الاحتِكامُ إلى الدين فرع الإيمان به، ودعوى الإيمان مع رفض الحكم به دعوى باطلة، وأهل الكتاب يدَّعون الإيمان بالله وبأنبيائه الذين بلّغوهم رسالته وشريعته، بَيْدَ أنهم في كلِّ مرَّةٍ يرفضون حكم الله حيثما يكون هذا الحكم بخلاف شهواتهم.
وقد سجَّل القرآن هذا عنهم في أكثر من موضع، وقد مرَّ بنا في سورة
البقرة:
﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ﴾ [البقرة: 85].
وهنا يتكرَّرُ النَّهج نفسه مع رسول الله
ﷺ، فهم يحتَكِمُون إليه طلبًا للحكم الأخف والأيسر عليهم، والأقرب لأهوائهم، فإن كان حكمه بخلاف ذلك رفَضُوه ولو كان مثل ما عندهم.
وقد جاء في «الصحيحين»: (أنّ اليهود جاءوا إلى رسول الله
ﷺ فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأةً زنَيَا، فقال لهم رسول الله
ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟»، فقالوا: نفضَحهم ويُجلَدُون، فقال عبد الله بن سلام: كذَبتُم، إن فيها الرَّجْم، فأتَوا بالتوراة فنَشَرُوها، فوَضَعَ أحدُهم يدَه على آية الرَّجْم، وجعَلُوا يقرَؤُون ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفَع يَدَك، فرفع يَدَه، فإذا فيها آية الرَّجْم، فقال: صَدَقَ يا محمد، فيها آية الرَّجْم، وأمر بهما النبي
ﷺ فرُجِمَا).
وكانت هذه الحادثة مناسبةً لشرح موقف الكتابِيِّين من مسألة الاحتكام للشريعة التي يدَّعون الإيمان بها:
أولًا: أنهم يدَّعُون الإيمان بألسنتهم لكن قلوبهم تنكر ذلك
﴿مِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ والظاهر من السياق أن هؤلاء هم اليهود، وبدلالة قوله تعالى الآتي:
﴿وَكَیۡفَ یُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِیهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ یَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۚ وَمَاۤ أُوْلَــٰۤـىِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ فهم يدَّعون الإيمان بالتوراة ثم يتنكَّرون لما جاء فيها.
ثانيًا: أن كفرهم بالتوراة قد جاء من طريقَين: تحريفِهم لكلام الله، وانتقائِهم الأحكام التي تروق لهم
﴿یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ یَقُولُونَ إِنۡ أُوتِیتُمۡ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ﴾.
ثالثًا: أنهم لا يبالون بالكذب وأكل الحرام
﴿سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ﴾ وهذه مخالفاتٌ صريحةٌ للتوراة التي يدّعون الإيمان بها.
رابعًا: أنهم لو حكَّموا التوراة وحكَّم النصارى الإنجيل من غير تحريفٍ ولا انتقاءٍ لهُدُوا إلى الحقِّ وإلى الصراط المستقيم
﴿إِنَّـاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ﴾،
﴿وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِیهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ﴾،
﴿وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡإِنجِیلَ فِیهِ هُدࣰى وَنُورࣱ﴾،
﴿وَلۡیَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِیلِ بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِیهِۚ﴾.
خامسًا: أنهم لم يكتفوا بتحريف كتابهم والتنكُّر لبعض ما فيه من عقائدٍ وشرائعٍ، بل هم يسعَون لصرف المسلمين عن كتابهم
﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَـتَّـبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن یَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ﴾.
سادسًا: أن هذا التلاعب بالدين، ومنهجهم الانتقائي فيه يجعلهم أقرب إلى الجاهلية
﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ یَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمࣰا لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ﴾ لأن الجاهليَّة تصنع دينها وأحكامها وفق هوى الكبراء والزعماء، وهؤلاء كذلك، ومن ثَمَّ استحقُّوا جميعًا هذه الأحكام الحاسِمة مجتمعةً أو متفرقةً
﴿وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَــٰۤـىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾،
﴿وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَــٰۤـىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾،
﴿وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَــٰۤـىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾.
ولا شكَّ أن السِّياق لا يتناول إلا المُتلاعِبِين بدين الله تحريفًا وزيادةً ونقصًا وانتقاءً وإخفاءً بطريق القصد والاختيار، أما العُصاة والخائفون من تطبيق الشريعة لضعفهم، وغلبة عدوهم، والخاضعون لسلطانٍ غير سلطان المسلمين فهؤلاء لهم بابٌ آخرٌ من الأحكام، ولا يجوز إدراجهم في هذا السِّياق بحال.
سابعًا: أنهم على ما هم عليه من كفرٍ أو ضلالٍ لا ينبغي التعامل معهم إلا بالعدل
﴿سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَاۤءُوكَ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن یَضُرُّوكَ شَیۡـࣰٔاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ﴾.