.
﴿ٱلسَّكِینَةَ﴾ الثقة والطمأنينة.
﴿لِیَزۡدَادُوۤاْ إِیمَـٰنࣰا مَّعَ إِیمَـٰنِهِمۡۗ﴾ أي: ليزدادوا يقينًا بالله بعد تحقُّق ما وعد به رسوله من انتشار الدين وتمكينه.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ فجنوده في السماء هنا: الملائكة، وجنوده في الأرض المؤمنون من البشر، وجمع المؤمنين مع الملائكة وإضافتهم إلى الله في اسمٍ واحدٍ شرفٌ للمؤمنين ما بَعده شرف.
﴿ٱلظَّاۤنِّینَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ﴾ فالمشركون يظنُّون بالله السوءَ في أصل معتقدهم القائم على توهُّم وجود شريكٍ مع الله، وإلصاق الصفات الناقصة به سبحانه، كما مرَّ في قولهم أنّ الملائكة بنات الله، والمنافقون يظنُّون السوءَ بالله، ويقولون: إنّه لا يفِي للنبيّ بما وعَدَه به، وأنّ المسلمين لن يكسبوا من مسيرهم إلى مكَّة خيرًا؛ ولذلك لم يخرجوا معهم.
﴿عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ﴾ أي: إنَّ السوء سيدُورُ عليهم ويرجِعُ على رؤوسهم، والسوءُ هنا كلّ ما يسُوؤهم من نصرٍ للمؤمنين، وزيادةٍ في رزقهم وقوّتهم، وغير ذلك.
﴿إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدࣰا﴾ أي: تشهد على الناس بالتبليغ أنّك بلَّغتَهم رسالة الله كاملة، فلا عذر لمُعتذرٍ منهم.
﴿لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا﴾ هذا بيانٌ للغاية من بعثته بهذه الرسالة، وهي الإيمانُ بالله وبرسوله، أي: وبرسالته؛ لأن كلمةَ الرسول تتضمَّنها، ثم ما يستَلزِمُه هذا الإيمان من عِبادةٍ لله، وجِهاد في سبيله، وتعظيمٍ لشعائره.
وقد اختُلِفَ في عودة هاء الغائب في: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ﴾ وهو أشبَهُ بالخلاف اللغويِّ اللفظيِّ؛ فالتعزيرُ معناه: التأييد والنُّصرة، والتوقيرُ معناه: الإجلال والتعظيم، وكلاهما يصِحُّ أن يعودَ إلى الله أو إلى نبيِّه، ولا يصِحُّ الجمعُ بينهما؛ لأنه لو أرادَ الجمعَ لقال: تُعزِّرُوهما وتُوقِّرُوهما، لكن الفعل الثالث: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ مُتفقٌ على عودته إلى الله؛ لأن التسبيحَ إنما يكون لله وحده، وهذا مُرجِّحٌ لعودة الضميرَين السابقَين إلى الله تعالى أيضًا.
وأما كونُه خلافًا لفظيًّا؛ فلأنَّ نُصرةَ الله تستلزِمُ نُصرةَ النبيِّ، وكذلك التعظيم والإجلال، والله أعلم.
﴿بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا﴾ تسبيحٌ في بداية النهار استعدادًا للعمل، وفي نهايته استغفارًا من الزلل.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُبَایِعُونَكَ﴾ وهذه بيعة الحديبية؛ وهي بيعة خاصَّة لموقف خاص، وهي أشبَه بالتعاهد على فعل معين، وهو ما أخذَتْه بعض الجماعات الإسلامية في مشروعية البَيعة لقادتها، ولكن قد يخلِطُ بعضُهم بين أحكام هذه البَيعة وأحكام البَيعة الكبرى التي لا تكون إلا لإمام المسلمين الذي تلتَقِي عليه كلمَتُهم، والقادر على القيام بشريعة الله فيهم.
﴿إِنَّمَا یُبَایِعُونَ ٱللَّهَ﴾ لأن بَيعَة الرسول ليست لشخصه، وإنما لدينه ونصرة دعوته، وفيه تعظيمُ الله لهذه البَيعَة، وأنه سبحانه شاهِدٌ عليها ومُؤاخِذ الناس بها.
﴿یَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَیۡدِیهِمۡۚ﴾ بالتأييد والحفظ والعناية.
﴿فَمَن نَّكَثَ﴾ نقَضَ البَيعَة، ولم يعمل بمُقتضاها.
﴿فَإِنَّمَا یَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ﴾ أي: يرجِع وبالُ نَقضِه عليه في الدنيا والآخرة.
﴿یَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَیۡسَ فِی قُلُوبِهِمۡۚ﴾ بمعنى أنهم لم يكونوا صادقين بطلب الاستغفار لهم.
﴿بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰۤ أَهۡلِیهِمۡ أَبَدࣰا﴾ بمعنى أن هؤلاء الأعراب إنما تخلّفوا لظنِّهم أن قريشًا سوف تستأصل المسلمين الخارجين إلى مكة لأداء العمرة.
﴿وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورࣰا﴾ أي: قومًا هالكين بذنبكم وتخلّفكم وسوء ظنّكم.
﴿سَیَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ﴾ هم الأعراب المتخلفون عن الحديبية.
﴿إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا﴾ في خيبر.
﴿ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ﴾ أي: نسير معكم إلى خيبر.
﴿یُرِیدُونَ أَن یُبَدِّلُواْ كَلَـٰمَ ٱللَّهِۚ﴾ لأن الله حكم على هؤلاء المتخلِّفين عن الحديبية أن لن يشتركوا في غزوة خيبر.
﴿قُل لَّن تَـتَّـبِعُونَا﴾ أي: في هذه الغزوة، وهذا هو حكمه ـ فيهم.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُۖ﴾ حكم الله عليكم بعلمه السابق سبحانه.
﴿فَسَیَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ﴾ أي: لا تريدون إشراكنا في الغنائم.
﴿بَلۡ كَانُواْ لَا یَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ لأنهم ينظرون إلى هذا المنع بالمنظور المادي الدنيوي، وليس بالمنظور الإيماني والتربوي.
﴿سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ تُقَـٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ یُسۡلِمُونَۖ﴾ أي: ستكون هناك معارك أخرى بعد خيبر وستُدعون لها، فالمنع إنما كان في غزوة خيبر؛ تأديبًا على تخلُّفكم عن الحديبية.
وهذه المعارك كانت في عهد الصدِّيق  في قضائه على حركة التمرُّد والردَّة، ثم في فتح العراق والشام، ولا شك أن هذه تزكية لسيدنا الصدِّيق ولمَن كان معه من الأصحاب رضي الله عنهم أجمعين، أما فتح مكة فلم يكن فيه قتال كما هو معلوم، والله أعلم.
﴿فَإِن تُطِیعُواْ یُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنࣰاۖ﴾ غنيمة الدنيا وثواب الآخرة.
﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّیۡتُم مِّن قَبۡلُ﴾ أي: كما تولَّيتم في الحديبية، والخطاب لم يزَل للأعراب المتخلفين عن الحديبية.
﴿یُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا﴾ دليلٌ على أن القتال مع الصدِّيق  كان قتالًا واجِبًا؛ بحيث يستحِقُّ المُتخلِّف عنه العذاب الأليم.
﴿لَّیۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجࣱ﴾ ليس عليه في تخلُّفه إثم.