سورة المائدة تفسير مجالس النور الآية 15

یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَعۡفُواْ عَن كَثِیرࣲۚ قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَـٰبࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٥﴾

تفسير مجالس النور سورة المائدة

المجلس السابع والأربعون: ميثاق الله السابق لأهل الكتاب


من الآية (12 - 26)


بعد إتمام النعمة وإكمال الدين، والدعوة إلى الوفاء بالعقود، والتذكير بميثاق الله لهذه الأمة المحمديَّة ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمِیثَـٰقَهُ ٱلَّذِی وَاثَقَكُم بِهِۦۤ﴾، جاء التذكير بميثاق الله السابق مع بني إسرائيل: ﴿وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ ثم ميثاقه تعالى مع النصارى: ﴿وَمِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۤ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَهُمۡ﴾.

وفي هذا تعليمٌ للمسلمين بأخبار القوم وتجربتهم في حمل الأمانة، وفيه تحذيرٌ من الوقوع فيما وقعوا فيه، ويمكن تلخيص التجربتين السابقتين بالآتي:

أولًا: نصَّ الميثاق على الإيمان بالله ورسله، وإفراد الله بالعبادة، وتقديم الخير للناس، والوقوف مع الأنبياء وتعظيمهم ﴿لَىِٕنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَیۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِی وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا﴾.

ثانيًا: تضمَّن الميثاق إلزامهم بدعوة النبيِّ الخاتم ورسالته الخاتمة: ﴿یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَعۡفُواْ عَن كَثِیرࣲۚ قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَـٰبࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٥﴾ یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَ ٰ⁠نَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ﴾، ﴿یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةࣲ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاۤءَنَا مِنۢ بَشِیرࣲ وَلَا نَذِیرࣲۖ﴾.

ثالثًا: وعَدَهم الله إنْ هم وفُّوا بميثاقهم بأن يكون الله معهم تأييدًا ونصرةً ﴿وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مَعَكُمۡۖ﴾ وأنه سيكفِّر عنهم سيِّئاتهم ويدخلهم جنَّاته ﴿لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ﴾.

رابعًا: تضمَّن الوعد أيضًا التمكين لبني إسرائيل في الأرض المقدَّسة إنْ هم وفُّوا بعهودهم، وتمسَّكوا بميثاقهم ﴿یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِینَ﴾.

خامسًا: أن الله قد وفَّى بوعده لبني إسرائيل في مراحل محددةٍ من مسيرتهم بقَدر ما كان هناك التزام من طرفهم ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.

سادسًا: أن بني إسرائيل قد نقضوا ميثاقهم فاستحقوا الطرد ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةࣰۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ﴾.

سابعًا: أنهم تقاعَسُوا عن نصرة الحقِّ وخذَلوا أنبياءَهم، فحَرَمَهم الله من التمكين في الأرض ﴿قَالُواْ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُواْ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾، ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ ﴾.

ثامنًا: أنَّ بعضَ النصارى قد خرَجوا عن الدين، وكفَروا بالله وأشركوا به ما لم ينزل به عليهم سلطانًا ﴿لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۖ﴾.

تاسعًا: أن الميثاق إنما هو مسؤوليَّةٌ وأمانةٌ، وليس فيه فُسحة للمحاباة، أو تمييز عنصرٍ على آخرٍ ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَــٰۤـؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّــٰۤـؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُـمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ﴾ وفي هذا تنبيهٌ لأمة الإسلام لا تَخفَى دلالته.


﴿ٱثۡنَیۡ عَشَرَ نَقِیبࣰاۖ﴾ نوع من التنظيم لإدارة المجتمع، والنقباء هم القادة الذين يتولون أمر مَن تحت أيديهم.

﴿وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ﴾ أي: عظَّمتُمُوهم وأيَّدتُمُوهم ونصَرتُمُوهم.

﴿وَنَسُواْ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ﴾ النسيانُ هنا عن إهمالٍ أو عن قصدٍ، وهو سلوكٌ معهودٌ في بني إسرائيل يؤمنون بما يروق لهم، ويُهمِلُون ما يثقل عليهم أو يعترض شهواتهم وطموحاتهم.

﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ أصلٌ في أدب التعامل مع المخالفين ولو كانوا على دينٍ آخر.

﴿نَحۡنُ أَبۡنَــٰۤـؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّــٰۤـؤُهُۥۚ﴾ يزعم النصارى أنهم أبناء الله على المجاز من باب التودُّد والتلطُّف، وهو غير قولهم: إن عيسى ابن الله، فهم يقصدون به الحقيقة المعروفة، وقد أخطأوا في الأولى وكفروا في الثانية.

﴿وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ﴾ هذا دَيدَنُ الشعوب المريضة، والتي تتَّكِلُ في كلِّ شؤونها على الأماني وانتظار الفرج من الغير، أنهم يُمنُّون أنفسهم بأن تأتي قوة لتطرد هؤلاء الجبارين بعيدًا عن الأرض المقدسة، ثم يقال لهم: تفضَّلوا، وكان عاقبة هذا التِّيه أربعين سنة.

﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا﴾ أي: يخافون الله، فأنعم الله عليهما باليقين والحكمة.

﴿ٱدۡخُلُواْ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ﴾ أي: اقتحموه بقوَّة، فالاقتحام دليل العزم والقوة، وهو - لا شكَّ - من أهم أسباب النصر.

﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ أي: أن الله عاقبهم على جُبنهم وخذلانهم لأنبيائهم بأنْ حالَ بينهم وبين الأرض المقدسة أربعين سنة حتى انقضى ذلك الجيل. والتِّيهُ الضياعُ والحيرة والشتات.

﴿فَلَا تَأۡسَ﴾ لا تَأسَفْ عليهم ولا تحزن.