الحياة الآمنة المستقرة غاية كبرى للتشريع الإسلامي، وهي الأساس الذي تستند إليه المجتمعات البشريَّة في نهضتها وتطوُّرها، والسياق القرآني هنا يشير إلى هذه الحقيقة، فالميثاق الذي واثق الله به هذه الأُمّة لتكون الأمينة على رسالة الله، وتقديم الخير والسعادة للعالمين كلِّ العالمين لا يمكن الوفاء به وبالتزاماته دون تحقُّق الأمن والاستقرار؛ فالأُمَّة المضطربة لا تحمل رسالة ولا تفِي بميثاق.
وقد جاءت هذه الآيات لتضَع التصوُّرَ الكلِّي لهذه الحقيقة، ثم تُفصِّل في بعض التشريعات الأمنيَّة، وكما يأتي:
أولًا:
﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾ هذه هي القاعدة الكليّة التي تعكس روح التشريع الإسلامي وغاياته الكبرى، فالحياةٌ مطلبٌ بحدِّ ذاتها، وحياةُ الفرد صورةٌ لحياة المجتمع، وانتهاكُ حياته إنما هو انتهاكٌ لحياة المجتمع كلِّه
﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا﴾ وقد جاءت هذه القاعدة في سياقٍ تاريخيٍّ متصلٍ بنشأة الإنسان الأولى على هذه الأرض، وقصة ابنَيْ آدم إيذانًا بأن هذه الحقيقة ثابتة من ثوابت الحياة، وثابتة من ثوابت الدين كذلك.
ثانيًا: إن الحفاظ على حياة الفرد أصل، وإن الاستثناء وارد في حال أن حياة هذا الفرد أصبحت مصدر خطر مباشر لحياة الآخرين
﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ وهذا تمهيدٌ مناسبٌ للتشريعات الحاسِمة الآتية.
ثالثًا: حدُّ الحرابة، وهو صورةٌ من صور الاستثناء؛ فالنزعة الإجراميَّة التي تدفع شخصًا ما أو مجموعة أشخاصٍ لضرب النقاط الرخوة في حياة المجتمع؛ كالاعتداء على قوافل المسافرين في الطرق الخارجيَّة والتي يصعب على الدولة تأمينها بالكامل دون وجود ثغرةٍ ينفذ منها أولئك المجرمون لا بُدَّ من التعامل معها بحزمٍ وقوَّةٍ
﴿إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُاْ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤاْ أَوۡ یُصَلَّبُوۤاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ﴾.
وهذه العقوبات التخييرية بين التغريب - وهو الحد الأدنى -، والقتل - وهو الحد
الأعلى - ليس تخييرًا مزاجيًّا، وإنما هو المساحة المتاحة للمقنِّن، بمعنى: أن هذه العقوبات ينبغي أن تُحدَّد بقوانين مُلزِمة وواضحة، والتقنين مهمة المؤسسات التشريعيّة في الدولة المسلمة؛ لأن هذه الجريمة ليست على صفةٍ واحدةٍ، فهناك من يقتل ويسلب المال، وهناك من يكتفي بالمال، وهناك الزعيم الذي يتولَّى كبر الجريمة تخطيطًا وتنفيذًا، وهناك المُغرَّر بهم والملبَّس عليهم بالشعارات والمقولات الدينيَّة أو الثوريَّة، من هنا كان لا بُدَّ من توسيع خيارات العقوبة، والله أعلم.
رابعًا: إن حدَّ الحرابة بعقوباته المتنوعة كلها إنما يكون بحقِّ المجرم الذي لم يعلن توبته ولم يستسلم لسلطان الدولة قبل إلقاء القبض عليه، فإن ثبَتَت توبته سقط عنه الحدُّ
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ ويبقى عليه الحقُّ الشخصيُّ إن كان قد قتَلَ أو جرَحَ أو نهَبَ، وهذا بابٌ آخر.
