سورة المائدة تفسير مجالس النور الآية 40

أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ یُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُ وَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ﴿٤٠﴾

تفسير مجالس النور سورة المائدة

المجلس الثامن والأربعون: الأمن والحياة


من الآية (27- 40)


الحياة الآمنة المستقرة غاية كبرى للتشريع الإسلامي، وهي الأساس الذي تستند إليه المجتمعات البشريَّة في نهضتها وتطوُّرها، والسياق القرآني هنا يشير إلى هذه الحقيقة، فالميثاق الذي واثق الله به هذه الأُمّة لتكون الأمينة على رسالة الله، وتقديم الخير والسعادة للعالمين كلِّ العالمين لا يمكن الوفاء به وبالتزاماته دون تحقُّق الأمن والاستقرار؛ فالأُمَّة المضطربة لا تحمل رسالة ولا تفِي بميثاق.

وقد جاءت هذه الآيات لتضَع التصوُّرَ الكلِّي لهذه الحقيقة، ثم تُفصِّل في بعض التشريعات الأمنيَّة، وكما يأتي:

أولًا: ﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾ هذه هي القاعدة الكليّة التي تعكس روح التشريع الإسلامي وغاياته الكبرى، فالحياةٌ مطلبٌ بحدِّ ذاتها، وحياةُ الفرد صورةٌ لحياة المجتمع، وانتهاكُ حياته إنما هو انتهاكٌ لحياة المجتمع كلِّه ﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا﴾ وقد جاءت هذه القاعدة في سياقٍ تاريخيٍّ متصلٍ بنشأة الإنسان الأولى على هذه الأرض، وقصة ابنَيْ آدم إيذانًا بأن هذه الحقيقة ثابتة من ثوابت الحياة، وثابتة من ثوابت الدين كذلك.

ثانيًا: إن الحفاظ على حياة الفرد أصل، وإن الاستثناء وارد في حال أن حياة هذا الفرد أصبحت مصدر خطر مباشر لحياة الآخرين ﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ وهذا تمهيدٌ مناسبٌ للتشريعات الحاسِمة الآتية.

ثالثًا: حدُّ الحرابة، وهو صورةٌ من صور الاستثناء؛ فالنزعة الإجراميَّة التي تدفع شخصًا ما أو مجموعة أشخاصٍ لضرب النقاط الرخوة في حياة المجتمع؛ كالاعتداء على قوافل المسافرين في الطرق الخارجيَّة والتي يصعب على الدولة تأمينها بالكامل دون وجود ثغرةٍ ينفذ منها أولئك المجرمون لا بُدَّ من التعامل معها بحزمٍ وقوَّةٍ ﴿إِنَّمَا جَزَ ٰ⁠ۤؤُاْ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤاْ أَوۡ یُصَلَّبُوۤاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ﴾.
وهذه العقوبات التخييرية بين التغريب - وهو الحد الأدنى -، والقتل - وهو الحد الأعلى - ليس تخييرًا مزاجيًّا، وإنما هو المساحة المتاحة للمقنِّن، بمعنى: أن هذه العقوبات ينبغي أن تُحدَّد بقوانين مُلزِمة وواضحة، والتقنين مهمة المؤسسات التشريعيّة في الدولة المسلمة؛ لأن هذه الجريمة ليست على صفةٍ واحدةٍ، فهناك من يقتل ويسلب المال، وهناك من يكتفي بالمال، وهناك الزعيم الذي يتولَّى كبر الجريمة تخطيطًا وتنفيذًا، وهناك المُغرَّر بهم والملبَّس عليهم بالشعارات والمقولات الدينيَّة أو الثوريَّة، من هنا كان لا بُدَّ من توسيع خيارات العقوبة، والله أعلم.

رابعًا: إن حدَّ الحرابة بعقوباته المتنوعة كلها إنما يكون بحقِّ المجرم الذي لم يعلن توبته ولم يستسلم لسلطان الدولة قبل إلقاء القبض عليه، فإن ثبَتَت توبته سقط عنه الحدُّ ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ ويبقى عليه الحقُّ الشخصيُّ إن كان قد قتَلَ أو جرَحَ أو نهَبَ، وهذا بابٌ آخر.

