﴿لَا تُقَدِّمُواْ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ﴾ أي: لا تُقدِّمُوا قولَكم على قولِ الله ورسوله، وهذه لها صور كثيرة، منها: الاستعجال بإبداء الرأي قبل معرفة حكم الله، ومنها: الإفتاء بغير علمٍ ولا بيِّنةٍ، ومنها: من يُقدِّم قانونَ البشر وعاداتهم وتقاليدهم على شريعة الله، وهذه الصور ليس حُكمها في الإسلام سواء، وإن كانت كلّها داخلة في أصل النهي.
﴿لَا تَرۡفَعُوۤاْ أَصۡوَ ٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِیِّ﴾ أي: لا ترفعوا أصواتكم بحضرته فوق المستوى المُعتاد من صوته
ﷺ حينما يتكلّم معكم، أمّا في وقت كلامه فيجِب الإصغاء ولا تجوز مقاطعته.
﴿وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ﴾ هذا أدبٌ آخر يخصُّ طريقةَ مُخاطبته
ﷺ؛ إذ لا يجوز أن تكون كمُخاطبة بعض الناس لبعضٍ، بل يجب تعظيمه في الخطاب، كأن يُقال: يا نبيَّ الله، يا رسولَ الله، ولا يُقال: يا محمد، وأن يكون الخطاب ليِّنًا مُتواضعًا لا شدَّة فيه ولا غِلظة.
﴿أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ﴾ مخافةَ أن تحبَطَ أعمالُكم إذا لم تكُفُّوا عن ذلك، أمّا مَن قصَدَ الإساءَةَ إليه
ﷺ فعمله مُحبَط قطعًا.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ﴾ يعني: اختَبَر الله قلوبهم ونظر فيها فوجدها تقيَّة نقيَّة، بمعنى أنّ غضَّ الصوت بحضرته
ﷺ أدبًا معه، وإجلالًا له هو دليل التقوى.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُنَادُونَكَ مِن وَرَاۤءِ ٱلۡحُجُرَ ٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ﴾ حيث كان بعض الأعراب يأتي إلى رسول الله
ﷺ فلا ينتظره حتى يخرج إليه، بل يُنادِيه بصوتٍ عالٍٍ من خلف حُجرات نسائه، وقوله:
﴿لَا یَعۡقِلُونَ﴾ كأنّه يعزُو هذا الفعل إلى قلَّة التعقُّل والتفقُّه، وليس إلى قلَّة الدين؛ إذ هؤلاء لم تُتَح لهم فرصة التربية الكافية، وهو تنبيهٌ إلى أهميَّة تعلِيمِهم وتوجِيهِهم، والله أعلم.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤاْ﴾ أي: تثبَّتُوا وتأكَّدُوا قبل أن تحكُمُوا على الناس، وتقَعُوا فيهم عن غير بيِّنةٍ، والحكمُ هذا لا يخصُّ الفاسق -وهو الخارجُ عن طاعة الله-، بل يدخُلُ فيه غيرُه.
والضابط في هذا تحقُّق التبيُّن كالبحث في عدالة الراوي، وإذا كان الراوي ينقلُ الخبر عن غيره فعدالتُه لا تكفي، بل لا بُدَّ من التأكُّد من عدالة مَن نقلَ عنه، وهكذا، والراوي المجهول الذي لا يُعرف له فسقٌ داخل في الحُكم أيضًا.
وإنما نصَّت الآية على الفاسق؛ تنبيهًا على أنّ الأصل في الأخبار المُؤذِية للصفِّ المسلم إنّما ينقُلُها ويُشِيعها الفَسَقَة والكَذَبَة، فإذا نقَلَ المسلمُ خبرًا من هذا النوع، فليس هذا دليلًا على فسقِه، بل قد يكون بسبب غفلَتِه أو ثِقَتِه بمن ينقُلُ عنه، والله أعلم.
﴿أَن تُصِیبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ﴾ أي: خَوفًا من أن تُعاقِبُوا قومًا لا يستحِقُّون العقوبةَ.
﴿وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ﴾ هذا تنبيهٌ وتذكيرٌ للمؤمنين أنّ الذي بينهم هو رسولُ الله
ﷺ، فلا ينبغي أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع غيره من البشر، وهذا تمهيدٌ لما بعده، وهو أنّه
ﷺ لن يفعل كلّ ما ترغبونه، أو تطلبونه منه، أو تنقلونه إليه، فلو أخَذَ بكلّ ذلك لأصابَكم العَنَت، وهو المشقة والضرر والإثم.
﴿وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ﴾ بمعنى أنّ النبيَّ
ﷺ حينما لا يستجيب لرغباتكم وطلباتكم؛ فما ذاك إلَّا لأنّ الله اختارَ لكم الأفضل والأحسن، وهو الإيمان بالله، والتسليم لحكمه وشريعته.
