لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين وأنَّهم لم يقوموا به بل نقضوه؛ ذَكَرَ أقوالهم الشنيعة، فَذَكَرَ قولَ النَّصارى، القول الذي ما قاله أحدٌ غيرهم، بأنَّ الله هو المسيح بن مريم، ووجه شُبهتهم أنَّه ولد من غير أبٍ، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل، مع أن حوَّاء نظيره، خُلِقَتْ بلا أمٍّ، وآدم أولى منه خلق بلا أبٍ ولا أمٍّ؛ فهلاَّ ادَّعوا فيهما الإلهية كما ادَّعوها في المسيح! فدلَّ على أنَّ قولهم اتباع هوى من غير برهانٍ ولا شبهةٍ، فردَّ الله عليهم بأدلةٍ عقليَّةٍ واضحةٍ، فقال: {قُل فمن يملِكُ من الله شيئاً إن أراد أن يُهْلِكَ المسيح ابن مريم وأمَّه ومن في الأرض جميعاً}؛ فإذا كان المذكورون لا امتناع عندهم يمنَعُهم لو أراد الله أن يُهْلِكَهم ولا قدرة لهم على ذلك؛ دلَّ على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك ولا في قوَّته شيء من الفكاك. ومن الأدلَّة أنَّ {لله} وحدَه {ملكُ السموات والأرض}، يتصرَّف فيهم بحكمِهِ الكونيِّ والشرعيِّ والجزائيِّ، وهم مملوكون مدبَّرون؛ فهل يَليقُ أن يكون المملوك العبد الفقير إلهاً معبوداً غنيًّا من كلِّ وجه؟! هذا من أعظم المحال، ولا وجه لاستغرابهم لخلق المسيح عيسى بن مريم من غير أبٍ؛ فإنَّ الله {يَخْلُقُ ما يشاءُ}: إن شاء منِ أبٍ وأمٍّ كسائر بني آدم وإن شاء من أب بلا أم كحواء، وإن شاء من أمٍّ بلا أبٍ كعيسى، وإن شاء من غير أبٍ ولا أمٍّ كآدم؛ فنوَّع خليقتَهَ تعالى بمشيئتِهِ النافذة التي لا يستعصي عليها شيءٌ، ولهذا قال: {واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ}.