سورة المائدة تفسير مجالس النور الآية 115

قَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مُنَزِّلُهَا عَلَیۡكُمۡۖ فَمَن یَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّیۤ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا لَّاۤ أُعَذِّبُهُۥۤ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١١٥﴾

تفسير مجالس النور سورة المائدة

المجلس الثالث والخمسون: معجزات النبي عيسى على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام


من الآية (109- 120)


المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة يظهره الله على يد النبي تصديقًا وتأييدًا له، وهي مأخوذةٌ من الإعجاز؛ لأنها تثبت عجز الآخرين عن تقليدها أو الإتيان بما يبطلها، ومعنى أنها خارقة للعادة: أنها تخرِق النظام المعتاد في هذا الكون، وليست هي خارقةٌ للعقل؛ لأن العقل يتصوَّر مخالفة النظام في بيئةٍ أخرى، فما يحترق على الأرض قد لا يحترق على كوكبٍ آخر، والمسافة التي يقطعها المرء على الأرض في ساعة قد يقطعها على كوكبٍ آخر في ثانيةٍ. أما المستحيلات العقليَّة؛ فهي التي لا يمكن تصوُّرها في الذهن مثل: اجتماع النقيضين، ووجود جزءٍ أكبر من كلِّه.
وفي هذه الآيات بيان للمعجزات التي أيَّد الله بها رسوله عيسى عليه السلام مع بيان الإطار الإيماني والسلوكي الذي ينبغي استحضاره عند النظر في هذه المعجزات:

أولًا: إن رسالة الأنبياء هي تبليغ الدين وليست صناعة المعجزات؛ ولذلك استهَلَّت هذه الآيات بقوله تعالى: ﴿یَوۡمَ یَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَیَقُولُ مَاذَاۤ أُجِبۡتُمۡۖ﴾ فالسؤال إنما يكون عن تبليغ الدعوة ومدى استجابة الناس لها.

ثانيًا: إن مصدر المعجزة إنما هو الله، وليس النبيّ أو الرسول ﴿إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ﴾، ﴿فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ﴾.
وتكرار الإذن هنا مُشعِرٌ بتكراره مع كلِّ معجزة؛ دفعًا لتوهُّم التفويض والتوكيل المطلق بصناعة المعجزات، كما يتوهَّم غُلاةُ الرافضة مع أئمَّتِهم، فالمُلكُ لله وحده، والله لم يتنازَل عن مُلكه لأحدٍ، لا على سبيل التمليك، ولا على سبيل التفويض ﴿لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِیهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرُۢ﴾.

ثالثًا: إن المعجزةَ متلبِّسةٌ بالأمر والنهي ونور الوحي، فوظيفتُها إقامة الحجة على صدق الوحي، ودفع الناس للالتزام والتمسُّك به ﴿وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی﴾.
أما الخوارق المصحوبة بالجهل والخرافة، وظلم الآخرين، والبُعد عن أحكام الشريعة وآدابها، فهذه ليست من الدين في شيء، وليست علامة على الإمامة أو الولاية مهما بلغت في أعين الناس.

رابعًا: إن الاستئناس بالمعجزات الحسِّيَّة لزيادة الإيمان والطمأنينة وارِدٌ، ولا يتعارَض مع أصل الإيمان؛ لأن الإنسان مجبولٌ على التعلُّق بالمحسُوسات ﴿قَالُواْ نُرِیدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَىِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا﴾ فالعلم بالمحسوس فيه إضافة على العلم الحاصل بطريق النظر والاستنتاج.

خامسًا: إن المعجزة الحسِّيَّة مع قوتها ومناسبتها لطبيعة الإنسان، إلا أنها قد تكون فتنة له، فالحاسد المكابر سيدَّعي أنها من السحر كما فعل اليهود ﴿وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ .
وأما المحبُّ الجاهل فقد تدفعه للغلو ورفع مقام النبوة إلى مقام الألوهيَّة ﴿وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱلـلَّــهِۖ﴾ فهؤلاء شطَّت بهم المعجزة بعيدًا عن نور الوحي بسبب جهلهم وغلبة عاطفتهم.