﴿وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ﴾ هذه ثلاثةُ مستويات:
- الكفر: وهو ضد الإيمان، وهو معروف.
- والفسوق: الخروج عن طاعة الله حتى يكون شأنًا لازمًا، ووَصفًا غالِبًا، وهذا دون الكفر.
- والعِصيان: ارتكاب المعصية وإن لم تكن غالبة ولا دائمة، وهذه دون الفسق.
وهذا الترتيب يتأكَّد باجتماع هذه الكلمات، أمَّا إذا افتَرَقَت فيصِحُّ إطلاق الفسق مثلًا على الكفر، وكذا إطلاق المعصية على الكفر وعلى الفسق، بل قد ورد إطلاق الكفر على بعض المعاصي، وكلّ ذلك لأغراضٍ يقتضيها المقام، وإنّما تُفهم مدلولاتها من خلال السياق، والله أعلم.
﴿وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُواْ﴾ والطائفة هنا معناها: الجماعة المُتناصِرة فيما بينها؛ كالقبيلة والقرية ومن تجمَعهم مصلحة مشتركة، وافتراض القتال بين المؤمنين وارِدٌ دون أن يسلبهم وصف الإيمان، وعلى هذا كان موقف أهل السنَّة والجماعة في الفتنة التي حصَلَت بين الصحابة .
﴿فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَهُمَاۖ﴾ هذا الخطاب مُوجَّهٌ لبقية المُسلمين ممن لم يشترك في القتال.
﴿فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ﴾ برفض الصلح، أو بنكثه، أو بعدوان ظاهر.
﴿فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ أي: قاتلوا الفئة المعتدية بعد استنفاد وسائل الصلح حتى ترجِع إلى الحق، والخطاب هنا للمؤمنين الذين لهم شَوكة وإمام مُطاع، وإلّا قد يتحوَّل الأمر إلى فتنةٍ عامة.
﴿فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ﴾ حتى تخمد الفتنة فلا تثور مرة أخرى.
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ﴾ مهما حصل بينهم؛ إذ رابطة الإيمان أقوَى من كلِّ شيءٍ، وبقَدر ما يعظُمُ الإيمانُ في النفوس تعظُمُ حُرمات المؤمنين فيما بينهم.
﴿فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ﴾ تأكيدٌ لقيمة الإصلاح، وتنبيهٌ إلى لِينِ الخطاب والرحمة بين المؤمنين.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا یَسۡخَرۡ قَوۡمࣱ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُواْ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَاۤءࣱ مِّن نِّسَاۤءٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهُنَّۖ﴾ هذا التفصيلُ في النهي عن احتِقار المسلم لأخيه المسلم - رجلًا كان أو امرأة - دليلٌ على خطورة هذا النوع من الآثام؛ فالسخرية التي تعني: الاستهزاء والازدراء والاحتقار لا تكون إلَّا في قلبٍ تشُوبه شائبة الكِبْر والعُجب بالنفس؛ ولذلك قرَنَ القرآن النهيَ عن السخرية بالتنبيه إلى ميزان الخيريَّة، فكم من مُعجبٍ بنفسه، وغيرُه خيرٌ منه، وكم من مُتكبِّرٍ يرى الناس دونه، وفيهم مَن هم أعلى شأنًا منه.
﴿وَلَا تَلۡمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ لا يَعِب بعضكم بعضًا، ولا يلمِزه بما يُحقِّره ويشِينُه، وأنزَلَ المُقابِل منزلة النفس؛ تنبيهًا إلى مكانته التي يُريدها الله أن تكون في قلب أخِيه؛ ولأنّ الذي يعِيبُ الآخرين فإنّ العَيبَ يرجع عليه.
﴿وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَـٰبِۖ﴾ أي: لا تُنادُوا إخوانَكم إلَّا بأسمائهم وألقابهم المُحبَّبة، أمّا الألقاب المُشعِرة بالإهانة والشتيمة، فهذا منهيٌّ عنه بإطلاق.
﴿بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِیمَـٰنِۚ﴾ بمعنى أنّ الذي يسخرُ مِن الآخرين ويلمِزهم وينبزهم بالألقاب المشينة هو الذي يستحقُّ اسم الفُسُوق، وبئس هذا الاسم بديلًا عن اسم الإيمان، وفي هذا ترهيبٌ ووعيدٌ كافٍ لمن كان له قلب.
﴿وَمَن لَّمۡ یَتُبۡ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ فالذي يُصِرُّ على هذه الآثام المتقدِّمة من السخرية واللمز والتنابز، استحقَّ أن يكون في ميزان الله ظالمًا؛ فجمع بذلك بين الفسق والظلم، والعياذ بالله.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ﴾ ترغيبٌ عامٌّ بحسن الظنِّ بالمؤمنين؛ إذ هو نقيض سوء الظنِّ، والتحذير من غالب الظنِّ الذي يقَع بين الناس، وهو الظنُّ الذي لا تشفعُ له قرينة، ولا يستندُ إلى دليلٍ.