خامسًا: إن الجهاد الحقَّ الذي هو في سبيل الله إنما هو الجهاد الذي يحفظ للناس حياتهم وأمنهم ودينهم واستقرارهم ﴿وَجَـٰهِدُواْ فِی سَبِیلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ وهذا هو سرُّ ذكر الجهاد بعد قاعدة: ﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾ وفي ثنايا التشريعات الأمنيَّة، وفيه إشارةٌ لا تخفى إلى أن تعقُّب المجرمين وملاحقتهم هو جهادٌ أيضًا.

سادسًا: إن الكفر بالله والبُعد عن هَدي النبوَّة هو الذي يقودُ إلى الجريمة، ومن هنا جاء توصيفُ العدوان على المجتمع بأنه عدوان على الله ورسوله ﴿إِنَّمَا جَزَ ٰ⁠ۤؤُاْ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ ثم عقَّب على هذا بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِیَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ﴾.
وفي الآية إشارةٌ قويَّة إلى أولئك المجرمين الذين ينتهكون أمن المجتمع لتحقيق شهواتهم في جمع المال الحرام بالحرابة أو السرقة، فالله يُذكِّرهم أن هذا المال سيكون وبالًا عليهم، وسيتمنَّون لو أن الله يقبله منهم ثمنًا لخلاصهم وفِكاكهم، وهذا عندي يُشبه قوله تعالى: ﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ ﴿٢﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3]، بمعنى: أن هذا هو شأنُ الكافرين.
أما المؤمنون بالله واليوم الآخر فينبغي أن يكون لهم شأنٌ آخر؛ لأن نظرتهم أوسع من الدنيا وما فيها، فالإيمان ضمانة لأمن المجتمع، فإن وجدت منتسبًا إلى الإيمان يفعل ما يفعله الآخرون فإنما هو مُدَّعٍ كاذبٌ، أو جاهلٌ ينقصه التعليم والتكوين.

سابعًا: حدُّ السرقة ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤاْ أَیۡدِیَهُمَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلࣰا مِّنَ ٱلـلَّـهِۗ﴾ وهذا الحدُّ لم يُشرَّع عقوبةً على أخذ المال كما يتوهَّم المتوهمون، فالمال مهما كان لا يستوجب قطع اليد، فالإنسان أكرم عند الله من ذلك؛ ولذا لا تقطع اليد في المال السائب مهما بلغ، ولا فيمن دخل الدار بإذن أهلها، ولا في العامل المأذون في التصرُّف، فهذه اختلاساتٌ تستوجب التأديب وردَّ الحقوق لأصحابها لا غير.
أما السرقة فهي انتهاكُ الحرمة وأمن البيوت، وهي شبيهةٌ بالحرابة من حيث تقصُّدها للمناطق الرخوة في حياة المجتمع، فالدولة لا تستطيع أن توفِّر حراسةً لكلِّ بيتٍ، فمن تعمَّدَ انتهاك البيت وكسر أبوابه ونوافذه بسلاح أو بغيره فقد انتهك أمنَ المجتمع، وحالة واحدة من هذا النوع تجعل المجتمع كلَّه في قلقٍ واضطرابٍ، وتجعل الدولة كلها في حالة توتُّر واستنفار، هذه هي السرقة التي تستوجِب الحدَّ.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أن إقامة الحد لا تكون إلا بقضاءٍ وبيِّنةٍ ودولةٍ مستقرةٍ وقائمةٍ بواجباتها في التربية والتعليم، وسنِّ القوانين ونشرها بين الناس، وسدِّ الحاجات، وضمان الكفايات؛ بحيث لا يبقى عذرٌ لمجرم بنحو جهلٍ أو ضرورة، فإن قصَّرَت الدولة في ذلك، انتقل الحدُّ إلى التعزير والتأديب بالطرق المناسبة؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، ومنها: الجهل الشائع، والفاقة العامة، والله أعلم.


﴿إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانࣰا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ یُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡـَٔاخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ﴾ دلالة أن الحسدَ دافعٌ للتباغض والمعاداة وطريقٌ للجريمة، وظاهر الآية أنه حسدٌ دينيٌّ، فالذي خسر قربانه ولم يتقبَّله الله منه حسَدَ أخاه فتوعَّده بالقتل حتى قتله.
والمفسِّرون يذكرون قصة ما قبل القربان، وفيها حسدٌ آخرٌ، وهو حسدٌ دنيويٌّ؛ إذ أصل الخلاف بين الأخَوَين كان على الزواج؛ حيث أصرَّ القاتل على الزواج من توأَمَته المولودة معه ولو كانت مُحرَّمة عليه، وعلى هذا يكون الحسَدُ بكلِّ صوره دافعًا أساسًا من دوافع الجريمة، وهذا هو الاستنباط العملي الأهم، والله أعلم.

