﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ﴾ عامٌّ في كلِّ عقدٍ، ومقتضاه وجوب الوفاء بكلِّ الالتزامات والتعهدات ولو مع كافر.
﴿أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِیمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ﴾ أصل في الإباحة الأصليَّة، وأن
التحريم استثناءٌ لا يكون إلا بدليلٍ.
﴿لَا تُحِلُّواْ شَعَــٰۤـىِٕرَ ٱللَّهِ﴾ أي: لا تستبيحوا المحرمات بمعصيةٍ عمليةٍّ أو باعتقاد إباحتها من غير دليلٍ، والشعائر جمع شعيرةٍ، وأصلها العلامة الظاهرة، والمقصود: كلُّ نُسُكٍ وتديُّنٍ ظاهرٍ، وخصَّها بالذكر؛ لأنها تمثِّل هويَّة المجتمع المسلم، وانتهاكها انتهاكٌ لهذه الهويَّة الجامعة، والله أعلم.
﴿ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ﴾ استغراق للأشهر الحُرُم كلِّها، والمنهي عنه هنا بدْءُ القتال، أما ردُّ العدوان فمشروع فيها وفي غيرها، وكذا لو بدأ القتال قبلها ثم استمرَّ؛ لأن إيقافه من طرفٍ واحدٍ معناه الاستسلام للعدوِّ، وعليه يُحمل قوله:
﴿فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ﴾ [التوبة: 5]، وهذا أَولَى من القول بالنسخ، خاصةً أن هذه الآيات من أواخر ما نزل، والله أعلم.
﴿ٱلۡهَدۡیَ﴾ كلُّ ما يُهدى إلى البيت الحرام قربة لله، فلا يجوز التعرُّض بالأذى له بالصدِّ أو العدوان.
﴿ٱلۡقَلَــٰۤـىِٕدَ﴾ ما يقلَّد به الهدي تمييزًا له عن غيره من
الأنعام، وخصَّه بالذكر مع أنه هَديٌ؛ لأن صاحبه قد علَّمَه، فلا مكان للشُّبهة ولا عذر بالجهل.
﴿وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ﴾ أي: يحرُم الاعتداء على من قصد البيت الحرام أداءً للنسك، أو طلبًا للرزق، وهو عامٌّ في كلِّ قاصدٍ، ثم خُصَّ بالنهي عن قربان المشركين
﴿فَلَا یَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ﴾ [التوبة: 28].
﴿وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ﴾ الأمر إذا جاء بعد النهي أفادَ زوال النهي فقط؛ فيرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، ولما كان الصيدُ قبل الإحرام مُباحًا، ثمّ حُرِّم بالإحرام، جاء الأمر بالصيد بعد الإحرام مُفيدًا لإباحته لا لوجوبه ولا لندبه، وهذه من الصيغ التي يخرج فيها الأمر عن معنى الطلب.
﴿وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ﴾ أي: لا يدفعنَّكم عداوةُ قوم لكم وبغضهم إلى أن تعتدوا عليهم، وهذا أصلٌ عظيمٌ من أصول العلاقات بين المسلمين وغيرهم، فالكفرُ لا يبرر العدوان، وإذا كان هذا مع الكافرين فهو بين المسلمين المختلفين أَولَى.
﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةُ﴾ استثناء من الإباحة الأصليَّة، وهي التي تَنفُقُ بغير ذكاةٍ شرعيةٍ.
﴿وَٱلدَّمُ﴾ الخارج بذبحٍ أو جرحٍ وهو المسفوح، أما الباقي في عروق اللحم بعد الذبح فلا حرج فيه.
﴿وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِیرِ﴾ وذكر اللحم؛ لأنه المأكول عادةً، وإلا فالخنزير محرَّمٌ كلُّه، والحديث عن حكمة
التحريم نافعٌ في بيان منهج التشريع وحكمته، لكنَّه لا يؤثِّر في أصلِ الحكم؛ لأن إدراك الحكمة من
التحريم متفاوت بين البشر زمانًا ومكانًا، فما فاتَ على من قبلنا قد نُدركه نحن، وما فات علينا قد يُدركه مَن بعدنا، ف
التحريم ثابتٌ وباقٍ ما بقِيَ النصُّ، وهو باقٍ.
﴿وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ﴾ النذور والقرابين التي تُقدَّم لغير الله، فهذا مما يحرُمُ أكله؛ كالميتة، والدم، والخنزير.
﴿وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّیَةُ وَٱلنَّطِیحَةُ وَمَاۤ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ﴾ وهذه كلُّها من أصناف الميتة، وقد نصَّ عليها لمكان الشبهة؛ إذ قد ينصرف معنى الميتة إلى من تفقد حياتها بمرضٍ أو هرمٍ.