أما الظنُّ المقترن بالشبهة واللوث كما في أصحاب السوابق والمجرمين ومَن عُرِف عنهم العدوان وأكل أموال الناس بالباطل، فهؤلاء مُستثنَون؛ لأنّ الاحتِياط منهم واجِب، وجعلهم في دائرة الشكِّ مِن الحزم والعزم، إلَّا أنَّه لا يجزم بحالهم لمجرد ذلك، بل لا بُدَّ من التحقيق المُنصِف العادل.
﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ لا تتبعوا عورات الناس؛ لأنّ هذا التَّتبُع إنّما يدفَعه سوءُ ظنٍّ مُسبَق، وهذا لا ينطَبِق على حالات الحروب واحتِمالات العدوان؛ فالتجسُّس على هؤلاء وما يمكن أن يُخطِّطوا له أمرٌ مشروعٌ؛ لحماية المجتمع ووقايته، لكن لا يترك هذا لآحاد الناس، والله أعلم.
﴿وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ﴾ والغِيبة: ذِكرُكَ أخاك بما يكره وهو غائِبٌ، فإن كان ما قُلتَه فيه كذبًا، جمَعتَ الكذبَ إلى الغِيبة فكانا كبيرَتَين، فإن لم يكن غائبًا كان ذلك من السخرية واللَّمْز والنَّبْز، وكلها أفعال مُحرَّمة تُؤدِّي إلى الفسق والظلم.
﴿أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا﴾ هذا تشبيهٌ قُصِد به التنفير الشديد من الغِيبة؛ إذ هي كمَن يأكل لحمَ أخيه ميتًا، بجامع أنّ الميت لا يقدِر على الدفاع عن نفسه وكذلك الغائب، والتشبيه على صيغة السؤال لاستِنطاق السامع وتنبيهِه إلى بشاعة هذا الفعل؛ ولذلك قال:
﴿فَكَرِهۡتُمُوهُۚ﴾ يعني أنّه فِعْلٌ تشمئِزُّ منه الفطر السليمة.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ﴾ بيان للأصل البشري الواحد، والذي تتساوَى فيه جميع الأقوام والأجناس والألوان، وهذه قاعدةُ المُساواة الإنسانيَّة في الإسلام، والمقصود بالذَّكَر هو: آدم ، وبالأنثى: حوَّاء، فتكون البشريَّة كلّها من عائلةٍ واحدةٍ.
﴿لِتَعَارَفُوۤاْۚ﴾ مقصدٌ من مقاصِد الخلق، يعرف الناسُ بعضُهم بعضًا، ويستفيد بعضُهم من خبرة بعضٍ، ويتعاونون لتحقيق مصالحهم الإنسانيَّة المشتركة، وقال:
﴿لِتَعَارَفُوۤاْۚ﴾ تعريضًا بمن بدَّلَها بغيرها من الذين يتلامَزون ويتنابَزون ويسخَرون من بعضهم البعض.
﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ هذا هو ميزان التفاضل بين الناس، والتقوَى هي العمل الصالح، فخيرُ الناس أقربهم إلى الله وأنفعهم للناس.
﴿۞ قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ﴾ الأعراب هم: أهلُ البادية البعيدون عن مُجتمعات التحضُّر والتعلُّم، ووصفهم ليس على سبيل الانتقاص منهم - حاشا لله -، بل لبيان حالهم وما يصلُحُ لهم، فهؤلاء كانوا يأتون المدينة، فيظنُّون أنهم بمجرد نُطقهم بالشهادة أصبَحوا كأصحاب رسول الله
ﷺ، فيقولون:
﴿ءَامَنَّاۖ﴾ أي: نحن مثلكم، ولا ميزَة لكم علينا.
﴿قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسۡلَمۡنَا﴾ العلاقة بين مفهومَي (الإيمان) و(الإسلام) علاقة مُتداخِلة ومُتشعِّبة، وقد يُطلَق هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا، وقد يُطلَقان على معنًى واحدٍ، لكنهما باجتِماعهما في عبارةٍ واحدةٍ لا بُدَّ أنّهما يَحمِلان معنيَين مُختلفَين، في التسلسل المنطقي يكون الإيمان أولًا؛ لأنّه تصديقٌ قلبيٌّ، ثم يعقُبُه الانقياد والاستسلام للدين ظاهرًا وباطنًا، ويبدأ هذا الانقياد بإعلان الشهادتَين، ثم بإقامة الصلاة، وهكذا.