﴿لَىِٕنۢ بَسَطتَ إِلَیَّ یَدَكَ لِتَقۡتُلَنِی مَاۤ أَنَا۠ بِبَاسِطࣲ یَدِیَ إِلَیۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَ﴾ أمسك عن قتل أخيه مع أنه كان في حالة الدفاع عن النفس، ولكنه استعظَمَ القتل، وفيه دلالة أن التديُّن الحقَّ يحُول دون الجريمة، وأن الديِّن الحقَّ هو المؤتمن على هذه الحياة، وأن جُنُوح الإنسان إلى الدم الحرام سببُه قلَّةُ التديُّن، أو فهمٌ مقلوبٌ وشاذٌّ لطبيعة الدين.

﴿إِنِّیۤ أُرِیدُ أَن تَبُوۤأَ بِإِثۡمِی وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلنَّارِۚ﴾ يحذِّر أخاه من أنه سيتحمَّل إثمَ قتله مع ما عليه من إثمٍ سابقٍ، وقوله: إني أريد، يعني: أنه إنما أمسك عن المقاتلة والمدافعة مع قدرته؛ لأنه لا يريد أن يتحمل إثمًا، كأنَّه يدعو أخاه ليتَّعِظ ويقتَدِي به، وليس فيه معنى الرغبة أن يدخله النار، إذ لا مصلحة له في هذا، والله أعلم.

﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابࣰا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ﴾ حيث لم يكن القاتل يعرف كيف يتعامل مع جثَّة القتيل، وفيه أنه كان أوَّل آدمي يموت على هذه الأرض، وفيه إمكانية تعلُّم البشر من الكائنات الأخرى كما تعلَّمُوا الدفء بجلود الحيوانات والزينة بريش الطيور.

﴿فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ﴾ الأقرب أنه ندم على قتل أخيه؛ لأن جهله بالدفن لا يستوجب الندم، وندم القاتل بعد سُكُون الغضب وخفوت جمرة الحسَد أمرٌ معهود في البشر، يؤكد هذا قوله: ﴿فَأُوَ ٰ⁠رِیَ سَوۡءَةَ أَخِیۖ﴾ فتذكُّرُه لرابطة الأخوة في هذا الموضع قرينة معتبرة، وربما رأى في الغراب وهو يدفِن غرابًا مثله ما أثار فيه هذه الفطرة، والله أعلم.

﴿وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ﴾ إشارةٌ أن رسالة الرسل تعزِّز معنى الحياة، وتدعو لصيانتها وحمايتها.

﴿یُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ النفي عقوبةٌ وقائيّةٌ تتحقَّق بالتغريب أو بالحبس، لمنع المجرم من استغلال حريَّة الحركة والتنقل لتنفيذ أغراضه العدوانية.

﴿وَٱبۡتَغُوۤاْ إِلَیۡهِ ٱلۡوَسِیلَةَ﴾ دلالةٌ أن العبد لا يصِل إلى مرضاة ربِّه بالأماني، بل لا بُدَّ من اتخاذ الوسائل التي تُوصِلُه إلى ذلك، وهي اجتناب المحظور، وامتثال المأمور، والصبر على المقدور، ومنها محبَّة الصالحين وطلب الدعاء منهم، فكلُّ هذا من العمل المُنجي من عذابه، والموصل إلى رضوانه.

﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ﴾ قدَّم الذَّكر على الأنثى؛ لأنه أجرأ على السرقة، وهنا إشارةٌ خفيَّةٌ إلى أن السرقة الموجبة للحدِّ هي سرقة اختراق الحرز وانتهاك الحرمة، وليست الاختلاس الخفي الذي يسهل على كل أحد.

﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَتُوبُ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾ دلالةٌ على سعة رحمة الله، حتى مع السارق والمحارب، وهذا ترغيب للمجتمع أن يحتضنه ويتقبله ويغيِّر نظرته، بشرط التوبة إلى الله، وتعويض الضرر، وإرجاع الحقوق، وهذا هو الإصلاح.