والمنخنقة هي: التي تموت خَنْقًا بحبلٍ ونحوه.
والموقوذة هي: التي تموت بالضرب بعصًا أو بحجارةٍ ونحوهما.
والمتردِّية هي: التي تموت بسبب سقوطها من علوٍّ.
والنطيحة هي: التي تموت بسبب نَطحها من قِبَل بهيمة أخرى.
وما أكل السَّبُع هي: التي يفترسها السبع؛ كالذئب ونحوه.
﴿إِلَّا مَا ذَكَّیۡتُمۡ﴾ استثناء من المُنخَنِقة فما بعدها، فإذا تعرَّضَت البهيمة للخنق أو الضرب أو السقوط أو النطح أو الافتراس، ثم تمكَّن صاحِبُها من ذبحها قبل موتها بحيث يخرج منها الدم كما يخرج من غيرها، فهي حلالٌ، أما إذا أشرفت على الموت بحيث لم يبق فيها ما يدفع بدمها نحو الخارج، فهي ميتة حُكمًا، والله أعلم.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ﴾ تفريعٌ لما أُهِلَّ لغير الله به، والنُّصُب كلُّ ما يُنصَب للعبادة والتعظيم من حجارةٍ ونحوها، فالذبح لها تقربًا يحرِّم الذبيحة.
﴿وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِۚ﴾ عادةٌ جاهليَّةٌ أنكرها القرآن لما فيها من غبنٍ وجهالةٍ؛ حيث كان الجاهليُّ يحتكم إلى قداحٍ أو عيدانٍ ثلاثةٍ مُعلَّمةٍ بـ (افعل)، و(لا تفعل)، والثالث غُفْل، وذلك بقصد استنطاق الغيب ومعرفة ما قُسِم له من خيرٍ وشرٍّ، فيمدُّ يده إليها وهي مغطَّاة لا يميِّزها، فإن خرج بيده الأول فهو الخير، وإن خرج الثاني فهو الشرُّ، وإن خرج الثالث أعاد الكرَّة، والاستِقسام معناه: طلب العلم بما هو مقسوم في القَدَر، أو هو من القَسَم بمعنى اليمين؛ لأنه يُلزِم نفسه بما خرج له، كأنه أقسَمَ على نفسه بذلك.
﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِی مَخۡمَصَةٍ غَیۡرَ مُتَجَانِفࣲ لِّإِثۡمࣲ﴾ استثناءٌ من
التحريم اقتَضَتْه ضرورة الحفاظ على الحياة بدفع المخمصة، وهي الجوع الشديد المفضي إلى العطب أو الموت، فهذا يحقُّ له أن يأكل من الميتة ونحوها؛ ف
التحريم إنما كان لمصلحةٍ بوجود المباحات من الطيِّبات فلما فَقد الطيِّبات وتعيَّن الحرام لدفع العطب انقلب الحرامُ إلى مباحٍ، واشترط عدم التجانُف للإثم بمعنى أن لا يرغب بالإثم، ولا يميل إليه، ولا يستكثر منه.
﴿أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّـیِّـبَــٰتُ﴾ أصلٌ في التشريع، والطيب هنا كلُّ طعامٍ نافعٍ، وعكسه الخبيث وهو الضارُّ، وما ثبت ضرره من كلِّ وجهٍ فهو محرَّمٌ؛ كالسمِّ و
الدخان، وما اختلط فيه النفع بالضرِّ فيُراعَى فيه حال الآكل، فمن أدَّى به إلى العطب؛ كالسكَّر لمن وصل به داؤه إلى حدِّ الخطورة فهو محرَّمٌ، ومن كان دون ذلك خفَّ
التحريم إلى حدِّ الكراهة أو الإباحة.
وهناك طعامٌ نافعٌ لكنه خبيث الرائحة - كالبصل والثوم - فهذا مباحٌ مع الاحتجاب عن أذيَّة الخلق في الجماعات ونحوها، والله أعلم.
﴿وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِینَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱلـلَّـهُۖ فَكُلُواْ مِمَّاۤ أَمۡسَكۡنَ عَلَیۡكُمۡ﴾ هنا شروط الصيد بالحيوانات المُعتادة على الصيد؛ كالصقور والكلاب، وهذه الشروط: التعليم، وعلامته الائتِمار بأمر معلِّمِه إرسالًا أو إحجامًا، ثم الجرح بأن يخرج من طريدته الدم، فلو قتل الصيد بثقله، أو طارده حتى مات خوفًا أو وقع في هاويةٍ فلا يحل أكله، وهذا هو معنى الجوارح، ثم الإمساك به على صاحبه، بأن يصطاده له لا لنفسه، فلو أكل منه قبل أن يصل صاحبه فهو له - أي: للكلب - ويحرم على الآدمي.