وعلى هذا فالمسلمُ الحقُّ لا يمكن إلَّا أن يكون مؤمنًا؛ إذ الإيمان أساس الإسلام، وفي مثل حالة الأعراب هذه كأنَّ الأمر معكوس؛ فقد أثبَتَ لهم الإسلامَ، ونفَى عنهم الإيمانَ، وهذا محمول على أوجه:
منها: أنّ الإسلام الثابت لهم هو الانقياد الظاهر كإسلام المنافقين، فهو إسلامٌ مقبولٌ عند البشر بحكم الظاهر؛ لأنّ البشر لا يعلمون الغيب، وليس مقبولًا عند الله، وهذا الوجهُ مُستبعَدٌ هنا؛ لأنّ القرآن أشارَ إلى قُرْبِ تحقُّقهم من الإيمان؛ حيث استعمل في النفي كلمة (لَمَّا) والتي تفيد قُرب حصول ما نفَتْه.
ومنها: أنّ معنى الإيمان هنا أدقُّ من معنى التصديق المجرَّد، بل هو الرسوخ والوعي والقدرة على الالتزام بمقتضيات التصديق، وهذا المعنى وارِدٌ في القرآن في أكثر من موضعٍ، منها: قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾ [الأنفال: 2].
فوَجَلُ القلوب معنًى مضافٌ على مُجرَّد التصديق، وإدخاله في مسمَّى الإيمان هو الذي جعل الإيمان قابلًا للزيادة والنقصان، ولذلك كانت تتِمَّة الآية:
﴿وَإِذَا تُلِیَتۡ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنࣰا﴾ وهذا مُختلِفٌ عن معنى الإيمان الوارِد في حديث جبريل: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ ...»، فهذا لا يقبَلُ الزيادة ولا النقصان، وهذا هو المقصود بقول أبي حنيفة المعروف أنّ: (الإيمان لا يزيد ولا ينقص).
وقد ورَدَ في القرآن نفسه ما يُعضِّدُ هذا المعنى، كقوله تعالى:
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾ حيث جعل العمل الصالح تابعًا للإيمان معطوفًا عليه، وليس جُزءًا من ماهيَّته.
والخلاصةُ: أنّ للإيمان أكثر من إطلاق، والراجح أنّ ما نفَاه القرآن عن الأعراب إنّما هو الإيمان بمفهومه الكامل الشامل، المُتضمِّن للأعمال القلبيَّة والبدنيَّة، وهذا يزيدُ وينقصُ، ويتفاوَتُ فيه الناس؛ ولذلك عادَ القرآن في نهاية السورة ليُثبِتَ لهم الإيمانَ بمعناه الأول - وهو التصديق - فقال:
﴿بَلِ ٱللَّهُ یَمُنُّ عَلَیۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِ﴾، والله أعلم.
﴿وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ﴾ أي: لم يكتَمِل دخولُ الإيمان في قلوبكم بَعْدُ.
﴿لَا یَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَـٰلِكُمۡ شَیۡـًٔاۚ﴾ لا ينقصكم مِن أجور أعمالِكم شيئًا.
﴿قُلۡ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِینِكُمۡ﴾ إنكارٌ على هؤلاء الأعراب الذين يقولون في معنى الدين والإيمان أقوالًا لا تستَنِدُ إلى علمٍ، والمقصود من السؤال: تعليمُهم أنّ الله هو الذي يُبيِّنُ الدينَ، ويحكُمُ على الناس، فانتظِروا ولا تتسرَّعوا، وهنا تذكيرٌ بصدر الصورة:
﴿لَا تُقَدِّمُواْ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ﴾.
﴿یَمُنُّونَ عَلَیۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ﴾ كأنّهم مُتفضِّلُون عليك بإسلامهم.
﴿قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَیَّ إِسۡلَـٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ یَمُنُّ عَلَیۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِ﴾ فالله هو المتفضِّلُ عليكم، وهو المستحقُّ للشكر والمنَّة.
وهنا ملحوظةٌ دقيقةٌ، وهي: أنّ القرآن الذي نَفَى عن هؤلاء الأعراب الإيمان:
﴿قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ﴾ أثبَتَه هنا:
﴿هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِ﴾ والأقربُ في هذا: أنّ القرآن عاد واستعمل الإيمان بمعنى التصديق، بتأكيد أنّ الإيمان يُطلَقُ على أكثر من معنًى، ولكلِّ معنى حكمه، والله أعلم.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ غَیۡبَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ ختَمَ القرآن هذه السورةَ بهذه الآية؛ ليُنبِّه أنّ القِيَم الواردة في هذه السورة لا تُؤتِي ثمارها إلَّا بوجود رقابةٍ ذاتيَّةٍ، وقوةٍ داخليَّةٍ للتطبيق، مُستنِدة إلى استِشعار عِلْمِ الله وإحاطته الكاملة بكلِّ حركاتنا وسكناتنا.