خامسًا: إن الجهاد الحقَّ الذي هو في سبيل الله إنما هو الجهاد الذي يحفظ للناس حياتهم وأمنهم ودينهم واستقرارهم
﴿وَجَـٰهِدُواْ فِی سَبِیلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ وهذا هو سرُّ ذكر الجهاد بعد قاعدة:
﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾ وفي ثنايا التشريعات الأمنيَّة، وفيه إشارةٌ لا تخفى إلى أن تعقُّب المجرمين وملاحقتهم هو جهادٌ أيضًا.
سادسًا: إن الكفر بالله والبُعد عن هَدي النبوَّة هو الذي يقودُ إلى الجريمة، ومن هنا جاء توصيفُ العدوان على المجتمع بأنه عدوان على الله ورسوله
﴿إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُاْ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ ثم عقَّب على هذا بقوله:
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِیَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ﴾.
وفي الآية إشارةٌ قويَّة إلى أولئك المجرمين الذين ينتهكون أمن المجتمع لتحقيق شهواتهم في جمع المال الحرام بالحرابة أو السرقة، فالله يُذكِّرهم أن هذا المال سيكون وبالًا عليهم، وسيتمنَّون لو أن الله يقبله منهم ثمنًا لخلاصهم وفِكاكهم، وهذا عندي يُشبه قوله تعالى:
﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ ﴿٢﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3]، بمعنى: أن هذا هو شأنُ الكافرين.
أما المؤمنون بالله واليوم الآخر فينبغي أن يكون لهم شأنٌ آخر؛ لأن نظرتهم أوسع من الدنيا وما فيها، فالإيمان ضمانة لأمن المجتمع، فإن وجدت منتسبًا إلى الإيمان يفعل ما يفعله الآخرون فإنما هو مُدَّعٍ كاذبٌ، أو جاهلٌ ينقصه التعليم والتكوين.
سابعًا: حدُّ السرقة
﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤاْ أَیۡدِیَهُمَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلࣰا مِّنَ ٱلـلَّـهِۗ﴾ وهذا الحدُّ لم يُشرَّع عقوبةً على أخذ المال كما يتوهَّم المتوهمون، فالمال مهما كان لا يستوجب قطع اليد، فالإنسان أكرم عند الله من ذلك؛ ولذا لا تقطع اليد في المال السائب مهما بلغ، ولا فيمن دخل الدار بإذن أهلها، ولا في العامل المأذون في التصرُّف، فهذه اختلاساتٌ تستوجب التأديب وردَّ الحقوق لأصحابها لا غير.
أما السرقة فهي انتهاكُ الحرمة وأمن البيوت، وهي شبيهةٌ بالحرابة من حيث تقصُّدها للمناطق الرخوة في حياة المجتمع، فالدولة لا تستطيع أن توفِّر حراسةً لكلِّ بيتٍ، فمن تعمَّدَ انتهاك البيت وكسر أبوابه ونوافذه بسلاح أو بغيره فقد انتهك أمنَ المجتمع، وحالة واحدة من هذا النوع تجعل المجتمع كلَّه في قلقٍ واضطرابٍ، وتجعل الدولة كلها في حالة توتُّر واستنفار، هذه هي السرقة التي تستوجِب الحدَّ.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أن إقامة الحد لا تكون إلا بقضاءٍ وبيِّنةٍ ودولةٍ مستقرةٍ وقائمةٍ بواجباتها في التربية والتعليم، وسنِّ القوانين ونشرها بين الناس، وسدِّ الحاجات، وضمان الكفايات؛ بحيث لا يبقى عذرٌ لمجرم بنحو جهلٍ أو ضرورة، فإن قصَّرَت الدولة في ذلك، انتقل الحدُّ إلى التعزير والتأديب بالطرق المناسبة؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، ومنها: الجهل الشائع، والفاقة العامة، والله أعلم.