سادسًا: أدب النبيين مع المعجزة، ووقوفهم عند حدِّ عبوديَّتهم لله؛ إذ لم تمنعهم هذه المعجزات أن يقولوا: ﴿لَا عِلۡمَ لَنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ﴾، ﴿مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ ﴿١١٦﴾ مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَاۤ أَمَرۡتَنِی بِهِۦۤ﴾.

سابعًا: إن ميزان التفاضل بين البشر ليس في الخوارق ومن شاهدها أو لم يشاهدها، بل الميزان هو الصدق؛ الصدق مع الله، والصدق مع النفس، والصدق مع الآخرين ﴿قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾.


﴿إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ﴾ هو ملك الوحي جبريل عليه السلام والعبارة موحية بالقرب والملازمة، وليس إيصال الوحي فقط، والله أعلم.

﴿تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ﴾ في المهد معجزته في تبرئة أمِّه مريم عليهما السلام، وكهلًا لتبليغ رسالته، وهنا اقتران المعجزة بالرسالة.

﴿وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ﴾ الأكمه الأعمى، والأبرص المتغيِّر لون جلده بخلقةٍ أو مرضٍ، ويقال: إنَّ عصر عيسى كان مشهورًا بالتطبُّب؛ فجاءت المعجزة من جنس اهتمامهم وتفوُّقهم.

﴿وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ﴾ أي: تدعوهم فترتدُّ أرواحهم إليهم فيخرجون إليك.

﴿وَإِذۡ أَوۡحَیۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِیِّـۧنَ﴾ الحواريُّون هم أصحابُ عيسى عليه السلام المقرَّبون منه، والوحي إنما كان له، وهم استمعوه منه، فاستجابوا لربهم، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ كِتَـٰبࣰا فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ﴾ [الأنبياء: 10]، والإنزال إنما كان للرسول والله أعلم.

﴿هَلۡ یَسۡتَطِیعُ رَبُّكَ أَن یُنَزِّلَ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ۖ﴾ ليس على سبيل الشك بقدرته سبحانه، بل على سبيل التأدُّب والاحتياط في الطلب، كقولك لمن تجلُّه وتحترِمُه: هل يمكنك مساعدتي؟ وأنت عارف بإمكانيته، لكنَّك تُقدِّم العذرَ له إن ردَّك؛ لأنه يعلم ما لا تعلم، والله أعلم.

﴿وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا﴾ هو علم الشهود لا علم النظر.

﴿تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا﴾ أي: موسمًا للاحتفاء والاحتفال، والتذكير بنعمة الله ووجوب شكرها.

﴿قَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مُنَزِّلُهَا عَلَیۡكُمۡۖ فَمَن یَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّیۤ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا لَّاۤ أُعَذِّبُهُۥۤ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ دلالة أن الحساب على قدر النعمة، وعلى قدر المعرفة، فلما أصبح الغيب عند هؤلاء شهادة بنزول المائدة التي سألوها من السماء، أصبح الإنكار محض عنادٍ ومكابرةٍ لا شبهة فيه لجهلٍ، ولا لغفلةٍ.

﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ﴾ تفويضُ الأمر إلى الله، وفيه روح الشفاعة وحسن الطلب، كأنه يقول: إنهم عبادك يا ربِّ، وأنت أَولَى بهم مني ومن أنفسهم.

﴿وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ كأنه يقول: أنت الغنيُّ عن معاقبتهم، وغفرانك لهم غفران العزيز المتفضِّل، وفي هذا نوعٌ من التذلُّل في الطلب، وهو مظنَّة الاستجابة، ولولا هذا المعنى الدقيق لكان الأنسَب أن يقول: إن تغفِر لهم فإنك غفورٌ رحيمٌ، والله أعلم.