والعبرة بالإمساك، فإن أمسك ثم تأخَّر عليه صاحبه فبدأ بالأكل فلا حرج؛ لأن علامة التعليم حصَلَت، ومن الفقهاء من فرَّق في هذا بين الكلب والطير، وليس هنا مجال التفصيل.
﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَیۡـهِۖ﴾ أي: عند الإرسال، وهو على سبيل الاستحباب، فلو نسِيَ فلا حرج، وعند الأكل كذلك، والمسألة لا تخلو من خلافٍ فقهيٍّ، والله أعلم.
﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلࣱّ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلࣱّ لَّهُمۡۖ﴾ المقصود بالطعام هنا الذبائح؛ لأن غيرها مباح بإطلاقٍ من الكتابِيِّين وغيرهم، وطعامنا حلٌّ للكتابِيِّين معناه إطعامنا إيَّاهم؛ لأن المخاطب بالتكليف المؤمنون، وفيه معنًى خفيٌّ للتكافل والتواصل.
وأهل الكتاب هنا هم أهل الكتاب المعروفون على اختلاف نِحَلهم ومذاهبهم، واشتراط التوحيد وعدم القول بالتثليث تكلٌّف لا يساعد عليه سياق التشريع، إلّا أن سوء تصرُّف الكتابِيِّ بذبيحته على خلاف دينه يحرِّمُها، وحكمُه حكمُ المسلم الذي يخنق ذبيحته أو يصعقها بالكهرباء صعقًا مميتًا، و
التحريم هنا لفقد الذكاة الشرعيَّة وليست لاختلاف الدين، والله أعلم.
﴿وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ﴾ أي: الحرائر العفيفات منهم، وهذا نقض لمن توهَّم أن البراءة من الكافرين تقتضي بُغضهم والانعزال عنهم، فالزواج سكنٌ ومودّةٌ ورحمةٌ، وهو مع الكتابيَّة كذلك.
ولا يُعقل أن الله يُبيحُ الزواجَ منها ثم يأمر ببُغضها وبُغض أهلها، وإنما البراء تمييز المعتقد، وتمايز الصفوف عند القتال، وفي غيرهما يشرع التواصل والتكافل والتعاون والتحاور، والله أعلم.
﴿غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَ وَلَا مُتَّخِذِیۤ أَخۡدَانࣲۗ﴾ السِّفاح هو: الزنا، والأخدان: الخليلات والعشيقات.
﴿فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ﴾ الواو للعطف، والترتيب هنا معنًى مُضاف بقرينة إدخال الممسوح، وهو الرأس بين المغسولَين، وهما الأيدي والأرجل، وغسل الأرجل ظاهرٌ ب
الفتح عطفًا على الأيدي، وأما قراءة الكسر فلا تناقض الفتح، والقرآن يكمِّل بعضُه بعضًا، والعطفُ على الرؤوس وارِدٌ لفظًا لمحلِّ القُرب لا معنًى، وذِكرُ الكعبَين قرينة على الغسل كما في المِرفَقَين؛ إذ المسح لا يستَوفِي كلّ القدَمَين، والعطف على الرؤوس واردٌ لفظًا لمحل القُرب لا معنًى، وربما فيه إشارة خفيَّة إلى جواز المسح في حالة وجود الخفَّين، والله أعلم.
﴿أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ﴾ أصل الغائط: المكان المنخفض، والمقصود به هنا: نقض الوضوء بما خرج من السبيلَين، واستعمال الغائط بهذا المعنى؛ لأنه المكان المقصود عادةً لقضاء الحاجة، ومُلامَسة النساء الأظهر فيها: الجماع.
وكأنَّ القرآن قد ذكر الحَدَثَ الأصغر ثم ذكر الحَدَثَ الأكبر، وهما المُوجِبان للتيمُّم عند فَقد الماء أو فَقد القدرة على استعماله، وتفسيره بملامسة اليد - مع ما فيه من الاحتياط - فيه أثر سلبي للعلاقة بين الزوجين، خاصةً في البيوت التي لا يتوفَّر فيها الماء، أو الجاهزيَّة لاستعماله، وفي هذا حرجٌ يتنافى مع قصد المودّة وهو قصدٌ شرعيٌّ.
وقد ورد من السنَّة ما يصرف الملامسة عن معنى اللمس الظاهر؛ كقول السيدة عائشة : (كان رسول الله
ﷺ يتوضَّأ ثم يُقبِّل ويُصلِّي ولا يتوضَّأ)، والله أعلم.